...لم تكد تمشي كثيرًا حتى توقفت ساشا....
...لا، هناك شيء خاطئ. ...
...أدركت ساشا أن الوضع ليس كما كانت تظن. فالآنسة الجميلة التي يليق بها لون العسل الأشقر كانت وجنتاها متوردتين كحبّة رمان، وكان السيد روبرت يقود الحديث بسلاسة....
...لو تدخلت بينهما الآن، فستبدو بوضوح كمتطفلة....
...رأت ساشا في البركة المتجمعة تحت قدميها انعكاس جسدها غير الناضج بعد، وشعرها الفوضوي الذي خرجت على عجلٍ دون أن ترتبه. حينها شعرت بالخجل من مظهرها البائس، وراودها أيضًا شعورٌ بالعار لأنها فكّرت في التدخل بينهما دون تروٍ....
...كان يتصرف معها وكأنه شخصٌ مختلف تمامًا. كل حركةٍ من حركاته بدت مهذبةً ومليئة بالثقة والهدوء....
...بينما كانت تراقبه، شعرت بقلبها يُوخَز وكأن شيئًا طعن صدرها. و ربما ضغطت على الدواسة بالخطأ، إذ بدأ صوت دوران عجلات الدراجة يصدر بلا جدوى....
...وفي تلك اللحظة، التفت السيد روبرت نحوها بخفة. فاختبأت ساشا بجسدها دون أن تشعر، ثم هربت دون أن تلتفت خلفها....
...لم تستطع أن تلتقط أنفاسها إلا بعدما وصلت إلى مكانٍ يُرى منه الأفق الأزرق. ثم ركنت الدراجة خلف شجيرات الشوك التي لا تَلفت الأنظار، واتجهت بخطى بطيئة نحو ممر التنزه على الشاطئ....
...ربما لأن الوقت لا يزال مبكرًا، لم تكن الجدتان قد خرجتا بعد. ...
...بات لدى السيد روبرت الآن الكثير من الزوار، حتى وإن لم تكن ساشا بينهم. وكان ذلك أمرًا جيدًا بالنسبة لها أيضًا، فقد أدرك أهل القرية كم هو رجلٌ رائع....
...والآن، حتى لو ذهبت ساشا إلى قصر توت العليق، فلن يُلقي الناس عليها نظرات قلق أو كلماتٍ ملامة....
...ولهذا، من المفترض أن تكون سعيدة……...
...لكن، لماذا تشعر بالحزن وكأنها فقدت صديقًا كان لها وحدها؟...
...ركلت ساشا حجرًا صغيرًا كان يعترض طريقها بلا سبب. و انزلق الحجر إلى البحر وسرعان ما جرفته الأمواج....
...كررت هذا التصرف العبثي عدة مرات. ولحسن الحظ، بدأت تشعر بتحسّنٍ بعد مرور بعض الوقت....
...بدأت تلتقط أصداف البحر وتضعها في جيبها. وبينما كانت تجلس القرفصاء، امتد ظلٌ طويل فوق رأسها....
...كان رجل تلمع عيناه تحت أشعة الشمس القوية، وقد عقد حاجبيه وهو واقفٌ أمامها....
...“أنتِ، رأيتِني قبل قليل، فلماذا غادرتِ هكذا؟”...
...سألها السيد روبرت، الذي كان برفقة حفيدة السيد ديني، بنبرةٍ واثقة. ففكرت ساشا بأنه ربما جاء إلى هنا بحثًا عنها....
...“لا، ليس كذلك. أردتُ فقط مشاهدة البحر اليوم، لذلك لم أذهب إلى القصر.”...
...نطقت كذبةً هادئة خرجت منها دون تردد....
...قطب السيد روبرت حاجبيه. و بدا عليه بأنه لا يفهم لماذا تكذب....
...ترى، هل يكره الأشخاص الذين يكذبون؟...
...نفضت ساشا الرمل العالق في يدها ونهضت. و تبِعها روبرت من الخلف....
...سارت نحو المكان الذي كانت قد تركت فيه الدراجة متظاهرةً بعدم الاكتراث، لكنه تبعها حتى هناك أيضًا....
...كان من الغريب أن تمشي إلى جانبه، لكنها لم تكن تملك خيارًا آخر. فلكي تعود إلى المنزل، كان عليها أن تتجاوز التلة، وقصر توت العليق يقع فوق تلك التلة....
...“بإمكانكَ أن تسبقني.”...
...قالت ساشا ذلك فجأة، قاطعةً الصمت، متوجهةً إليه بالكلام....
...“لأنني أمشي بسرعة؟”...
...ردّ روبرت بسؤال، فأشارت ساشا برأسها نفيًا. فقد كانت عجلة الدراجة عالقةٌ في الطريق الموحل، و تجرها كما يُجر كيس ثقيل مرتخٍ....
...رغم أنها حاولت دفعها بقوة، فإن خطواتها أصبحت أبطأ فأبطأ. وحين أدركت أنه يضبط خطواته لتتناسب مع سرعتها، شعرت بالذنب....
