لم يكن الضوء المنبعث من النقوش مجرد وميض عابر. كان طاقة متدفقة، نابضة، تحمل في داخلها أكثر من مجرد إشارات غامضة. وبينما كنا نقف هناك، بدأت الجدران تهتز بخفة، ثم شُقَّ الهواء أمامنا، ليكشف عن بوابة دائرية تشبه مرآة سائلة، تعكس خلفها مشهدًا آخر—مدينة مترامية الأطراف، مبنية من أحجار متلألئة تعكس ضوءًا أرجوانيًا خافتًا، كانت نواند، عاصمة عالم إيلثار.
نظرتُ إلى لينور، فوجدت عينيها تحدقان في البوابة بثبات. بدا الأمر كما لو أنها كانت تتوقع حدوث هذا تمامًا. التفتت إليّ وقالت:
"هذه البوابة ستأخذنا مباشرة إلى نواند، لكن لا يمكننا التحرك دون خطة واضحة. مجرد الظهور هناك دون حذر سيكون انتحارًا."
"وما الخطة؟" سألتها بينما كنت أشعر بطاقة البوابة تتردد في الهواء من حولي.
"علينا الاندماج في المدينة أولًا. سنكون مجرد اثنين من العامة، لا أكثر. إذا تصرفنا بحذر، يمكننا جمع المعلومات قبل أن نتخذ أي خطوة ضد ليلين."
أومأتُ لها بالموافقة، ثم خطونا عبر البوابة.
ما إن عبرنا البوابة حتى غمرني الهواء الدافئ والرائحة العطرة لمدينة نابضة بالحياة. كانت الشوارع مرصوفة بحجارة بيضاء، والمباني الشاهقة مزينة بزخارف ذهبية ونقوش قديمة، أما السماء فوقنا فقد كانت مغطاة بطبقة شفافة من الضوء البنفسجي، كما لو أن المدينة نفسها كانت تعيش تحت غلاف طاقي يحميها.
لم يكن الناس يحدقون بنا كثيرًا، وهذا أمر جيد. بدونا كأي شخصين آخرين في المدينة، رغم أن ملامح لينور كانت لافتة، إلا أن الرداء الذي ارتدته أخفى الكثير منها.
سرتُ بجانبها بصمت للحظات، قبل أن أقرر كسر حاجز الأسئلة:
"ما هو نظام هذا العالم؟ كيف يحكم عالم ايلثار؟"
نظرت إليّ نظرة جانبية، ثم قالت بصوت هادئ:
"إيلثار عالم تحكمه النساء. نحن من نسيطر على الحكم، الجيش، الاقتصاد، وحتى الأمور الدينية. الرجال لا يملكون أي سلطة حقيقية."
توقفتُ للحظة، ثم سألتها بصوت منخفض:
"إذن، ما دور الرجال هنا؟"
ضحكت بسخرية خافتة، ثم قالت:
"التكاثر. الرجال هنا هم مجرد وسيلة لاستمرار الحياة. يتمتعون بحياة مرفهة كون وجودهم نادر حوالي 5% من سكان ايلثار، لا يعملون، لا يشاركون في الحروب، ولا يتحملون أي مسؤوليات. كل ما عليهم فعله هو إشباع شهواتهم وإنجاب الأطفال، خصوصًا أن الزواج والأنساب ليست أشياءً ذات أهمية هنا. هذا، بالطبع، خلق مشاكل كثيرة، مثل اختلاط الأنساب وانعدام الروابط الأسرية الحقيقية."
لم أُجب، لكنني شعرتُ بأن هذا النظام رغم غرابته يحمل بذور فنائه بداخله.
