...سقطت قطرات المطر على الحذاء الأسود. ...
...لم تكن تلك الأحذية مناسبةً للمشي في طريق ترابي. ورغم علمه بذلك، كان روبيرت يرتدي الحذاء نفسه في كل مرة يأتي فيها إلى غابة مانولي....
...لم تكن هيئة ساشا فينوش مرتبة. فقد كان المطر الغزير الذي هطل قبل قليل هو السبب في ذلك....
...كانت فتاة مانولي تشعر بمسؤوليةٍ كبيرة في أن تقوده إلى القرية، وقد انشغلت كثيراً في إيجاد الطريق أمامها، حتى أنها لم تدرك كيف تبدو في نظر الآخرين....
...مثل هذا الجهل قد يكون مدعاةً للومٍ اجتماعي....
...ورغم أن المطر بدأ يخف تدريجياً، إلا أن المجرى المائي الذي فاض بالماء كان لا يزال يجري بعنف....
...أدار روبرت ظهره للفتاة التي كانت على وشك أن تخوض في الماء الذي بلغ خصرها دون خوف. فاحمرّت وجنتا ساشا الشاحبتان....
...“أنا لستُ طفلة.”...
...كانت شفتاها الزرقاوان ترتجفان من شدة البرد. و شعرها الذي ابتلّ بالمطر وتحوّل إلى لونٍ داكن كان متدلّياً وملتصقاً بعنقها خيطاً خيطاً....
...'يا للمسكينة.'...
...الرجل الذي ألقى نظرة على جسدها المرتجف فتح فمه،...
...“نعم. تبدين كذلك.”...
...لم يمدّ روبرت ركبتيه. و أثناء انتظاره لساشا، اصطدم غصن شجرة كانت تجرفه المياه السريعة بصخرة وتحطّم بشكلٍ مروّع....
...صدر من خلفه صوت شهقة سريعة. وكانت قدم صغيرة تتحرك بتردد....
...“بسرعه، قبل أن يرتفع منسوب الماء أكثر. ساشا.”...
...قال ذلك على عجل. و كان في صوته المنخفض نبرة تعبٍ خفيفة....
...ترددت ساشا قليلاً، لكنها في النهاية اعتلت ظهره العريض....
...لم يكن وزنها عبئاً يُذكر، وحين نهض وهو يسند فخذيها، طوّقت ذراعاها النحيلتان عنقه بلطف يبعث على الدغدغة....
...حتى بعد أن عبرا الماء، لم يُنزل روبرت ساشا من على ظهره. بل تابع السير بخطواتٍ واسعة في الاتجاه الذي كانت تشير إليه....
...“الآن أنزلني من فضلكَ.”...
...لكن خطواته، التي بدت ضعف خطواتها، لم تُبدِ أي نيةٍ للتوقف....
...ترددت ساشا قليلاً، ثم همست في أذنه تطلب منه أن يُنزلها. وكان الهواء الذي لامس أذنه الحمراء دافئاً....
...وحين لم يُجب، وخزته بأصابعها في مؤخرة عنقه....
...تنهد روبرت بخفة....
...“يبدو أن ركوب الظهر يزعجكِ، لكن لا مشكلة عندكِ في أن تُظهري لي هيئتكِ المبللة من المطر، أليس كذلك؟”...
...توقفت الأطراف التي كانت تتخبط من حينٍ لآخر عن الحركة أخيرًا. ثم بدأ يتحرك بسرعةٍ أكبر بكثير مما كان عليه حين كانت ساشا تعيقه....
...مرت الأشجار المبللة بالمطر بجانبهما. وكانت رائحة الطين الرطب تنبعث مع كل خطوة يخطوها، بينما الفتاة على ظهره كانت تفوح منها رائحة البرتقال الدافئة....
..."الكتاب الذي أحضرته لن يكون صالحًا للاستخدام الآن. فالمطر أفسد الحبر تمامًا."...
...وعندما كانا يوشكان على الخروج من الممر الكثيف، عادت قطرات المطر لتقرع على الخدود....