...“لا، فقط أردت أن أقول أنكَ لست مضطرًا لانتظاري. فأنا أستطيع الذهاب بمفردي جيدًا.”...
...عندما ردّت ساشا بحزم، لم يُخفِ هو انزعاجه، بل التزم الصمت وقد بدا عليه الاستياء. ومع ذلك، لم يسبقها في المشي. فقط أبطأ خطواته قليلًا عن السابق....
...وهكذا، طال هذا الرفيق الغريب في يومٍ صيفي أكثر مما توقّعا....
...“في الحقيقة، أنا أعرف من أنتَ. كنت أعرف منذ أول مرة رأيتكَ فيها. لقد عرفتكَ من النظرة الأولى.”...
...قالت ساشا هامسةً بعد أن بحثت طويلًا عن كلماتها....
...رنّ جرس الدراجة، تمامًا كما لو كان يستجوب مشتبهًا به، فمسح روبرت شفتيه الجافتين بتوتر....
...“في السابق، قرب محطة القطار. أتيتَ بعربة، أليس كذلك؟”...
...حين قابل روبرت ابتسامة ساشا البريئة، شعر بالإحباط. ...
...'نعم، ما الذي قد تتذكره فتاةٌ صغيرة مثلها؟'...
...وماذا كان يتوقع؟...
...هل كان يظن فعلًا أنها ستتعرّف عليه؟...
...راحت ساشا تنظر إليه من تحت كتفه، ثم سألت مجددًا....
...“لكن، ألم تعد ترتدي ذلك المعطف؟”...
...“لن أرتديه هنا.”...
...قال ذلك بحزم....
...“ذلك اليوم كان خطأً.”...
...رأت ساشا في جبينه المتجعد شيئًا من الندم والخجل، فارتبكت....
...“لماذا؟ أعتقد أن ذلك المعطف كان أنيقًا. خاصةً زهرة البنفسج الأرجوانية التي كانت موضوعةً في الجيب الأمامي……”...
...“حسناً، فهمت. يمكنكِ التوقف عن الحديث الآن.”...
...قاطعها روبرت. و رغم أنه استخدم تعبيرًا لطيفًا، إلا أن نبرته كانت توحي بأنه يريد حقًا منها أن تتوقف. فأذنه المنخفضة كانت قد احمرّت....
...لماذا لا يبدو معتادًا على المديح؟...
...من المؤسف أن أهل لوران لا بد أنهم بخلاء جدًا في مدح الآخرين....
...كانت ساشا شاردةً في أفكارها، فأفلتت الدراجة من يدها دون قصد، ووقفت مذهولة. ثم صدر صوتٌ مزعج من عجلة الدراجة وهي تدور عبثًا وقد غاصت في الوحل....
...“أنا أستطيع فعلها.”...
...جلست ساشا بسرعةٍ قبل أن يتدخل، وبدأت تحاول سحب الدراجة. لكن ما إن تخرج العجلة الأمامية حتى تغوص الخلفية، وإذا أخرجت الخلفية، تعود الأمامية إلى الحفرة من جديد....
...كم يا تُرى أمطرت السماء البارحة؟...
...احمر وجه ساشا حتى صار كالدم، وقد بدت على وشك البكاء....
...“تنحّي جانبًا.”...
...“لا بأس، يمكنني فعلها.”...
...ردت ساشا رافضة، بينما وقف روبرت مكتوف اليدين يراقب المشهد. لكنه سرعان ما أدرك أن هذه الفتاة تحاول بجهد في أمر لا طائل منه....
...“تنحّي.”...
...بتلك الكلمات الحازمة قليلًا، تراجعت ساشا بخضوع....
...أمسك بجسم الدراجة وسحبها دون صعوبةٍ تُذكر. ثم انحنى مجددًا ليلتقط قبعة القش التي كانت تطفو فوق البركة....
...“لم تعد صالحةً للاستخدام.”...
...قال روبرت ذلك وهو يضع القبعة الملوثة بالطين في سلة الدراجة الأمامية، ثم تراجع إلى الخلف....
...ترك مسافة خطوتين تمامًا بينه وبين ساشا، ثم أشار لها بيده. فاقتربت الفتاة مترددة، واستعادت دراجتها....
...كان الرجل القادم من لوران يعرف كيف يعامل فتاةً ريفية وكأنها آنسة من الطبقة النبيلة. فحتى عندما التقط قبعة القش من الوحل، بدا كمن يلتقط منديلًا سقط في قاعة رقص، بهدوءٍ وأناقة....
...شعرت ساشا بالتوتر، وكأنها طفلةٌ وُبّخت للتو....
...كان الطين قد علق بيدها، ففركت يديها الملوثتين على تنورتها بسرعة وأغلقت فمها بإحكام. ولم يتحدث هو أيضًا....
...مشى الاثنان جنبًا إلى جنب....
