...كانت محطة قطارات لوران دائمًا مكتظةً بالناس....
...كان إنزو جالسًا في مقهى يُطل على المدخل بوضوح، ينتظر وصول عائلته. ...
...عندما دوّى صوت الجرس الصافي والطويل من برج الساعة، بدأت مصابيح الغاز المصطفة على جانبي الطريق المُشجّر تضيء واحدةً تلو الأخرى....
...تفقد إنزو ساعته اليدوية مرة أخرى. ثم دوّى صوت صافرة القطار المزعج، واندفع الناس خارجين من القطار الذي وصل لتوه....
...نهض إنزو بسرعة، و وضع المال تحت الكوب الفارغ، وغادر المقهى....
...وسط الزحام الشديد، كانت فتاةٌ بشريط أخضر كلون البازلاء تلوّح بيدها بحماس مثل جروٍ سعيد....
...“إنزو!”...
...اندفعت الفتاة نحوه فجأة، واحتضنته دون أن تترك له فرصةً للرد. كانت ساشا، التي أتمت الرابعة عشرة من عمرها منذ وقتٍ قريب....
...“مر وقتٌ طويل، ساشا. لكن أين والدي؟”...
...عندما أشار إنزو إلى ذلك، بدأت ساشا تلتفت حولها حينها فقط. و كان السيد فينوش، الذي جرفه الزحام، قد وصل متأخرًا بخطوة....
...“ها أنتما هنا. أيتها المشاكسة الصغيرة. لحسن الحظ أنكِ وجدتِ إنزو، كدتِ أن تضيعي، أليس كذلك؟”...
...قال السيد لينوش ذلك، وقد بدا عليه الذهول، وهو يوبّخ ساشا التي قفزت من القطار بمجرد أن توقف، بينما يقرص أنفها بلطف....
...بعد أن التقوا بسلام، استقلوا عربةً مشتركة أمام المحطة متجهين إلى الفندق الذي ينزل فيه إنزو....
...السيدة الجالسة بجانبهم أثنت على أن لون شعر ساشا يليق كثيرًا مع الشريط. بينما أخذت ساشا تلاعب الطفل الذي كان في حضن السيدة، حتى قال لها إنزو أن الوقت قد حان للنزول، فتوقفت عن اللعب....
...و أعطت الشريط للسيدة كهدية....
...مرّ إنزو بجانب النافورة المضاءة متجهًا إلى أشهر مكانٍ في لوران. و كانت السيارات الفاخرة والعربات مصطفةً أمام فندق دو إكران....
...و كانت السيدات الأنيقات ينزلن برفقة سادةٍ يرافقونهن بكل أناقة. ...
...رمقت ساشا المكان بعينيها ثم نظرت إلى إنزو وسألته بريبة،...
...“لا تقل لي أن هذا هو الفندق؟”...
...“بلى، هذا هو. هيا ندخل.”...
...تقدم إنزو دون تردد نحو المبنى، وتبعاه كلٌ من ساشا والسيد فينوش على عجل....
...كان الداخل، بعد عبور أبواب البرونز المزينة بالنقوش الذهبية، أكثر فخامةً وروعة بكثير مما بدا عليه من الخارج. و تحت القبة المزينة برسوم الفريسكو، تدلت ثريا كريستالية ضخمة تنثر الضوء في كل اتجاه، مما أدهش الزوار....
...أمام مصعد اللوبي المغطى بالقماش المطرز العتيق، كان وزير الخارجية واقفًا إلى جانب ملحن يُعتبر من أعظم الموسيقيين في العصر الحالي....
...عجزت ساشا عن إغلاق فمها من شدة الدهشة أمام هذا المشهد الذي بدا وكأنها وطأت به عالماً مختلفاً تماماً....
...كان هذا المكان بمثابة مملكةٍ أخرى داخل مدينة لوران....
...أما السيد فينوش، فقد شعر بالرهبة منذ اللحظة الأولى وقبل حتى دخول الغرفة، وحاول جاهدًا أن يرفع كتفيه المنكمشين....
...“من هذا الاتجاه.”...
...دلّهم إنزو على الطريق بثقةٍ وبدون تردد. و مروا عبر ممراتٍ تلمع بشدة تكاد تعمي الأبصار، وصعدوا السلالم حتى وصلوا إلى الغرفة التي سيقيمون فيها لمدة يومين....
