الضوء الخافت للمصباح في يد أريان كان يرقص على الجدران المظلمة، بينما كان يسير في الممر الضيق. الجو كان خانقًا، وكأن الهواء نفسه قد فقد حيويته منذ زمن طويل. عتمة المكان كانت عميقة، تلتهم أي بصيص أمل يظهر في الأفق. كل خطوة كانت تحمل شعورًا بالغموض، وكأن الأرض تحت قدميه كانت تخفي أسرارًا قديمة لا تُقال.
كان الممر، الذي بدا أنه يمتد إلى الأبد، يحتوي على جدران مهدمّة، مغطاة بطبقة من الطحالب والزواحف الصغيرة التي تلتف حول الحواف في صمت غريب. كان السقف منخفضًا، كأن القبو تحت الأرض يحاول أن يضغط على أريان من كل زاوية، لكنه لم يكن وحده في هذا المكان. كان الكتاب في يده يعكس الضوء بحذر، وكأن الكتاب نفسه يحمل في طياته بعض الأسرار التي لا يمكن أن تُكشف إلا في اللحظات الحرجة.
أصبح في قلب هذا الممر مع كل خطوة يتقدم بها أكثر شعورًا بأن المكان نفسه يراقب. كأن تلك الجدران اللامبالية كانت تهمس له بكلمات غير مفهومة، كما لو أن القبو كان يحمل ذاكرة قديمة، مليئة بالأحداث التي تخلو من أي تبرير.
أصبح عقله مشغولًا بتلك الكائنات التي قابلها في الفصل السابق، وتلك الكلمات التي تركت آثارًا عميقة في ذهنه. "الكتاب ليس مجرد أداة، بل هو مفتاح." كانت الكلمات تتردد في ذهنه مثل أصداء في غرفة فارغة. لكن مفتاح ماذا؟ وماذا كانت تلك القوى التي أخبره عنها الكائن؟ هل كان حقًا مستعدًا لهذا؟
كان يتنفس بعمق بينما يواصل السير، يتحاشى النظر إلى الوجوه المشوهة المرسومة على الجدران، على الرغم من أن عيناه كانت تلاحقها قسرًا. كانت تلك الوجوه مظلمة، شبه مخفية في الظلال، وتبدو وكأنها تطلب منه أن يتوقف، لكن أريان كان يعلم أن التوقف قد يعني الهلاك.
ثم توقف فجأة. لم يكن صوت خطواته هو الذي جعله يتوقف، بل الشعور الغريب الذي بدأ يزداد قوة. كان هناك شيء في الهواء، شيئًا يشبه الذبذبات الخفية التي تتحرك في أذنه. استدار ببطء، وعيناه تلتقطان شيئًا ما في الظلال العميقة. لم يكن هناك شخص، لكن كان هناك شيء آخر… شيء يراقب.
كما لو أن الممر نفسه قد بدأ في الحركه، بدأ الصوت يزداد وضوحًا. كانت همسات غير مفهومة، كلمات تمزج بين الألم والفرح، تنبعث من الجدران نفسها. حاول أريان التنفس ببطء كي يحافظ على هدوئه، لكنه شعر بشيء يضغط على صدره. كان الهواء مشبعًا بشيء ثقيل، وكأن كائنًا قديمًا يستجمع قوته في هذا المكان المهدم.
"ماذا تريدون؟" همس أريان، لكن صوته كاد يضيع في هذا الجو الثقيل.
فجأة، ظهرت أمامه صورة مظلمة تتشكل في الظلال، وكأنها جزء من الظلام ذاته. شيئًا غير بشري، عيونها كانت كالعتمة العميقة التي لا نهاية لها. وعلى الرغم من أن تلك الصورة كانت مجرد خيال ملامح، إلا أنها كانت تحمل شيئًا مألوفًا. كان الصوت ذاته، همسات غير مفهومة تتصاعد من داخل هذا الكائن.
"أنت الآن في المكان الذي لا تستطيع الهروب منه." قالت الصورة، وهو صوت ضعيف لكنه حمل في طياته حزمًا. "كل خطوة تخطوها هي جزء من مشيئتنا، ونحن نراقبك."
لم يستطع أريان إخفاء تردده. كان يعلم أن هذا المكان مليء بالأسرار المظلمة، لكنه كان لا يزال في حاجة لفهم المزيد. "من أنتم؟ وما الذي تريدونه مني؟"
ابتسمت الصورة، وبدأت تتحلل إلى طيف من الظلال المتناثرة في الممر. "نحن من نعيش بين العوالم. نحن الذين لا تُذكر أسماؤنا في أي كتاب. نحن الشاهدون على الزمن الذي نسيه الجميع."
"لكن ماذا يعني هذا؟" سأل أريان، والكتاب في يده أصبح أشد ثقلًا من قبل. "هل أنتم من أرسلني إلى هنا؟"
"لا." قالت الصورة بصوت هادئ، محملة بالكثير من الغموض. "لقد أتيت هنا بمحض إرادتك، أريان. أنت هنا لاكتشاف ما لم يكن أحد قادرًا على فهمه. هذه ليست مجرد رحلة إلى الأعماق، بل إلى ذاتك."
فجأة، تحول الممر أمامه إلى دوامة من الظلال المتناقضة. كان المكان يتحرك، يتحول حوله. كان الجدران تصبح لزجة، والأرض تهتز تحت قدميه. لم يعد يستطيع معرفة ما إذا كان يتنقل في الزمان أو المكان. كان الصوت في الخلفية يتزايد، يشتد مع كل ثانية، وكأن كل شيء في هذا المكان يريد أن يسحب أريان إلى أعماقه.
ثم توقفت الحركة فجأة.
وقف أريان في مكانه، وعيناه واسعة. كان المكان هادئًا الآن، لا شيء سوى صوت أنفاسه وهو يتنفس ببطء. كان يعلم أن كل ما مر به حتى الآن لم يكن سوى بداية. كانت هذه التجربة مجرد مفتاح لفتح أبواب أخرى. أبواب ربما لا يستطيع العودة منها.
وفي تلك اللحظة، شعر بنوع من الراحة والضغط المتواصل. لم يكن بمقدوره سوى أن يمضي قدمًا.
نظرت عيناه إلى الكتاب الذي كان في يده. في هذه اللحظة، شعر بشيء جديد، شيء غريب. كأن الكتاب كان يقول له: الوقت قد حان لكي تعلم من أنت، ومن أين أتيت، ولماذا تقاتل.
62تم تحديث
Comments