...كان الجو حارًا جدًا ليكون مناسبًا للتنزه في الظهيرة. و ربما لن تخرج الجدتان للتنزه على الشاطئ قبل غروب الشمس. فبعد توقف المطر، بدأت الشمس تشع بحرارة. ...
...لم يكن يبدو أنهم مشوا طويلاً، ومع ذلك بدأ ظهر ساشا يبتل من العرق. و نظر روبير إلى ساشا وهي تهز رأسها لتتخلص من العرق المتراكم....
...“لكن لماذا كنتَ لطيفًا معها هكذا؟”...
...سألت ساشا بينما كانت أنفها المائل لونه للأحمر قليلاً....
...وبسبب عدم تلقي إجابةٍ على سؤالها، شعرت بالحيرة. ...
...ربما هو في حالة ارتباك؟ هل تصرفتُ كما لو كان يعاملني بشكلٍ خاص؟...
...ازداد احمرار أنفها الذي كان قد سخن بسبب الحر....
...“ما الذي كنتِ تقولينه قبل قليل؟”...
...لم يتغير شيءٌ في طريقة إزعاج الفتاة الصغيرة له بأسئلتها غير الضرورية، سواءً عندما كانت صغيرة أو الآن....
...توقف روبرت للحظة يفكر في وقت الحديث الذي ذكرته ساشا. و ظنت ساشا أنه يحاول التهرب، فبادرت بإصرار،...
...“في قصر توت العليق. كنتُ هناك حتى الباب.”...
...“لكنكِ قلتِ أنكِ لم تأتِ اليوم.”...
...أشار روبرت إلى خطأ ساشا في كلامها. و لم تشعر ساشا بالحرج من أن كذبها قد تم اكتشافه. فقد نسيت تمامًا لماذا هربت من قصر توت العليق هذا الصباح، ولماذا شعرت بفقدان شخصٍ كانت تعرفه أثناء سيرها على الشاطئ....
...لكنها لم تشعر بالخجل، بل ابتسمت بخجل....
...نظر روبرت إلى أنفها الدائري الذي كان يبتسم، فبدّل الموضوع بلطف....
...“وماذا عنكِ، لماذا تأخرتِ اليوم؟”...
...“نمت كثيرًا. بسبب بدء العام الدراسي قريبًا، كنت مشغولةً جدًا في إنجاز الواجبات المتراكمة.”...
...هذه المرة، ظهرت ابتسامةٌ خفيفة على وجه روبرت. ...
...كان يغمض عينيه وهو يبتسم كالصبي....
...ضحكت ساشا دون أن تعرف ما الذي يجده مضحكًا، فقط اتبعت ابتسامته بلا تفكير....
...“تشا-رونغ تشا.”...
...أطلقت ساشا لحنًا متناسبًا مع صوت جرس الدراجة و هي تُكمل السير. ...
...من بعيد، بدأ قصر توت العليق الذي يقع على قمة التل يظهر تدريجيًا. و قال روبير أنه إذا أرادت، يمكنها الدخول إلى الداخل والرسْم هناك....
...لم ترفض ساشا بل دخلت غرفة الرسم بسرعة....
...“لماذا تتبعني اليوم؟”...
...“أريد أن أعرف كيف تعملين. كنتُ دائمًا أرغب في رؤيتكِ ترسمين مرة.”...
...لم تكن ساشا معتادةً على الرسم أمام أحد، لذا كانت تأمل أن يخرج روبرت من الغرفة، لكنها لم تستطع طرده لأنه هو من قدم لها المكان....
...في ذلك اليوم، فشلت ساشا في عملها. و اعتذر روبرت عن إزعاجه لها، ومنذ ذلك الحين لم يدخل غرفة الرسم مرة أخرى....
...كانت ساشا تذهب إلى قصر توت العليق في النهار لرسم اللوحات، وعندما يقترب الغروب، كانت تعود إلى غرفتها ذات الجدران الملونة تحت السقف الأحمر لتكمل واجبات عطلتها....
...بسبب كثرة زياراتها لقصر توت العليق طوال الصيف، تراكمت واجباتها المدرسية حتى أصبحت كالجبل....
...و عندما بدأ حر الصيف في التراجع، اختفى روبرت تمامًا عن الأنظار. بل قبل أن تنتهي عطلة ساشا بشكلٍ كامل، اختفى روبرت تمامًا. ...
...كانت ساشا تقف أمام باب قصر توت العليق تنتظر أن يفتح لها، لكن روبرت لم يخرج. و في اليوم التالي، وكذلك في اليوم الذي بعده....
...______________________...
...هيه! ورع وينك اصبر ماكملنا مومنتات...
...حلو انه لحقها انفدا الملقوف 🤏🏻...
...المهم مايبيه يطول غيبه مب على كيفه😭 ...
...لو تلاحظون ترا الفصول من يوم بدت وهي كأنها تسرد ذكريات يعني تو تو ...
...Dana...
15تم تحديث
Comments