تابعنا سيرنا بين العامة، نراقب المدينة ونستمع إلى الأحاديث العابرة في الأسواق، حتى قررتُ طرح سؤال آخر كان يلحّ في ذهني:
"أنتِ لا تريدين استعادة حكمك، أليس كذلك؟"
أجابت دون تردد:
"لا. الشعب نفسه تخلى عني ووقف مع ليلين عندما تحديتُ مييرا رجوعي للحكم سيخلق مشاكل اكبر. لم يعد لي مكان هنا كحاكمة. كل ما أريده هو الانتقام من ليلين، لا أكثر."
لم أُجب، فقط نظرتُ إلى المارة من حولي. كان من الواضح أن هذا العالم يسير في طريق لا رجعة فيه، سواء أحبوا ذلك أم لا.
بينما كنا نقترب من أحد الأزقة الضيقة، لاحظتُ مجموعة من الرجال، ملامحهم تدل على الفراغ والعبث، يقتربون منا بنظرات مستفزة.
أحدهم، طويل القامة بشعر فضي وملابس فاخرة، ابتسم بلؤم وقال وهو ينظر إلى لينور:
"حسنًا، حسنًا، ما لدينا هنا؟ امرأة غريبة بعيون بنفسجية… لم أرَ مثلكِ من قبل."
لم ترد لينور، فقط رمقته بنظرة باردة. لكن ذلك لم يوقفه. اقترب أكثر، ثم مدّ يده نحو كتفها كأنه سيجبرها على التوقف.
تحركتُ بسرعة وأمسكتُ بمعصمه قبل أن يصل إليها، ضغطتُ عليه بقوة حتى شعرتُ بعظامه تكاد تتكسر بين أصابعي.
صرخ الرجل وسقط على ركبتيه، بينما حدقت عيناه في وجهي برعب.
"أيها اللعين، أطلق سراحي!" صرخ بألم، لكنني لم أفعل.
رفعتُ يدي الأخرى، ووجهتُ لكمة قوية إلى وجهه، أطاحت به للخلف ليسقط مترنحًا على الأرض. التفتُ إلى رفاقه، ورأيتُ علامات التردد في عيونهم. لكن أحدهم، شاب نحيل ذو شعر أزرق داكن، أخرج خنجرًا وحاول مهاجمتي.
تراجعتُ خطوة، ثم أمسكتُ بذراعه وأدرتُها بقوة، مما جعل الخنجر يسقط من يده. قبل أن يتمكن من استعادة توازنه، ركلته في صدره ليسقط بجانب رفيقه.
البقية لم ينتظروا أكثر، بل هربوا من الأزقة كالجرذان.
التفتت إليّ لينور، نظرة هادئة على وجهها.
"جيد انك لم تستخدم قواك."
أومأت بصمت، ثم واصلنا طريقنا.
عندما وصلنا إلى أطراف القلعة، كانت السماء قد بدأت تغرق في ظلال الليل، وأضواء المدينة انعكست على أبراج القلعة العالية. من هنا، كانت القلعة تلوح أمامنا كمارد نائم، تنتظر من يحاول إيقاظها.
وقفت لينور بجانبي، وأشارت إلى أحد الأبراج البعيدة، ثم قالت:
"هناك هدفنا. قصر الحكم هو المكان الذي تتواجد فيه ليلين، وأمامنا طريقان: إما التسلل إلى الداخل، أو خلق فوضى في المدينة لتشتيت انتباه الحراس."
"وأيهما تفضلين؟"
ابتسمت ابتسامة باردة.
"أعتقد أن الفوضى قد تكون ممتعة أكثر."
نظرتُ إلى القلعة المهيبة التي تتربع على العرش في قلب المدينة. كانت أسوارها شاهقة، تعلوها أبراج مراقبة، وأضواء الحراس تتحرك بانضباط مرعب. الدخول من البوابة الرئيسية سيكون انتحارًا، والفوضى خيار محفوف بالمخاطر، خصوصًا أننا لا نملك خطة هروب جاهزة إذا انقلبت الأمور ضدنا.
"لا، الفوضى لن تفيدنا هنا." نظرتُ إلى لينور. "إذا أشعلنا اضطرابًا في المدينة، فسنكون الهدف الأول للبحث."
