ذِكرى أبريل | المرَّات السَّبع
_
أتعلم، الأمر مؤلمٌ جدًا!
كانت هُنالِك متاهةٌ سَوداءُ، أجري بِها دونَ توّقف!
كانت الظِّلال تُلاحقني في كلِّ ذكرى ربيعيّة بعنوانِ ذكرى أبريل!
كانَ أبريل أسوء الشّهور الّتي مرَّت بحياتي كلّها، فهو يحمل ذكرى يَهوى القلب نِسيانها.
كانَ الحُبُّ مَمحوًّا من قَلبي، كانَت هُنالِك نقطَةٌ سَوداء تَكبر بِسرعةٍ خياليّة كبيرة جدًّا!
وقَد أحرَقت قَلبي ونَّثرت دِثاءَه في شتاتٍ ربيعيِّ الثَّراء!
أزهار السّاكورا تُزهر كلُّ عام فـي أبريل، وأنا كُنتُ أموت في كلِّ أبـريــل!
"لطـالما كَرِهتُ أبي بِقدر ما أحـببتُه!"
«لِمَ؟»
أحَقًّا كَرهتُه بدرجةِ حُبّي لَـه؟
الموضوع كان صَـعبًـا في كُل مـرَّة أفـكر فـيه، مراهِقَةٌ مرهقَةٌ من العَيش أنا!
«في صِغري، علَّمني والِدي أنْ أبتَسِم دائِمًا، وفي كلِّ شيء، ولأنني -قد كنتُ- أطمح إلى المِّثالية في عَينيهما كنتُ أبتسمُ باتّساعٍ وقُبح!
أبتسم كلما نظرتُ إليهما -أو لغَـيرهما- ابتسامةً تشقُّ كامل وجهي، لكنِّني لَم أعلم وما زلتُ لا أعلم ما هيَ وما معناها!
أضحكُ بصَخَبٍ وبصوتٍ مرتفع جِدًّا، ولَكم كان الأمر مقزِّزًا!
إنَّه دائِمًا يَجعلُني أشعرُ بالقرفِ من تِلكَ الذكريات!»
الانتفاض مِن سَرير الذِّكريات كانَ صَعبًا، رغم خُلوّه من العقبات القاسِية، إلا أنني كنت دائِمًا أخرجُ منها منهمِكةً، فَأستلقي بَعدها على سَرير الحُزن لذَرفِ دموع حارِقة.
استنشاقُ عفيف الذكريات من القلبِ كُلّ يومٍ خانِقٍ ووقِح، لا يُغادِر جَوفي قطّ، بل يعلقُ داخِلا مَع رَغبَةٍ لذرفِ الدّموع، وأنا أرفض هذه الرَّغبة وبِشدَّة، حقّا!
«لمَ أبتَسم؟»
نظرتُ أمامي وأُعدتُ سؤالي بـِنبـرةِ مرهَقة!
«لـمَ أنـا أضـحَـك؟»
تَساءلتُ مَع عِيونٍ باهِتةٍ للّذي يَجلِسُ أمامي في مئزرٍ أبيض لَطيف، لا بُد إن نَقاءَهُ زائِفٌ كابتِسامتي!
«لَطالَما تَسائلت، لمَ أنا أضحَك؟»
لَيسَ وكأنّني أُريدُ ذلكَ، لَم أُحبّذ الابتسامة ولو بأي طَريقةٍ، كنتُ أرغبُ بالشّعور بِها، عِندما تُزيّن شِفاهِي البَتراء بِبيداءِ الابتسامة، لكنّني لَم أستشعرها إلا قاحِلَةً فاترةً لا حياة فيها!
«الابتسامات والضَّحكات أشياء روتينية في حيّاتنا الاعتيادية، نحن نبتسم فقط لأنّنا نودُّ أن نَكون طبيعين، ألّا نَشعر بالفرقِ بين ذاتنا وبين الآخرين.»
الفرق؟ لطالما كُنتُ ذاتَ رأيّ مُختلفٍ، صُحبَةً منعدمة، صخبًا خافتًا، وحياةً لا مَعنى حرفيَّ لَها، فَلِمَ أشعر بالفَرقِ وأنا الفرقُ ذاتُه؟
لا أعلم حتّى الآن لِمَ أنا هنا؟
لِمَ عليّ أن أجلس كلَّ يومٍ وأشرحَ له ما أشعر بِه؟ لِم حتّى أخبرهُ عن شِعوري الخافت؟
لِم أهتم لجلساتِنا هذه كلَّ يومٍ؟
أستطيع وباختصار أن أتَّغيب عنها، وعندئِذ لَن أضطَر لسّماعِه يَتفلسف ككلّ مرّة.