...فيما كانت تنتظر المنزل ذا الباب الأصفر الليموني، الذي بدا بعيدًا على غير العادة اليوم، حاولت ساشا أن تحدثه....
...“هل تريد أن أخبركَ بطريقةٍ لتجفيفه عند عودتك إلى القصر؟ إذا وضعتَ أوراقًا بين الصفحات فقد يتحسن.”...
...لكن روبرت لم يُجب. فكلما فتحت ساشا شفتيها للكلام، كانت رائحة البرتقال الغريبة تلك تزداد وتشتّت ذهنه....
...شفاهها تلك التي لا تكف عن الثرثرة دون أن تدري أصبحت تثير ضيقه....
...“ساشا.”...
...“نعم؟”...
...كان هناك حلّ واحد لتهدئة أعصابه، و هو إسكات ساشا فينوش. ...
...فكلما كانت تتحدث بكلام لا يهمه ولا يثير فضوله وهي على ظهره، كان يشعر أن رأسه يشعر بالحكة....
...“لا تتحدثي.”...
...ساشا صمتت بسرعة. لكن ذلك لم يدم طويلاً. فبدلاً من الثرثرة، بدأت تتحرك بخفة. ...
...كانت تلتف بذراعٍ حول عنقه، وفي يدها الأخرى صنعت له مظلةً صغيرة براحتيها فوق رأسه حتى لا تحجب قطرات المطر المتساقطة رؤيته....
...حينها، كان الصوت الوحيد الذي يُسمع هو وقع قطرات المطر على ظهر يدها....
...***...
...حين أنزل روبرت ساشا عن ظهره، كانت الشمس قد غربت بالفعل. ...
...وقد صُدمت الجدّات عندما رأين حفيدتهن تعود خالية الوفاض، وحينها فقط تذكرت ساشا غطاء السرير...
...الذي تُرك وسط الغابة الممطرة....
...“حتى تحضري غطاء السرير غدًا، لا تحلمي بالحصول على أي وجبةٍ خفيفة. ساشا فينوش.”...
...أمسكت الجدة لولّو بساشا التي حاولت التبرير، واقتادتها عنوةً وألقتها في حوض الاستحمام. ...
...أما إيلودي، التي كانت تراقب روبرت المتروك وحده بانتباه، أمسكت به فجأةً حين بدا وكأنه على وشك المغادرة....
...“ألا تشعر بالبرد؟ إذا لم تمانع، ادخل قليلاً لتدفئ جسدكَ قبل أن تذهب.”...
...“أشكركِ، لكن لا بأس. أظن أن الوقت قد حان لأن أعود أنا أيضًا.”...
...“لا تفعل ذلك. ابقَ ولو قليلاً لتجفف ملابسكَ. إذا خرجت ساشا ولم تجدكَ هنا، ستشعر بالارتباك.”...
...وحين أبعد يد السيدة العجوز بلطف، تدخل هذه المرة صاحب المنزل، السيد بونوا فينوش....
...وفيما كان روبيرت مترددًا، سألته إيلودي ما إذا كان يريد شايًا ساخنًا أم قهوة، ثم اختفت إلى المطبخ دون انتظار الإجابة....
...دخل روبرت لأول مرة من بوابة ذلك المنزل. إلى مساحة ساشا فينوش، إلى مكانٍ يبعث على شعور غريب....
...كان المنزل قديماً، لكنه لم يكن متهالكاً. وبدا كأن صورة الفتاة الصغيرة، وهي تروح وتجيء بين المطبخ وغرفة الطعام ذات الأرضية الخشبية، ترتسم أمام عينيه....
...“عذرًا، هل يمكنني أن أطرح سؤالًا بدافع الفضول؟”...
...سأل بونوا، الذي بدا عليه التوتر الشديد، مدير قصر توت العليق وهو يبتلع ريقه الجاف....