ضيّقت عينيها قليلًا، لكنها لم تجادل.
"إذن، لديك فكرة أفضل؟"
أشرتُ إلى الأسفل، نحو الأرض.
"نحن لن نقتحم القلعة من الأعلى أو عبر البوابات... بل من الأسفل."
تذكرتُ شيئًا لاحظته أثناء تجولنا في السوق—قنوات الصرف القديمة. كانت نواند مدينة قديمة، وبالتأكيد تملك نظام أنفاق قديمًا تحت الأرض، ربما حتى ممرات مهجورة لم يعد الحراس يستخدمونها.
"هناك أنفاق تحت القلعة، أليس كذلك؟" سألتُ لينور.
أومأت ببطء. "نعم، لكنها ليست آمنة. بعضها محمي بتعويذات، وبعضها انهار بسبب الزمن. لماذا تسأل؟"
ابتسمت. "لأن هذا طريقنا."
لم يكن من الحكمة البحث عن المدخل تحت أنظار الناس، لذا انتظرنا حتى هدأت الحركة في السوق. قادتني لينور إلى أحد الأزقة الضيقة، حيث يقف مبنى قديم، نصفه مهجور.
"هناك مداخل للصرف الصحي تحت هذا المكان، لكنها محمية، ولا أظن أن أي شخص يستخدمها بعد الآن."
ركعتُ ومررت يدي فوق الأرضية الحجرية، أغمضتُ عيني وشعرتُ بالظلال التي تسكن الشقوق. هذه الأماكن المنسية تحتفظ دائمًا بأسرارها.
بتركيزي، بدأتُ أسحب الظلال عبر الأرض، وأجعلها تتخلل الصخور، تكشف لي معالم الممرات المخفية. بعد لحظات، وجدتُ ما كنت أبحث عنه—فجوة ضيقة تؤدي إلى ممر حجري، بالكاد مرئية إلا لمن يبحث عنها.
"هناك. أسفل هذا اللوح الحجري."
دفعنا الصخرة جانبًا، فانكشفت فتحة تؤدي إلى درج حلزوني. كان الهواء هنا راكدًا، ورائحة الرطوبة تعبق في المكان.
"لا أظن أن أحدًا استخدم هذا منذ عقود." تمتمتُ.
نزلنا بحذر، وحين وصلنا إلى الأسفل، توقفت لينور فجأة.
"هذه النقوش… إنها تعويذات حراسة. إن لم نتصرف بحذر، فسنطلق الإنذار فورًا."
ابتسمتْ بثقة وهي تمرر أصابعها فوق الرموز المنحوتة، ثم ركعت أمام الجدار، وأغمضت عينيها، وأخذت نفسًا عميقًا. رأيتُ كيف بدأت الهالة الخافتة حولها تتغير، كأنها تُعيد تشكيل الطاقة في الهواء. لم تكن تُبطل السحر بالقوة، بل تفكك بنيته السحرية بهدوء، كأنها تفك خيوط نسيج معقد دون أن تقطعه.
لاحظتُ أن أناملها تتحرك بدقة، تتبع الخطوط السحرية بأطراف أصابعها، حتى بدأت النقوش تبهت وتختفي تمامًا.
"انتهى." همست وهي تقف.
نظرتُ إلى الجدار. لم يكن هناك أي أثر للنقوش التي كانت تتوهج قبل لحظات. لم تُعطل الفخ فحسب، بل جعلته كأنه لم يكن موجودًا أصلًا.
تابعنا تقدمنا عبر القلعة، كلما واجهنا حاجزًا سحريًا، كانت لينور تتوقف، تدرس التعويذة، ثم تفككها كما يفك الموسيقي نوتاته بدقة.
في أحد الممرات، واجهتنا دائرة نقش معقدة على الأرض.
"هذا ليس مجرد إنذار…" تمتمت لينور وهي تدرس الرموز.