...كانت فخمةً بشكل لا يُقارن بمنزل مانولي....
...وقف السيد فينوش في ارتباك واضح، عاجزًا حتى عن إنزال حقيبته، ثم تمتم متسائلًا،...
...“هل نحن فعلاً مسموحٌ لنا بالبقاء في مكانٍ كهذا؟”...
...“الأكاديمية دعت طلابها المتفوقين بتوصيةٍ من العائلة المالكة. و لأن الفندق مملوكٌ لعائلة كي، لذلك وفّروا غرفًا للأكاديمية. الناس جميعهم يتحدثون عن أن الدوق كي سيتزوج الأميرة ديبورا بعد بضع سنوات، أليس كذلك؟”...
...عندما سمعت ساشا بذكر الدوق كي، التفتت عن حوض الاستحمام الرخامي الذي كانت تراقبه بفضول. ثم أخبرها إنزو أن الدوق يملك عدة فنادق، وليس هذا الفندق فقط....
...“ألم يقولوا عندما زرنا قصر الدوق كي قبل أربع سنوات أن مريض؟ كيف لشخص مريض أن يدير فندقًا بهذا الحجم؟”...
...سأل السيد فينوش بحيرة. فهو لم يزر لورتِيز سوى مرةٍ واحدة، لكنه كان يتذكر جيدًا أن الدوق كي آنذاك كان طريح الفراش....
...“الدوق العجوز توفي قبل ثلاث سنوات. الرجل الذي عاد من بورونا وورث اللقب يُدعى الآن الدوق الشاب كي. وهو مالك هذا الفندق. ربما يكون أغنى شخصٍ في لوران.”...
...“حتى أغنى من جلالة الملكة؟”...
...عند دهشة والده البريئة، هز إنزو كتفيه....
...فبعد انتهاء الحرب، أُعيد النظام الملكي، وتم تنصيب الابنة الكبرى للكونت تروفو ملكةً، وهي الآن الملكة أناييس....
...“النظام الملكي المُعاد لن يدوم طويلًا. في أحسن الأحوال، سيصمد لمئة عام فقط.”...
...“إنزو!”...
...“أبي، حتى لو لم أكن أنا من يقول هذا، فالجمهوريون في لوران يكررونه كل يوم. الملكة فقدت سلطتها الفعلية، والصراع بين الملكيين والجمهوريين يزداد حدة يومًا بعد يوم.”...
...لقد أصبح من الممكن الآن أن يهيمن برجوازيٌ ثري على نبلاء فقراء....
...الدوق الشاب، الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، لم يكتفِ بالثروة الهائلة التي ورثها عن أجداده، بل استمر في تنمية أمواله بلا توقف. وإن صح ما يقال عن اقتراب زواجه من الأسرة الملكية، فلن يستطيع أحد منافسته بعد ذلك....
...وحينها، قد لا تبقى بريسين تابعةً لأسرة تروفو المالكة، بل تصبح مملكةً خاصة بالدوق كي....
...غرق إنزو في التفكير فيما يجب أن يفعله بعد تخرّجه من الأكاديمية....
...في تلك اللحظة، صدر صوتٌ مريب من جهة الحمام....
...كانت ساشا قد تذوقت ملح الاستحمام بدافع الفضول، ثم فتحت صنبور المياه وبصقته في المغسلة. فوضع إنزو يده على جبينه وركض نحو الحمام....
...في شارع سانت ماري، لم يكن هناك سوى مطاعمَ فاخرة، لذلك اضطرّت عائلة فينوش للذهاب بعيدًا بعض الشيء....
...ولحسن الحظ، عثروا على مقهى بأسعارٍ مناسبة قبل أن تُغلق المتاجر، وتناولوا فيه العشاء....
...وحين قالوا أنهم في فندق دو إكران، أخبرهم أحد العاملين في المقهى أن هناك غرفةً في الفندق لا تُفتح للعامة. حتى لو دفع أحدهم مالًا كثيرًا، فلن يتمكن من دخولها....
...فقط بدعوة من الدوق كي، مالك الفندق، يُسمح بالدخول إليها....
...وكان اسم تلك الغرفة……...
