وقف كايلن أمام باب المخزن العتيق في منزل والده، يحدّق في القفل الحديدي الثقيل الذي بدا كحارسٍ صامتٍ على إرث ألينيوس العظيم. كانت الظلال تلتحم حوله، والهواء مشبعًا برائحة الخشب القديم والغبار. كل جزء من هذا المكان يذكّره بقوة والده، بهيبته، بذلك الإرث الذي لم يكن له يدٌ في اختياره.
لكن الآن، سيكسر القيد بيده.
أخرج مفتاحًا صغيرًا، نسخة سرية صنعها أحد الحدادين الذين يدينون له بولاء صامت. كانت يده ثابتة وهو يُدخل المفتاح في القفل. مع صوت طقطقة خافت، انفتح القفل، وكأن المكان كله حبس أنفاسه للحظة. دفع الباب بحذر، ليكشف عن ظلامٍ عميقٍ في الداخل.
كانت هناك صناديق محكمة الإغلاق، وأسلحة مغلفة بالقماش، لكنها لم تكن تهمّه. كان يعرف طريقه. تقدم في الممر الضيق، حتى رأى الصندوق الذي يحمل رمز عائلته. ركع أمامه، ومدّ يده بتردد، ثم أزال الغطاء الخشبي.
وهناك كان: درع ألينيوس.
لم يكن درعًا عاديًا، كان قطعة من المجد ذاته. معدنه لم يكن ذهبًا، لكنه لمع تحت ضوء المشعل كأنه يتنفس، وكأنه يملك وعيًا خاصًا. زخارفه العريقة لم تكن مجرد نقوش؛ كانت قصصًا محفورة، حكايات نُسجت من دماء المعارك وانتصاراتٍ لا تُحصى.
مدّ كايلن يده، وأصابعه تلامس سطح الدرع البارد. ارتجفت أنفاسه للحظة. كان هذا هو الفاصل، الحدّ بين كونه مجرد "ابن ألينيوس" وبين أن يصبح شيئًا مختلفًا، شيئًا أكبر.
لكن، هل هو مستعدٌّ لحمل هذا العبء؟
-"أنت أحمق."
تجمّد كايلن. كان الصوت خلفه، هادئًا، لكنه يحمل تحذيرًا صلبًا كالنصل. التفت بسرعة، ليجد إلرياس واقفًا عند الباب المفتوح، عيناه الداكنتان تضيقان بحدة. لم يكن هناك غضب ظاهر، لكن كايلن عرف أن شقيقه لا يحتاج للصراخ ليحمل كلماته سيفًا مغروسًا في قلب الحقيقة.
-"إلرياس... ما الذي تفعله هنا؟"
خطا إلرياس إلى الداخل، نظراته لا تفارق الدرع الذي يحمله كايلن. لم يكن بحاجة إلى تفسير، كان يعرف جيدًا ما يحدث.
-"بل السؤال هو: ماذا تفعل أنت؟ هل تدرك حتى ما أنت بصدد القيام به؟"
كايلن شدّ قبضته على الدرع، وكأنه يخشى أن يُنتزع منه. نظر إلى شقيقه، وشعر بتلك الهوة التي بدأت تتسع بينهما منذ لقائهما بذلك الرجل في ساحه الغروب.
-"أنا... أنا فقط أفعل ما يجب فعله. هذا حقي، إلرياس."
ضحك إلرياس ضحكة قصيرة، لكنها كانت خالية من أي مرح.
-"حقك؟ منذ متى؟ أم أنك تقنع نفسك بأنه ليس سرقة؟"
كان هناك شيءٌ في صوته جعل كايلن يشعر بوخزةٍ في صدره. لكنه لم يكن مستعدًا للتراجع الآن.
-"أنت لا تفهم. طوال حياتي، كنتُ في ظل والدي. الجميع يقارنونني به، يتوقعون مني أن أكون نسخة عنه. لكنني لست هو، إلرياس! إذا لم يكن لي الحق في هذا الدرع، فلمن إذًا؟"
إلرياس عبر المسافة بينهما بخطوات ثابتة، حتى أصبح على بعد أنفاس قليلة.
-"لكن ليس بهذه الطريقة، كايلن. ليس بالخيانة."
كانت الكلمة الأخيرة ثقيلة، كأنها حجرٌ ألقي في بحيرة هادئة، يخلق موجاتٍ لا نهاية لها.
