وقف إلرياس وكايلن في القاعة العظيمة، حيث لم يتبقَّ سوى آثار الطاقة التي مزّقت المكان قبل لحظات. كان الصمت ثقيلًا، يحيط بهما كما لو كان كائنًا حيًّا يراقبهما. ظل كايلن يحدّق في الفراغ الذي اختفى فيه الدرع، يده لا تزال ممدودة إلى الأمام، وكأنه يأمل أن يعود إليه بطريقة ما.
أما إلرياس، فكان أكثر هدوءًا، لكن عينيه كانتا تضجان بأسئلة لا حصر لها. استدار إلى والده، الذي وقف صامتًا، عيناه معلقتان بمكان البوابة التي اختفى عبرها ذاك الكائن المظلم. أخيرًا، كسر إلرياس الصمت، بصوت متزن لكنه مشحون بالريبة:
"أبي… من كان ذلك الرجل؟"
لم يُجب ألينيوس فورًا. مرّر يده على وجهه، زفر ببطء، ثم قال بصوت خافت:
"اتبعاني."
تحرّك عبر القاعة، وتبعه ابناه بصمت، بينما يقودهما إلى الممرات القديمة للقلعة. خطواتهم كانت هادئة، لكنها مشحونة بالتوتر. لم يكن كايلن قادرًا على كبح نفسه أكثر، فاندفع بجانب والده، صوته يفيض بالغضب المكبوت:
"لماذا أخذ الدرع؟ لقد كان إرثنا، أليس كذلك؟!"
توقف ألينيوس عند بابٍ حجريٍّ ضخم، التفت إلى ابنه، وعيناه لمعتا بحزم:
"لا، لم يكن إرثنا. كان دائمًا ملكًا له."
ثم رفع يده ولمس حجارةً منحوتة عند الباب، بدأت تتوهج بوميض أزرق، قبل أن يُفتح الباب ببطء، كاشفًا عن قاعة قديمة، تملؤها نقوش وتماثيل لمخلوقات غريبة. وسط القاعة، كان هناك جدار ضخم، نُحتت عليه صورة لمخلوق مكسوٍّ بالظلال، عيون متوهجة تحدق في العدم، وأجساد تلوذ بالفرار من حوله.
وقف ألينيوس أمام الجدار، صوته كان منخفضًا لكنه يحمل ثقل المعرفة:
"ذلك الرجل… لم يكن مجرد محارب. لم يكن حتى بشريًا كما نفهم نحن البشر. لقد كان شيئًا آخر، شيئًا لا ينبغي أن يوجد."
ضاقت عينا إلرياس، حدّق في الرسم، ثم التفت إلى والده:
"ما الذي كان عليه إذن؟"
ألينيوس لم يجب على الفور. نظر إلى الجدار، كأنه يستعيد ذكرى قديمة، ثم قال ببطء:
"كان يُعرف بأسماء كثيرة، بعضها نُسي مع الزمن. لكن أقوى لقب التصق به كان ‘الكارثة الأولى‘. ليس لأنه أباد الجيوش، بل لأنه لم يكن مجرد رجل، بل كان الظلام ذاته. كانت قوّته تتجاوز مفهوم القوة الذي نعرفه. لم يكن يتحكم بالظل فقط، بل كان يستطيع أن يشكّله، أن يُعيد خلقه، أن يجعله ينبض بالحياة."
حدّق كايلن في والده بصدمة، لكن إلرياس لم يكن مقتنعًا تمامًا، فطرح سؤاله ببرود:
"إذا كان بهذه القوة، فلماذا لم يسيطر على كل شيء؟"
ضحك ألينيوس ضحكة خافتة، لكنها كانت مريرة.
"لقد حاول. لكنه لم يكن لا يُهزم، مهما ظنّ ذلك. الكيانات العليا، أولئك الذين يُقال إنهم فوق الزمن ذاته، لم يستطيعوا قتله… لكنهم استطاعوا فعل شيء آخر. لقد سلبوا نصف قوّته، وحبسوها في قناعٍ غريب، ثم قاموا بتحطيمه إلى ثلاثين جزءًا، ونثروا كل جزء داخل سلاحٍ قوي في عوالم مختلفة. أحد تلك الأجزاء… كان الدرع الذي كنتَ تحمله، كايلن."
قبض كايلن يديه بقوة، الغضب يتصاعد في صدره:
"إذاً، لم يكن لي حقًا… لم يكن إرثًا لعائلتنا؟"
ألينيوس لم يقل شيئًا، لكن صمته كان كافيًا.
إلرياس، الذي كان يستمع بصمت، سأل أخيرًا:
"ما الذي كان يبحث عنه؟ لماذا دمّر العوالم؟ هل كان هناك هدف لكل هذا؟"
نظر ألينيوس إلى الجدار مرة أخرى، كأنه يرى الماضي أمامه.
"لا أحد يعلم. البعض يقول إنه لم يكن ينتمي لهذا الوجود، أنه كان شيئًا غريبًا عن نظام العوالم. البعض الآخر يزعم أنه كان بشريًا ذات يوم، لكنه تغيّر… أو تحوّل إلى شيء آخر."
تبادل كايلن وإلرياس نظرات القلق. كانت هذه القصة تتجاوز ما تخيلاه. لكن ألينيوس لم ينتهِ بعد، نظر إليهما مباشرة وقال بحزم:
"ما يهم الآن… هو أننا يجب أن نمنعه من استعادة كامل قوّته. لأن إن فعل… فلن يكون هناك شيء قادر على إيقافه."
صمت إلرياس للحظة، ثم قال بهدوء:
"هل نستطيع ذلك؟"
ألينيوس لم يُجب فورًا. كان يعلم أن الإجابة الحقيقية ليست مشجعة. لكنه قال بصوت منخفض:
" لا ادري."
وسط الحشود، كنتُ مجرد ظلٍّ آخر، ملامحي طُمست وسط ضجيج المكان، وخطواتي لم تُحدث صدى. لم يكن أحد يلتفت إليّ، لم يكن أحد يرى ما لا يريد أن يراه.
شعرتُ بالطاقة تتدفق داخلي، ذلك الكسر الضائع الذي استعدته أخيرًا. الدرع لم يعد مهمًا، لم يكن سوى وعاء لشيء أكبر، شيء انتُزع منه وعاد لي حيث ينتمي. رأيتُه بين يدي كايلن، فارغًا الآن، مجرد معدن ميت بلا روح. كان يعلم ذلك، رأيتُ في عينيه إدراكه البطيء لحقيقة ما حدث. لكنه لم يكن مهمًا بعد الآن.
تحركتُ بين الجنود، بين الوجوه التي تحمل مزيجًا من التساؤلات والذهول، لكن لم يتجرأ أحد على رفع عينيه نحوي. جيد. لم أكن بحاجة إلى مزيد من العوائق الآن.
البلورة أمامي، نبضها يُقاومني للحظة، كما لو كانت تدرك حقيقتي. لكنها لا تملك خيارًا. لا شيء يملك خيارًا أمامي.
مددتُ يدي، وشعرتُ بالحدود تنهار. إيلثار. وجهتي التالية. عالم آخر، جزء آخر، خطوة أقرب إلى اكتمالي.
لم يتحدث أحد. لم يجرؤ أحد. وفي اللحظة التي مزّقتُ فيها الستار بين العوالم، لم يكن هناك سوى الصمت.
21تم تحديث
Comments