"ما هو إذن؟"
"مصيدة زمنية. لو دُسنا عليها قبل تعطيلها، لكنا عالقين في حلقة زمنية، نعيش اللحظة نفسها مرارًا حتى يمسك بنا الحراس."
"أتستطيعين تفكيكها؟"
"بالطبع، لكنني سأحتاج إلى دقيقة إضافية."
راقبتُها وهي تضع راحة يدها على الدائرة، ثم بدأت تسحب الطاقة منها، تفككها برفق دون أن تترك أي اضطراب. بعد لحظات، تحولت الدائرة إلى مجرد زخرفة منقوشة، بلا أي أثر سحري.
سرنا عبر الأنفاق المظلمة، وكان عليّ استخدام ظلالي لإخماد صوت خطواتنا كي لا نُحدث أي ضجيج قد يتردد صداه في الممرات العتيقة.
بعد مسافة غير قصيرة، وصلنا إلى ممر حجري أوسع، وهنا، توقفتُ.
"هذه الأرضية..."
انحنيتُ ولمستُ الحجارة—كانت باردة أكثر من المعتاد، وهذا يعني شيئًا واحدًا:
"إنها فخ."
التفتُ إلى لينور. "يمكنكِ التعامل معها؟"
أومأت بهدوء، ثم جلست على الأرض، وبدأت تمرر أصابعها على الأحجار، تتلمس النقوش غير المرئية.
أغمضت عينيها للحظات، ثم بدأت الطاقة تتلاشى ببطء من الأرضية، حتى اختفى أثر التعويذة تمامًا.
"الآن يمكنك العبور."
قفزتُ بخفة فوق المنطقة التي كانت مشبوهة، ثم تابعتُ معها التقدم دون أي عوائق.
عندما وصلنا إلى نهاية النفق، واجهتنا بوابة حديدية ضخمة. لم تكن مقفلة بالقفل العادي، بل بنظام ميكانيكي معقد من التروس، وكان فتحها بالقوة سيصدر ضجيجًا.
"دقيقة."
مررتُ يدي على المعدن البارد، ثم أرسلتُ الظلال داخل الآلية نفسها. شعرتُ بتعقيدات التروس، وبدأتُ أدفع الأجزاء الداخلية بهدوء حتى يتحرر القفل من دون صوت.
— " يبدو أنهم لم يغيروا نظام الحمايه أو حتي قفل الباب من عقود طويله."
قلت في شيئ من السخريه
نظرتُ إلى لينور. "نحن داخل القلعة الآن."
أومأت بصمت
الدخول إلى القلعة لم يكن النهاية، بل البداية فقط. عليّ الآن استخدام الظلال ليس فقط للاختباء، بل للتنقل دون أن يلاحظنا أحد.
الاندماج في الظلام: كلما اقترب منا أحد، كنتُ أسحب الظلال حولنا، مما يجعلنا غير مرئيين للحراس المارين بجانبنا.
كنتُ أستخدم الظلال لمسح آثار أقدامنا، ومنع أي مصدر ضوء قريب من إلقاء ظلال طبيعية قد تكشف وجودنا.
لم يكن علينا المشي في الممرات الرئيسية، بل عبر الخزائن الكبيرة، خلف الستائر الثقيلة، وحتى عبر الفتحات الصغيرة التي تربط الغرف ببعضها و الممرات السريه التي دلتني عليها لينور.
عندما وصلنا إلى السلم المؤدي إلى الطابق العلوي، التفتتُ إلى لينور وقلتُ بصوت خافت:
"من هنا، سنكون أقرب إلى ليلين، لكن أيضًا أقرب إلى الخطر."
ابتسمت ابتسامة باردة. "هذا يجعل الأمر أكثر إثارة."
نظرتُ إلى الأعلى، نحو الطوابق التي تفصلنا عن هدفنا.
"إذن، لننهي هذا الأمر."
23تم تحديث
Comments