كايلن أشاح بوجهه، لا يريد أن يرى انعكاس صراعه الداخلي في عيني شقيقه.
-"أنت لن تفهم أبدًا. أنت لست أنا."
تنهد إلرياس، وكأنه يرى أمامه شخصًا يعرف أنه فقده بالفعل.
-"ربما لا أفهم كل ما تشعر به، لكنني أفهم هذا: إذا مشيت في هذا الطريق، فلن يكون هناك عودة. والدي لن يغفر لك. وأنا..."
تردد، وكأن الكلمات كانت تخنقه، لكنه قالها في النهاية:
-"...لن أغفر لك أيضًا."
قبل أن يتمكن كايلن من الرد، حدث ما لم يتوقعه أي منهما.
فتح الباب خلف إلرياس، و انتشر هواء شديد في كل اتجاه. قوةٌ غير مرئية دفعت الشقيقين بعيدًا عن بعضهما، واهتزت جدران المخزن كما لو أن زلزالًا قد ضربه.
ألينيوس بنفسه قد وصل.
وقف في مدخل المخزن، يحيط به وهج مشاعل الحراس، وعيناه كجمرتين متقدتين في الظلام. لم يكن هناك غضبٌ صاخب، ولا صراخ. فقط حضورٌ ثقيل، كأن الغرفة ضاقت على نفسها في وجوده.
حدّق في كايلن، ثم في الدرع الذي يحمله.
-"كنت أظن أنك تعلمت الدرس منذ زمن، كايلن."
صوته كان باردًا، لكنه يحمل نصلًا خفيًا.
كايلن حاول أن يتحدث، لكن الكلمات خانته. لأول مرة منذ قرر أن يسلك هذا الطريق، شعر بأنه طفلٌ صغير، يقف أمام جبروت والده دون سلاحٍ يحميه.
إلرياس نهض ببطء، ومسح العرق الذي تسرب من جبينه بفعل جراء التوتر . نظر إلى والده، ثم إلى كايلن، ولم يكن هناك شكٌّ فيما رآه.
هذه لم تكن مجرد مواجهة هذا كان الحكم.
"الآن، اختر يا كايلن. من ستكون؟"
كانت تلك كلمات ألينيوس الأخيرة قبل أن يخطو إلى الداخل، تاركًا ظلاله تمتدّ فوق ولديه، كأنها سلاسل لا يمكن كسرها.
وفي تلك الليلة، لم يكن القمر وحده هو الذي اختفى خلف الغيوم.
ظل الصمت مشحونًا بين الثلاثة. كايلن، والدرع بين يديه، إلرياس الذي يقف بينه وبين ألينيوس، والوالد نفسه الذي بدا كجبل لا يتزحزح، مهيبًا كأنه امتدادٌ لهذه القلعة العتيقة.
أخذ كايلن نفسًا عميقًا، وأجبر نفسه على مواجهة والده، رغم أن كل خلية في جسده كانت تصرخ بهروبٍ يعرف أنه مستحيل.
-"أبي، لم أكن أنوي..."
رفع ألينيوس يده، فتوقفت كلماته قبل أن تكتمل. كانت تلك الإشارة وحدها كفيلة بإسكاته، كما فعلت طوال سنوات.
-"لم تكن تنوي ماذا؟"
كانت نبرة صوته هادئة، لكنها حملت ثقلًا مرعبًا.
-"لم تكن تنوي سرقة إرثٍ ليس لك؟ لم تكن تنوي خيانة دمك؟ أم أنك لم تكن تنوي أن يتم كشفك؟"
العار اشتعل في صدر كايلن، لكنه شدّ قبضته على الدرع.
-"أنا لا أخون دمائي. هذا حقي، كما كان حقك قبلي. لا أريد أن أعيش في ظلك إلى الأبد!"
شيءٌ قاتم مرّ في عيني ألينيوس، شيء لم يتمكن كايلن من قراءته بالكامل، لكنه شعر به يضغط على صدره، كأن الهواء أصبح أثقل.
-"تظن أن المجد يُسرق، كايلن؟ تظن أنك تستطيع حمل ما لم تُخلق لتحمله؟"
تقدّم خطوة، وتبعثرت ظلاله تحت نور المشاعل.
-"هل تعتقد أنك ستكون أقوى بهذا الدرع؟ أنه سيجعل منك شيئًا أكثر مما أنت عليه الآن؟"
كايلن لم يتراجع، لكنه شعر بجفافٍ في حلقه.
