قال أبي : هل سنبقى تحت حر الشمس كثيرًا؟ شغل السيارة وتحرك و سأحكي لك في الطريق.
أدرت محرك السيارة وعيني على بوابة المقبرة رغبة مني بإلقاء نظرة على ذلك الرجل الغريب لكني لم أجد له أثرًا عند مروري من أمامها.
فتحت الحوار مع أبي بسؤاله:
ما الذي كان يعاني منه قريبنا ؟
قال أبي : بصراحة لم تربطني به علاقة وثيقة لكن كل ما أعرفه عنه أنه كان رجلا عصاميًا بنى نفسه بنفسه وكان متفوقا في دراسته وكان يعمل في وظيفة حكومية حتى زواجه ثم قرر فجأة تقديم اسقالته والخوض في التجارة.
فقاطعت أبي وقلت:
وهل فشل فيها ؟
أبي بالعكس تماما .. لقد نجحت تجارته في وقت قياسي وأصبح من الميسورين، وكان في وقت من الأوقات أثرى أثرياء الأسرة.
فقلت:
لكن منزلهم الحالي لا يدل على ثرائهم.. بل إنه مقيم مع ابنه ولا يملك منزله الخاص.
أبي :
دعني أكمل ولا تقاطعني...
فقلت :
عذرا.. تفضل يا أبي
قال أبي :
إن قريبنا في قمة نجاحه وثروته قرر فتح فروع لتجارته في بعض البلدان الخليجية وبدأ بالفعل في تأسيس تلك الفروع والإشراف عليها من وقت لآخر بالسفر وحده أو بصحبة زوجته وأطفاله أحيانًا. وفي إحدى تلك السفرات التي كان فيها وحده وحسب ما أخبرت به زوجته فيما بعد أنه عاد متغير الطباع وأصبح متوترا وحاد المزاج وبدأ يهمل تجارته ولم يعد يخرج من المنزل كالسابق ومع مرور الوقت بدأت أعماله التجارية بالانهيار لولا أن زوجته حصلت على توكيل منه وقامت ببيع كل أصول ثروته ولحقت ما استطاعت من الأموال. توقفنا في تلك اللحظة عند إشارة ضوئية فالتفت نحو أبي وقلت :
وماذا حدث بع؟ذلك ؟
قال أبي بقي على حاله بل زادت حالته سوءا وكان يختفي لفترات
طويلة ويعود فجأة ولا يذكر لأحد عن المكان الذي كان فيه أو ما حدث له. كبر أبناؤه وتقبلوا فكرة أن أباهم قد فقد عقله وخلال تلك السنوات صرفت زوجته أموالا كثيرة في محاولة منها لعلاجه لكنها لم تجن سوى الإفلاس والديون. ولم تخرج من تلك الثروة إلا بذلك المنزل الذي تزوج فيه ابنه.
اشتعل ضوء الإشارة الخضراء ولم أنتبه إلا من أصوات منبهات
السيارات التي خلفي فتحركت بسرعة وقلت لأبي:
وما قصة موت أحد أبنائه؟»
قال أبي:
في إحدى المرات التي غاب فيها قريبنا عن المنزل جاء اتصال
لمنزلهم و أخبرهم المتصل أن أباهم موجود في دولة خليجية ويريدون منهم الحضور لاستلامه فخرج ابنه الكبير وحجز تذكرة لتلك الدولة وبعد سفره بساعات دخل أبوهم عليهم في المنزل وكعادته كان سارحًا وفي حالة يرثى لها وأنكر وجوده في تلك الدولة وذهب لغرفته بكل برود وأغلق على نفسه الباب. فقلت لأبي:
وماذا عن ابنه؟»
قال:
اتصل من تلك الدولة وقال لهم إنه لم يجد أباه وإن الذين اتصلوا بهم قالوا إنه رحل فجأة فأخبرته أمه بأن أباه موجود في المنزل منذ البارحة. أخبرهم الابن بعدم السماح له بالخروج حتى يعود لأنه يريد إخبارهم بشيء مهم.
فقلت لأبي :
وماذا قال لهم عندما عاد؟»
قال أبي :
لم يلحق لأنه مات في حادث مروري وهو قادم من المطار.