«هَل لَكِ أن تَتكلمي عن أول محاولة لكِ للانتحار؟»
رفعتُ له بصري بضجرٍ وببطئ، هل سَينصدم إن عرف كيفَ كانت أول محاولة لي؟
هل يَعتقد بأنّ إحياء الذّكريات يُساعِد؟ إن أحياءها بمثابَة أن تَفتحَ جرحًا قد حاولَ ذات مرَّةٍ أن يلتحم، وبدل ذلك التَهب، فزادَهُ ذلك عققًا وِسعًا، بالأخصّ عندما قالَ أعيدي شريط الذكريات.
كنتُ بِعمر كم يا تُرى؟ ولِماذا؟ وكيف حاولت الانتحار؟
هذه أول أسئلةٍ قد خطرت في بالي، هل كُنتُ حقًّا في وَعيي الكامِل عندما قرّرتُ فعل ذلك؟
هل كُنتُ بخير حقّا؟ ولَم أكن أعاني كما أفعلُ الآن؟
«كنتُ بما يُقاربُ سنَّ التّاسِعة، لَم أدرِك أنّ ما فعلتُه وَقتئدٌ يَعدُّ انتحارًا، لكنّني سأقول وبكلِّ ثقَّةٍ أنّني كُنتُ أودُّ المَوت!»
«التّاسِعة فقط؟ أليسَ هذا عُمرا صغيرًا لفتاة تَحاول قتل ذاتِها بِه؟»
نَطقها والدَّهشة تُزيّن مقلتيه، أنا وتَحتَ رَماد الحزن لَم أعرف الطّفولة، الحيّاة قَد أظلمت قَلبي مُنذ بداياتها، ولَم أرَ السَّعادة قطّ، بل كلُّ ما جاوَرني كان الحُزن من صميم القلب!
أشلائي كانَت مظلمة بقدرِ ما كانت مشِعّة بالنِّسبَةِ للآخرين، لم أستطع أبدًا أن أخلق بحياتي أحاسِيس مِثل المُهجة، ولَم أستمد من البَهجة ما هو سعيدٌ أبدا!
«الأمر أنّني لَم أكن كأي طفل عاديّ، كنتُ بالغةً متهوّرة بِقدرٍ ما أنا صغيرة، وكانَ لدى والدي سلاحٌ لا أذكر نوعَه جيدًا لكنّه مسدس بالفعل، ويحوي طَلقةً واحِدة.»
«أحاولتِ الانتحار بِها؟»
«حاولتُ قتل ذاتِي الباهتةِ بها، لكنّ للأسف لم أتوفّق.»
نَظر إليّ مستغربًا، هو يُخبرني أن أكمل الحكاية، لكنّها تفتقِر للذكريات!
للذّكرياتِ خِنجرٌّ تتمنّى إخراجه من قلبكَ، ولها هَمٌّ ووَهم ونزيفٌ دائِمٌ، لا يُمكنُها أن ترحَمك أبدًا؛ لأنَّها عذابٌ للقلب قبل العَقل، ولأنَّنا ذوي قلوبٍ ضعيفة جدًّا.
«كَان من الخَطأ حملُ المسدس في سِنٍّ صغيرة، بتعبيرٍ آخر، كانَ من الخطأ أن أنتحر بِمسدسٍ وأنا صغيرة؛ فَلم يكن خيارًا جيدا للانتحار، أتمنى لو شَربتُ الزِّرنيخ الذي كانَ بأجرارِ والدتي، ألم يكن الموتُ وقتها ليغدو مضمونًا؟».
أتمنى لو استطعت ذلكَ حقّا، أتمنى لو أنّني رَميتُ بجسدي عندما كنتُ على حافة سطحِ منزلنا وقت الغروب، كان الموت سَيكون مضمونًا ولو بِنسبة بِسيطة وأنا صغيرة وقتها.
«هَل لَكِ بإخباري عن سببِ رغبتك العَميقة في الإنتحار؟»
«الألم!»
أغلقتُ عيناي، أذكر جيّدًا ما حاولتُ نِسيانه في السّابق، لَم أكن أعاني من مَشاكل أسرية، ولا من عُنفٍ سواء كان في المدرسة أو المنزل، لكنّ الألم الذي كنتُ أشعر بِه مُختلف، ألم طِفلَةٍ وحيدة، مختلفة، ولا يوجد من يُعطيها حضنًا دافئا، أو أحدًا يَدعوها لِلَّعب مَعه، كنتُ أُنبَذ بطريقةٍ غير مُباشرة من الجَميع، لم يَشعروا بي، ولم يهتموا لأمري في الأصل.
التَّلابيب مِّن القلبِ داكِنةٌ، والسّواد أخذَ مطرحًا جميلًا له، لا تَعلم متّى سَترى في قلبي الحياة، لكنّه بالفِعل ما يزال يَنبض، وهذا ما أريد أن أمحوه، ومن ثُمَّ أتَوقف عَن العيش للأبد. كانَ قلبي مُنزَعجًا من العيشِ مَع أي شخص دخيل، أنا أودُّ أن أكون لِوحدي رُغم كرهي الجمِّ لذلك!