...عرض عليه الجلوس، لكن الشاب الذي أصر على البقاء واقفًا بدا وكأنه لا ينتمي إلى هذا البيت العادي، وإن كان لا يبدو غريبًا عنه تمامًا أيضًا....
...“هل هناك شيءٌ تودّ قوله لي؟”...
...وحين لم يجبه الرجل، بادره روبرت بالسؤال. ...
...في تلك اللحظة، كان بونوا يفكر في شقيقته، التي أُدخلت مركز العلاج والرعاية النفسية في بونوفيل....
...تلك الفتاة المسكينة، الحمقاء، التي وقعت في حب رسامٍ قادم من لوران، ثم هربت معه وغادرت مانولي وكأنها تهرب من كل شيء....
...“هل تنوي البقاء في مانولي؟ أم أنكَ، كما في المرة السابقة، ستعود إلى لوران مع نهاية الصيف؟”...
...سأل بونوا بشكلٍ مباشر. فالشاب الواقف أمامه هو أيضاً رجلٌ قادم من لوران....
...وكانت نظرات ساشا، التي تتوهج ببريق غريب كلما تحدّثت عن هذا الرجل أو عن قصر توتزالعليق، تثير قلقه....
...فصورة شقيقته، وهي تبتسم ببراءةٍ وتصعد القطار خلف حبيبها، لا تكفّ عن التردّد في ذهنه. ولم يكن مستعدًا لأن يرى ابنة أخيه تقع في نفس المصير المؤلم....
...“لن أبقى هنا طويلاً.”...
...لم يكن في إجابته أي تردد....
...تأمل روبرت بونوا بعينين هادئتين. ثم تحدث بونوا،...
...“ساشا لن تغادر مانولي. خلال سنواتٍ قليلة ستتزوج من أحد شباب القرية، وتنجب أطفالًا، وتعيش حياةً عادية.”...
...كان السيد القادم من لوران يستمع إلى كلمات بونوا بينما يقف ويداه خلف ظهره. لكن وجهه بدا عليه الملل، و كأن حياة فتاةٍ ريفية عادية لا تعنيه في شيء....
...“وهل لهذا أي علاقةٍ بي؟”...
...سأل روبيرت فور أن أنهى بونوا حديثه. فتردد بونوا للحظة....
...ربما كانت مخاوفه مبالغًا فيها بالنظر إلى أسلوب روبرت الهادئ والبسيط. فكلاهما، هو وساشا، لا يجمعهما سوى الرسم في ذلك القصر. ومع ذلك، لم يستطع منع نفسه من الشعور بالقلق، كما حدث في الماضي تمامًا....
...“ما أريده هو ألا تُثير مشاعر ساشا. إنها فتاةٌ صغيرة لا تعرف شيئًا، ولا أريد أن تُدمّر حياتها بسبب أوهامٍ لن تتحقق.”...
...ابتلع بونوا ريقه الجاف، ثم أنهى كلامه. فمن الأفضل أن تكون الأمور واضحةً منذ البداية....
...'أفهم ذلك.'...
...كان روبرت غارقًا في التفكير. و حدّق طويلاً في الرفّ الموجود فوق المطبخ....
...كانت هناك زهرةٌ وردية موضوعة في علبة كريمة فارغة. زهرةٌ اصطناعية صنعتها ساشا بنفسها في طفولتها باستخدام المقص....
...ابتلع بونوا ريقه الجاف. هل يعرف هذا الرجل ذلك؟...
...بالطبع لا، ومع ذلك، فقد بقيت نظراته مثبتةً على تلك الزهرة أكثر مما ينبغي....
...“لقد فهمت. لا حاجة لأن تشرح أكثر من ذلك.”...
...أجاب روبرت بهدوء وهو يصرف بصره عن تلك المزهرية البدائية....
...حقًا، كانت ساشا تعتبره صديقًا مميزًا، أما روبرت، فلا بد أنه لم يشعر بالأمر نفسه....
...بالنسبة لمدير قصر توت العليق، كانت ساشا مجرّد فتاةٍ مزعجة تتطفل عليه لا أكثر....