...“يالها من صدفةٍ غريبة! أنا أيضًا أحب هذه الكلمة!”...
...كان اسم الغرفة مطابقًا لعنوان أول لوحةٍ أنجزتها ساشا في مانولي. أن يتوافق ذوقها مع مالك فندقٍ جميل كهذا، كان مصادفةً سعيدة للغاية....
...في صباح اليوم التالي، توجّه إنزو إلى القصر الملكي لمقابلة الملكة. أما ساشا والسيد فينوش، فتوجها إلى متجرٍ كبير لشراء هدايا للسيدة فينوش والجدات اللاتي لم يتمكنّ من القدوم معهم....
...بعد وقتٍ قصير من مغادرة ساشا لشارع سانت ماري، توقفت سيارةٌ سوداء أمام الفندق....
...و ترجّل منها الدوق الشاب بأناقة وهو يغلق أزرار سترته، وتحدث لبرهة مع الكونتيسة التي كانت في الردهة، ثم صعد إلى الطابق العلوي....
...***...
...حتى بعد عودته إلى مانولي، ظل السيد فينوش مهتمًا بالدوق كي....
...كان يرى اسم الدوق في الصحف القادمة من لوران، كان يتفاخر بمعرفته بالفندق الذي يملكه هذا الرجل....
...“لدي بعض المعرفة أيضًا عن الدوق كي. الصحف تقول أن شخص غني جدًا ولديه ثروةٌ هائلة.”...
...وفقًا للمجلة المفضلة لدى جدتها إيلودي، “فويس”، كان الدوق كي هو أقرب الأحفاد إلى قلب الملكة. وكان من المعروف جدًا أن والدة الدوق هي قريبة زوج الملكة، الأمير أوغين....
...بينما كان الكبار يتناولون العشاء ويتبادلون الآراء حول مجتمع لوران الأرستقراطي والبيروقراطي، صعدت ساشا إلى غرفتها لتحضير نفسها للنوم....
...‘لو كنت فزتُ في تلك المسابقة سابقًا، هل كان بإمكاني الدخول إلى المدرسة الملكية للفنون؟ إذا ذهبت إلى هناك، هل سأرسم طوال الوقت؟ لن أضطر لدراسة الرياضيات، وهذا سيكون رائعًا.’...
...منذ فترة، بدأت ساشا في رسم الصور في خيالها على السقف كل ليلة. وفي بعض الأيام، كانت تقضي الليل كله في ذلك....
...كان السقف مغطى برسوماتٍ لم يراها أحد سوى ساشا. وكان قماشها هو العالم بأسره....
...في بعض الأحيان، كانت ساشا تسترجع ذكرياتها السابقة....
...كانت مستلقيةً على سجادة مربعة صفراء، تراقب السحب التي تتدفق ببطء، وتفكر في تلك اللحظات....
...أول لوحة رسمتها بعد زيارتها لقصر الدوق لورتيز. من الذي اشترى تلك اللوحة التي قدمتها إلى الأكاديمية الملكية للفنون؟...
...كلما خطر هذا السؤال في ذهنها، كانت ترغب في تبادل الرسائل مع ذلك الشخص الذي لم تعرفه....
...كانت قرية مانولي هادئة و رائعة، لكنها في بعض الأحيان شعرت بالملل من هذا الهدوء....
...وكان بيرتراند، صاحب متجر أدوات الرسم، هو الصديق الوحيد الذي يمكنها التحدث معه عن الرسم....
...‘ربما يتفق هذا الشخص مع ذوقي في الفن، لذلك ربما يمكننا التفاهم بسهولة.’...
...أرسلت ساشا رسالةً إلى الأكاديمية الملكية للفنون تطلب معرفة هوية المشتري، لكن الرد كان دائمًا أنه لا يمكنهم الكشف عن ذلك لأنه لم يكن يرغب في ذلك....
...***...
...“بالطبع. إذا كان بإمكاني نشر مقالٍ عن هذا الفندق الجميل في كتاب متواضعٍ كهذا، فسيكون ذلك شرفًا لي. لكن هل يمكنني أن أطلب منكَ طلبًا واحدًا؟”...