-"أنا... سأصنع مجدي الخاص."
كانت هناك لحظة صمت، ثم فجأة، ضحك ألينيوس. لم تكن ضحكة ساخرة، ولا غاضبة، بل ضحكة منخفضة، كأنها تحمل شيئًا أعمق من أي ازدراء.
-"إذن، لتثبت ذلك لي."
كايلن تجمّد.
-"ماذا؟"
رفع ألينيوس يده، وأشار إلى إلرياس.
-"أخوك قال إنه لن يغفر لك. إن كنتَ تريد أخذ هذا الدرع، فعليك أن تثبت أنك تستحقه. قاتل، يا كايلن."
إلرياس استدار ببطء نحو والده، ملامحه غير مصدقة.
-"أبي، هذا جنون. نحن لسنا أعداء."
ألينيوس لم ينظر إليه حتى.
-"إن كان كايلن يريد أن يخرج من ظلي، فليُرني كيف سيفعل ذلك."
كايلن نظر إلى إلرياس، وإلرياس نظر إليه.
لم يكن الأمر مجرد اختبار، لم يكن مجرد قتالٍ بين شقيقين.
كان هذا إعلانًا.
إما أن يتخطى كايلن هذه الليلة كرجلٍ مستقل، أو يغرق أكثر في ظلال والده.
لم يكن لدى إلرياس درع، لم يكن محاربًا كأخيه. لكنه لم يكن ضعيفًا. كان يعرف كايلن أكثر مما يعرف الأخير نفسه.
كايلن تقدم خطوة، أصابعه تشتد حول الدرع، ثم استل سيفه.
-"إلرياس، لا تفعل هذا."
-"أنا لا أفعله من أجلك."
كانت تلك الجملة الأخيرة قبل أن يندفع كايلن للأمام.
لم يكن هذا قتالًا متكافئًا. كايلن تلقّى سنواتٍ من التدريب في الأكاديمية العسكرية، بينما إلرياس كان فنانًا، لم يحمل سيفًا إلا نادرًا. لكنه لم يكن بحاجة إلى قوةٍ جسديةٍ ليعرف كيف يراوغ.
تراجع إلرياس بسرعة، تحاشى أول ضربة، ثم الثانية، ثم الثالثة. كانت تحركاته أشبه برقصةٍ في الظلام، كل حركة محسوبة بدقة، كل خطوة تجرّ كايلن إلى مزيدٍ من التوتر.
-"أنت تضيع وقتي، إلرياس!"
-"وأنت تضيع حياتك، كايلن!"
وأخيرًا، وجد كايلن فرصة.
ضربة خاطفة، سريعة، قوية بما يكفي لإجبار إلرياس على السقوط. السيف لم يجرح جسده، لكنه دفعه إلى الوراء، حيث اصطدم بالحائط، يلهث من التأثير.
كايلن رفع سيفه، وكأنه يستعد لإنهاء الأمر.
لكن يده ترددت.
كان ينظر في عيني شقيقه، ولم يرَ فيهما خوفًا، بل شيئًا آخر: شفقة.
كأن إلرياس كان يرى أمامه شخصًا فقد طريقه تمامًا.
وذلك الشعور اخترق قلب كايلن أكثر من أي نصل.
-"هذا يكفي."
صوتٌ جديدٌ دوّى في القاعة.
كانت هناك، اقف عند المدخل، وكأن الظلال أنجبتني من العدم.
كنت مرتديًا نفس المعطف الطويل، نفس الابتسامة الباردة على شفتي، وكأن كل هذا كان جزءًا من لعبتي منذ البداية لاستعاده ذلك الجزء من ألينيوس.
ألينيوس لم يتحرك، لكنه كان يراقبني كما يراقب صيادٌ خصمًا خطيرًا ثم قال.
-"توقعت أن أراك عاجلًا أم آجلًا."
أملت رأسي قليلًا.
-"وأنا أيضًا، ألينيوس."
ثم التفت إلى كايلن و إلرياس ، وعيناي تلمعان بشيءٍ لا يمكن قراءته.
-"يبدو أن اعتمادي علي فاشلان مثلكما كان مفيدا بعض الشيئ."
كايلن شعر بشيء باردٍ يزحف في عموده الفقري.
-"ماذا... تقصد؟"
ابتسمت، وتقدّمت خطوة.
ثم، دون سابق إنذار، اختفى اللهب من المشاعل، وابتلع الظلام كل شيء.
21تم تحديث
Comments