...تنهد بونوا تنهيدةً امتزج فيها الارتياح بالحسرة....
...***...
...عندما نزلت ساشا مسرعةً بعد أن أنهت حمامها، وهي تُصدر جلبة على الدرج، لم يكن في غرفة الجلوس سوى السيد والسيدة فينوش والجدة إيلودي....
...وكان على طاولة القهوة فنجانٌ زائد عن عدد الجالسين....
...كانت الأكواب الموضوعة على الطاولة كثيرة، لكن صاحب أحدها لم يكن ظاهرًا في المكان....
...“أين السيد روبرت؟”...
...“عاد إلى منزله. لقد حان وقت العشاء، وعلى كل شخصٍ أن يعود إلى بيته.”...
... ...
...قال السيد فينوش ذلك موجهًا كلامه إلى ساشا وكأنه يهدّئ من روعها وهي تتلفّت حولها....
...“لكن المطر لا يزال يهطل بغزارة!”...
...قالت ساشا ذلك وهي تشير إلى السماء الملبّدة بالغيوم الداكنة. فطمأنتها السيدة فينوش بأن المطر كان قد هدأ قليلًا منذ وقتٍ قصير....
...مدّت ساشا رقبتها لتنظر من خلف النافذة. لكن، وبالطبع، لم يكن هناك أي أثر للرجل الذي غادر منذ وقتٍ طويل....
...“ساشا، هل شعرتِ بالأسى لأن السيد روبرت غادر دون أن يودّعكِ؟”...
...سأل السيد فينوش بحذر. لكن ساشا، حين التفتت إليه، هزّت رأسها فورًا. ولم يكن في وجهها المبتسم أي أثرٍ لخيبة أمل....
...ومع ذلك، بقيت طويلًا تقف على أطراف أصابعها قرب نافذة المطبخ التي تطل على البوابة، حتى أثناء مساعدتها للسيدة فينوش في تحضير العشاء....
...كان السيد فينوش يراقبها، ولم يستطع التخلّص من ذلك الشعور المزعج في داخله، رغم أن ساشا كانت، من حيث الظاهر، كعادتها تمامًا....
...“دع الفتاة وشأنها. فالذي لن يحدث، لن يحدث مهما فعلت. والذي سيحدث، سيحدث حتى لو حاولت منعه. لذا توقف عن القلق بلا فائدة، واذهب بدلًا من ذلك وأخرج لنا زجاجة نبيذ نُقدّمها مع طبق البيف بورغينيون*.”...
...*آخر الفصل...
...قالت الجدة لولّو ذلك، التي نزلت إلى غرفة الطعام تزامنًا مع موعد العشاء، وهي تقدّم نصيحةً لابنها المتوتر....
...وخلفها، كانت ساشا تحمل أطباقًا يعلوها البخار وتضعها على المائدة. وكانت وجنتاها، المتورّدتان أكثر من المعتاد، تزدادان احمرارًا بسبب حرارة المطبخ على ما يبدو....
...السيد روبرت القادم من لوران، مدير قصر توت العليق، قال بنفسه أتع فهم كل شيء، ولم يكن يبدو أن هناك مشاعر خاصة بينه وبين ساشا، لذا لا شيء يُثير القلق على الأرجح……...
...لكن بونوا، الذي غرق في التردد، لم يستطع مقاومة إلحاح والدته، فذهب متثاقلًا إلى القبو ليُخرج زجاجة النبيذ....
..._______________________...
...اصبر بس بعد اربع سنوات بأجي انا اقنعك بنفسي يا بونوا تكفى هد ...
...المهم شكل المؤلفة توها تتذكر انها ماعطتنا اسم السيد فينوش؟😭 فجأه طلع اسمه بونوا ...
...باقي السيدة فينوش...
...عاجبني سالفه انه حاليا بس يشوفها بزر ابي اشوف كيف بتتغير النظره وكذاته ...
...Dana...
19تم تحديث
Comments