...وافق البارون بيير أوغوست، أشهر نقادٍ العصر، بسرور على طلب نشر مقال عن فندق دو إكران في كتابه. ولكنه طلب في المقابل أن يتمكن من رؤية اللوحة المشهورة التي يمتلكها روبرت....
...تفاجأ روبرت من هذا الطلب، فأنزل فنجان القهوة الذي كان يحمله....
...“لا أعتقد أنها ستكون كما تتوقع. إنها ليست لوحةَ مشهورة، بل اكتشفتها بالصدفة في معرض.”...
...لكن هذه الكلمات أثارت فضول البارون أكثر. ...
...ثم اقترح روبرت أن يُظهر له بعض اللوحات الشهيرة التي يملكها، لكن البارون أصر على رؤية عمل الفنان المغمور فقط....
...وفي النهاية، أنهى روبرت وجبته وأمر مدير الفندق بإحضار مفتاح الغرفة التي تحتوي على اللوحة....
...وعندما رأى البارون اللوحة المعلقة على الجدار، أعرب عن إعجابه الشديد....
...“إن أولئك الذين يتحدثون عن الدوق كي وكأنه فقد ذوقه وكرامة النبلاء بسبب تعلقه بالمال هم مجرد حمقى.”...
...كان هذا الفنان بلا شك عبقريًا لم يُكتشف بعد، كجوهرٍ مدفون في الوحل. وكان الدوق الشاب الذي اكتشف ذلك هو حقًا حامي الفن الحقيقي....
...“هل تبيعني هذه اللوحة؟ سأدفع لك عشرة أضعاف ما دفعه الدوق في البداية.”...
...اقترح البارون بحماس أن يشتري اللوحة. لكن روبرت ابتسم بلطفٍ بدلاً من الرد، في إشارة إلى الرفض....
...لم ييأس البارون وزاد السعر مئةَ مرة، لكنه كان يعلم أن الدوق لا يعتزم بيع اللوحة....
...“ماذا عن هذا؟ إذا رغبتَ في مشاهدة اللوحة، يمكنكَ زيارة الفندق وسأعرضها عليكَ شخصيًا.”...
...كانت اقتراحًا غاية في الحلاوة. فوافق البارون بسرور....
...“لكن من هو الفنان الذي رسم هذه اللوحة؟ هل سيكون من المبالغة طلب التعريف به لي؟”...
...سأل البارون، الذي بالكاد تخلص من الإعجاب الشديد الذي شعر به بعد فترة طويلة. لكن و على غير المتوقع، تردد الدوق لأول مرة في الإجابة....
...“لم ألتقِ بالفنان شخصيًا بعد. كلما كانت التوقعات أعلى، كانت خيبة الأمل أكبر عندما تلتقي به في الواقع.”...
...أُعجب البارون مرة أخرى. كيف يمكن لفنانٍ عظيم أن يكون هناك دون أن يسعى لملاقاته؟ ...
...كان من الواضح أن هذا الرجل يتمتع بقدرة هائلة على ضبط النفس....
...“بالطبع، قد يكون من الطبيعي القلق بشأن ذلك. ولكن من خلال خبرتي المحدودة، أعتقد أنه لا داعي للقلق بشأن هذا الفنان. لقد تفاعلتُ مع العديد من الفنانين حتى الآن، وكلما كانت الأعمال ذات مستوى عالٍ، كانت روح الفنان تنعكس فيها. من المستحيل أن يكون فنانٌ قد رسم لوحةً بهذا الجمال صاحب روحٍ ملوثة.”...
...“هل هذا صحيح؟”...
...أخذ الدوق ينظر إلى اللوحة. و كان البارون واثقًا جدًا، فتحدث بحماس....
...“إذا غيّرت رأيكَ وقررت لقاء الفنان، هل يمكنكَ أن تعرّفني عليه أيضًا؟ إذا كان فنانًا غير معروفٍ حتى الآن، فأنا أرغب في دعمه شخصيًا. إذا سمحت لي بالتعرف عليه، فلن أنسى أبدًا لطفكَ هذا.”...
..._______________________...
...وناسه ايه قل دوره واقلب الدنيا على أم عيالك😘...
...هههههعهعهعهعهعهعهع ...
...بس ليه للحين ماقالوا وش اسم لوحة ساشا؟ ...
...Dana ...
15تم تحديث
Comments