فقلت:
لا حول ولا قوة إلا بالله .. وماذا حدث بعد ذلك ؟
قال أبي :
لا شيء.. بقي الرجل مع زوجته وابنه الثاني في ذلك المنزل حتى كبر الابن وتزوج وتوفيت الأم بعد زواج ابنها ببضعة أعوام. عدت للمنزل وأنا أفكر في كلام أبي عن قريبنا وفي صورة ذلك الرجل الغريب التي لم تفارق خيالي ولا أعرف لماذا، لكني وبمجرد وصولنا ودخولنا للمنزل بحثت عن كتاب القرين وعندما وجدته فتحته وقرأته مرة أخرى وانتبهت لكلمة (دجن) المكتوبة في صفحة التحضير بخط مختلف ولم تقدني لشيء فوضعت الكتاب وخرجت كعادتي في التاسعة مساءً للقاء أصحابي.
في منتصف الطريق تعطلت السيارة وتوقفت ولم أعرف ما بها فنزلت وفتحت الغطاء لأتفحصها لعلي أجد سببا لذلك العطل وإذا بصوت يأتي من خلفي ويقول:
سلامات.. سلامات.. عسى ما شر؟!
فنظرت خلفي وإذا به ذلك الشخص الغريب الذي رأيته في المقبرة
فجف ريقي وبدأ قلبي بالخفقان وقال لي وهو يبتسم:
تبي أساعدك في شيء؟»
فقلت بصوت منخفض :
لا ، وشكرا .. يمكنك الرحيل ... فذهبت الابتسامة من على وجهه وبدا عليه الغضب وقال لي بنبرة حادة
من هو أنت عشان تأمرني ؟!!
فنظرت له باستغراب وتعجب وقال بالنبرة نفسها:
رح لربعك ولا تتأخر عليهم !!»
رحل الرجل ماشيًا على قدميه ووقفت بعدها متسمرا لفترة من الزمن أنظر له وهو يرحل حتى غاب عن ناظري. جلست في السيارة وأمسكت المقود ولم أتحرك لفترة ليست بالقصيرة. كنت خائفًا من تشغيل السيارة ولم أعرف لماذا لكني في النهاية جربت إدارة المحرك كمحاولة أخيرة والذي دار فجأة.
دخلت على أصدقائي قبل اكتمال الساعة العاشرة مساءً بخمس
دقائق وعلى غير عادتي كنت هادئا وقليل الكلام والمشاركة في الحديث وكان بعض أصحابي يلعبون الورق وخلال لعبهم التفت إلي أحدهم
وقال:
في واحد سأل عنك قبل ما تجي ...
فقلت له : مَنْ ؟
سألته وأنا قلبي يخبرني بأنه ذلك الشخص الغريب الذي صادفته في المقبرة وعند تعطل سيارتي وكان ظني في .
محله فقد أخبرني أصدقائي أن شخصا غريب الشكل والثياب طرق عليهم الباب وعندما فتحوا له سأل عني بالاسم فأخبروه أني في الطريق وطلبوا منه الدخول لانتظاري لكنه رفض دعوتهم ورحل وهو يقول:
«أنا أصلا بشوفه الليلة..»
كان أصدقائي يخبرونني بذلك وهم يضحكون عليه ويستهزئون
بشكله ولبسه ويسألونني قائلين:
من وين تعرف هالأشكال ؟!»
وكنت أبتسم مجاملة لهم وأنا في قلبي خوف من هذا الرجل وظهوره المفاجئ في حياتي وسؤاله عني بهذا الشكل الغريب وهو يعلم أني كنت بجانب سيارتي المعطلة.
في نهاية الليلة وكالعادة توجهت للمنزل وعدت لغرفتي واستلقيت
على فراشي وقبل أن أغفو سمعت صوتا قريبا مني. كان الصوت أشبه بصوت شيء يتحرك على الأرض ومع أن المكان كان مظلما لكني أحسست أن هناك من يراقبني أو يجلس أمامي.
أغلقت عيني في محاولة مني لتجاهل ذلك الإحساس لكن بعدها .....
31تم تحديث
Comments