كان الليل قد سقط بظلاله الثقيلة على الأرض. كل شيء كان هادئًا، لكن أريان كان يشعر في أعماقه بأن هذا الهدوء ليس سوى استعارة لشيء أعمق. كان الجو باردًا، والرياح تعصف بين الأشجار التي خلت من الأوراق، فقط الأغصان الجافة تتحرك، مما يخلق صوتًا أشبه بالهمسات التي يتبادلها شبحان. ضوء القمر كان ضعيفًا، لكنه كافٍ لإضاءة الطريق الضيق الذي كان يسير فيه.
فيما كانت قدماه تلامس الأرض بخفة، بدأ يلاحظ شيئًا غريبًا: كانت الأرض نفسها تبدو كما لو أنها تحمل آثارًا من الزمن. جروح عميقة تمتد في الأسطح، شقوق كما لو كانت الأرض قد تألمت ذات مرة. وكأن كل خطوة يخطوها كان يحفر في ذاكرة المكان نفسها. كانت أشباح الماضي تحوم في كل مكان.
أصبح الكتاب في يده أشد ثقلاً مع مرور الوقت. في البداية كان مصدرًا للقوة والإلهام، ولكنه بدأ الآن يعبئه بمزيد من الغموض. لم يكن الكتاب مجرد مرشد، بل كان ينقله إلى أعماق الظلام الذي كان يتمنى لو يهرب منه.
قبل أن يواصل خطواته، توقف. همسات آتية من أعماق الغابة أثارت شكوكه. أغمض عينيه للحظة، وتركت يده الكتاب ليحمل سيفه الذي يوشك على خوض معركة أخرى. كان يعرف أن هناك شيء يراقبه، لكن لا شيء كان ظاهرًا. أو على الأقل، لم يكن له شكل مادي.
"أريان..." جاء الصوت، ضعيفًا، وكأنه يأتي من تحت الأرض نفسها. كانت النغمة مألوفة. ليست غريبة، لكنها كانت تثير القلق في قلبه.
أدار رأسه فجأة، ورآها. نور يلمع من بين الأشجار المظلمة. كائن مغطى بثوب أسود، وجهه مخفي خلف قناع ناعم. كانت عيونه تلمع باللون الأزرق الغريب الذي لم يره من قبل. كان وجهه غير بشري، بل أقرب إلى كائنٍ قديم أتى من عالمٍ آخر.
"من أنت؟" سأل أريان، ويده تقترب من مقبض سيفه.
لكن الكائن لم يجب. فقط رفع يده ببطء، موجهًا إصبعه نحو نقطة بعيدة في الظلام، حيث كان يبدو وكأن هناك شيئًا يتحرك. ثم تحدث بصوتٍ خافت: "لقد كان عليك أن تعرف. إن كتابك لا يُرشدك فقط إلى القوة، بل هو أيضًا وسيلة للربط بين العوالم."
فجأة، تناثرت صورٌ غريبة أمام عيني أريان، وكأن عقله تم دفعه بقوة إلى عالم آخر. رأى أمواجًا من الظلام تتلاطم، ثم رأى نفسه في مكان غريب، في زاوية مظلمة، حيث كانت تلك الكائنات الضبابية تحيط به. بدا وكأنها تراقب تصرفاته عن كثب.
"هذا العالم الذي أنت فيه ليس حقيقيًا تمامًا، أريان. هو مجرد خيطٍ رفيع بين واقعين. والكتاب ليس مجرد أداة، بل هو مفتاح."
أريان شعر بشيء غريب يسري في عروقه. كان هذا الصوت، هذا الكائن، يُخبره بما كان يشك فيه طيلة الوقت. أن هذا العالم الذي كان يعيش فيه لم يكن كما يبدو. كان هناك شيء أكبر، شيء غامض يربط بين العوالم. ورغم أنه شعر بالخوف في قلبه، إلا أنه أدرك أيضًا أنه لا يمكنه الهروب من هذا المصير.
"هل هذا يعني أنني لم أكن جاهزًا؟" سأل بصوت مرتجف، رغم محاولته لتماسك أعصابه.
ابتسم الكائن بلطف. "أنت لم تكن جاهزًا لفهم الحقيقة. لكنك الآن على الطريق. لا تظن أنك ستواجه الظلام وحدك. هناك من هم في الظلال ينتظرون لحظة ضعفك."
ثم اختفى الكائن فجأة في الظلام، تاركًا أريان وحده مع أسئلته ومخاوفه. صمت مطبق، كأن الغابة نفسها كانت تبتلع كلماته. ولكن، في أعماقه، كانت هناك إجابة واحدة كان يجب أن يعرفها:
الظلام الذي يواجهه ليس مجرد عدو خارجي. هو جزء من نفسه.
نهض أريان، وهو يشعر بثقل الكتاب بين يديه، وتوجه نحو النقطة التي أشار إليها الكائن. كل خطوة كان يخطوها، كانت تأخذه أقرب إلى الحقيقة المظلمة التي كان يحاول الهروب منها.
ومع مرور الوقت، بدأت السماء تظلم أكثر. كان على أريان أن يتحرك بسرعة أكبر الآن. ما كان يخبئه هذا الظلام كان أكبر من مجرد مخلوقات من عالم آخر. كانت أرواحٌ، ذكرياتٌ، حتى قوة الزمن نفسه في انتظار أن تتحرر.
وفي لحظة ما، شعر بشيء غير متوقع. شعور بالانفصال، وكأن جزءًا منه قد انفصل عن جسده، محلقًا في مكان آخر. كانت هذه اللحظة التي اكتشف فيها أريان أنه كان عالقًا بين العالمين: بين العالم الذي يعرفه والعالم الذي لا يزال يتعلمه.
لكن ما لا يعرفه أريان بعد هو أن هناك قوى غير مرئية، كائنات قديمة، تراقب كل خطوة يخطوها. هؤلاء الكائنات لا يريدون فقط السيطرة عليه، بل يخططون لاستخدامه كمفتاح لتحرير شيء قديم، شيء قد يغير مجرى كل شيء.
والآن، أصبح أريان جزءًا من لعبة لا يفهم قواعدها بعد، لكن اللعبة بدأت تتضح له شيئًا فشيئًا.
فهل سيكون قادرًا على هزيمة الظلال، أم أنه سيصبح هو نفسه الظل القادم؟
62تم تحديث
Comments