عبرتُ الستار الفاصل بين العوالم، شعرتُ بتيار من الدفء يتخللني، وكأن العالم الجديد يتفحصني، يختبرني، قبل أن يسمح لي بالدخول. لم يكن العبور عنيفًا كالسابق، بل بدا كما لو أنني انزلقت بهدوء إلى هذا المكان، وكأنني لم أختر الدخول بل تم استدعائي إليه.
إيلثار.
ما إن وطأتُ الأرض حتى أدركتُ الاختلاف. كان الهواء مشبعًا برائحة الزهور البرية والتربة الرطبة، مختلفًا عن جفاف إيلاريا القاسية وبرود نيرفانا الخاملة. هذا العالم كان حيًا، ينبض بإيقاع خاص، ليس صاخبًا، لكنه أيضًا لم يكن هادئًا بالكامل.
الأشجار امتدت عالياً، جذوعها ضخمة متشابكة كأنها حصون طبيعية، أوراقها الكثيفة تعكس ضوء الشمس بلون زمردي، فتخلق ظلالًا متراقصة على الممرات الممهدة بالحجارة المصقولة. في كل زاوية، امتزجت الطبيعة بالبشر بطريقة لم أرها من قبل—المباني لم تكن منفصلة عن الأرض، بل كأنها امتداد لها، منحوتة من الخشب والحجر، تتداخل مع الجذور المتشابكة والأغصان الممتدة.
لكن ما كان لافتًا حقًا… هو الناس.
النساء شكلن الأغلبية الساحقة هنا، ولم يكن مجرد تفوق عددي؛ بل كنّ هنّ من يتحكمن في كل شيء. في الأسواق، في الساحات، في الحرس، في السياسة—كل الأدوار المهمة كانت في أيديهن. أما الرجال، فوجودهم كان أقل وضوحًا، أشبه بالظلال التي تتحرك في الخلفية، لا تُستشار، لا يُنظر إليهم كقوة مؤثرة، بل كمجرد أفراد هامشيين في عالم تحكمه النساء.
كان هذا عالمًا مختلفًا تمامًا عن أي شيء عرفته.
ثم سمعتُ الطبول.
إيقاعها كان منتظمًا، نبضات عميقة تتردد في الهواء، مترافقة مع صوت خفيف لحوافر الخيول وضربات الأقدام المنسجمة. كان موكبًا يسير عبر الطريق الرئيسي، وكل من في المدينة انحنى باحترام عند مروره.
رفعتُ بصري نحو قلب الموكب، وهناك… رأيتها.
ليلين.
لم تكن في المقدمة تمامًا، لكنها لم تكن تتبع أحدًا أيضًا. كانت تسير وسط الحارسات، ليست مجرد قائدة، بل رمز لهذا العالم. لم تكن ترتدي تاجًا، ولا درعًا ثقيلًا يعلن عن سلطتها، ومع ذلك، لم يكن هناك شك في أنها من تحكم هنا.
شعرها الأسود الطويل انسدل على ظهرها بضفيرتين متقنتين. ملامحها كانت واضحة، محددة بدقة، لا قسوة فيها، لكن أيضًا لا مجال للضعف. بشرتها كانت ناعمة، خالية من الندوب، لكن عينيها—عينان بلون البحر قبل العاصفة—حملتا ثقلًا لا يمكن إنكاره، وكأنهما شهدتا أشياء لا يستطيع الآخرون تخيلها.
ملابسها كانت عملية، ليست ملكية ولا بسيطة، بل شيء بينهما. درع جلدي أسود مزخرف بخيوط فضية يحيط بجسدها دون أن يعيق حركتها، ومعطف طويل يتراقص مع خطواتها، يضفي عليها حضورًا أكثر غموضًا. عند خصرها، استقر خنجر منحوت بعناية، لكنه لم يكن سلاحها الأساسي.
السلاح الحقيقي… كان القوس.
كان مربوطًا عند ظهرها، مقبضه ظاهر فوق كتفها، وكأنه جزء منها. لم يكن مجرد قطعة خشب منحنية، بل شيئًا ينبض بالحياة. الخشب لم يكن عاديًا، بل بدا وكأنه نما في هذه الهيئة، تداخله مع المعدن بطريقة مستحيلة. في مركزه، حيث تلتقي قبضته، كانت هناك جوهرة داكنة، تنبض بضوء خافت، ليس ساطعًا، لكنه مألوف لي بطريقة مزعجة.
جزء مني.
لم تكن تعرف ذلك. لم تكن تدرك أن القوة التي حُبست في هذا القوس لم تكن مجرد طاقة قديمة، بل كانت جزءًا من شيء أكبر، شيء سُرق مني منذ زمن بعيد. بالنسبة لها، هذا القوس كان إرثًا لعائلتها، سلاحًا انتقل عبر الأجيال، يحمل معه قصصًا وأساطير قديمة. لكنها لم تكن تعلم أنه لم يكن يومًا يخصها.
تابعتُ الموكب بصمت، أبقيت رأسي منخفضًا، متجنبًا لفت الأنظار. لم يكن الوقت قد حان بعد.
لكن رغم ذلك… رغم أنني لم أتحرك بتهور، رغم أنني لم أقترب أكثر من اللازم…
شعرتُ بشيء غريب.
لحظة…
هل توقفت الطبول؟
رفعتُ بصري ببطء، وكأن الهواء قد أصبح أثقل للحظة. لم يكن هناك شيء مختلف في المشهد، الناس لا يزالون يحيّون موكبها، الجنود لا يزالون يسيرون بنفس الخطى.
لكنني رأيتُ شيئًا آخر.
ليلين… توقفت.
لم تنظر نحوي مباشرة. لم تدير رأسها بسرعة، لم ترفع حاجبيها في دهشة. لكنها، للحظة قصيرة جدًا، توقفت.
لا أعلم إن كانت مجرد مصادفة. ربما شعرت بشيء غريب، ربما كان الهواء مختلفًا، ربما كانت مجرد غريزة.
لكنني أعرف هذا الشعور جيدًا.
21تم تحديث
Comments