كُنتُ أعاني لِوحدي، مَعَ ذاكرتي وألمي، عِندما كُنتُ مُجرد فتاة خاوية، لا حياة فيها ولا حياء، كانَت الأمور أهون بِقليلٍ، لكنّي بِتُّ لَستُ أنا! أظلّ أعاني وحدي وأقابِلُ النّاس بِوجهٍ لا أعرفَه، بل متّى ولِدَ على وَجهي وملامحي مِثْلهُ حتّى!
عيوني كانت لامِعة دائِمًا، تُنَبّئ النّاظِرَ بأنَّني سَأبكي، لكنّي لم أكن قادِرة على البُكاء يَومًا، دائِمًا ما أمسح الكلام من شِفاهي، أكتِمُ الغِّصَّة داخلي، وأمنعُ عيوني من الفَيضانِ؛ فلا أحد يُمكنه أن يتحمل الثِّقل بِداخلي مهما كان.
يَظلّ يَنحَرني من الدّاخل، يَمنعني مِن أخذ أنفاسي ويَجعلني عبارة عَن مَلحمة من الآلام، لا أعلم كيف أنجو من الصِّراع داخلي لكنّني بالفعل أنتهي مع كل حَربٍ وصراع، أُولَدُ مُجدَّدًا من الألم لأبقى أعاني تَحت آلام القلب ذاتِها، أبقى أتلوى هنا وهناك بسبب ألمٍ لا يَهدأ، حياةٍ بِعمرِها ثائِرة، قلبٍ لا يُسعَد، شِفاهٍ صمّاء، آذانٍ صاخبة، وعيونٍ عمياء، أظلّ أصارع مَع كل شتات يُنير بريقَ أحلامي، مَع كل ظلالٍ أحرقت كافّة أمنياتي، ومَع كل دمعة منعتُها من أن تسقط من جفوني؛ فكيفَ أعود للحياة بَعد كلّ هذه الصِّراعات وأقول «أنا بخير.»؟
عُمري من عادَ من حربٍ، ولم يكن بِخير!
غدت الوحدة تأكلني بِبطئ، وَجعلت منّي مُجرد هيكلٍ بدون روح، فلم أعد أعي معنى أن تكون على قيد الحياة. اليوم أنزِفُ، وبالأمسِ أنزف، وغدًا سوف أنزف أيضًا، أبقى كذلك كل لحظة دون دواء ولا حَشايًا تُسعفني. أبقى هكذا كل يومٍ وأنا أحاول أن أكون بِخير، لكن لا خير فيَّ ولا في قلبي، فكل ما أستطيع أن أراه هو الألم ومشتَقاته.
«لِلألم سَبَب معيّن، لكنَّكِ لا تَعين سَببَ ألمك.»
لا أعي ما أنا فيه؟
هل أستطيع من الأساس أن أعي ما أنا فيه؟
الألم يَنخرُني كما يَنخر النَّمل الخَشب، كُنتُ أعاني وقلبي يَحتضر، لكنّني لَم أجد مُتسعا لفراغي، كانَ الألم كالثِّقب الأسود يأكلني بلا رحمة أو رأفة.
«أنتَ لا تَعلم شيئًا، لكنَّك تدري هذه المقولة: ما خَفيَ أعظم!».
كَمن أخفى سُرَّه بِصمتِه الدّائِم، كانَ الحزنُ مكانَ السّر دائمًا.
لا تَعلم من الحياة شيئا، لكنَّكَ تَعي بأنَّها مؤلمة وغَير منصفة، كيفَ لها ألّا تَكون كذلك!
إمّا أن تكون مُصاحِبًا للألم أو أن تكون مصاحِبًا للسَّعادة، إما أن تكون مَعها أو ضدَّها، لا حلَّ وسطَ ولا طريقَ آخر.
وَنحن كانَ نصيبنا الألم، فلا سَعادة ستَقف معنا ولا حياة ستقفُ بجانِبنا، نَحنُ مَن نوهِم ذاتنا بأنَّها معنا، لم أكن أعلم نفسي سابقًا وأنا أبتسم دائِمًا، وبأنَّ السّعادة تَقف معي، لكنّا نافرتي، لا تستلطفني قطّ.
آه على أيامٍ هُدِرت أسفًا، وكان فيها نَجديّ يَضحكان.
الآن صار من الصّعبِ أن تلمح الابتسامة على مَلامحي أو بينها، كل شيء اختفى، وما قَد أُخفي بصدري أعظم مِّن أي جرح، أعظم مِّن أي ألمٍ، وأعظم من أي ابتلاء!
باهِتَة ومظلمة، لا رونق فيها ولا حياة.
هذه أنا الَّتي غادرت روحها جسدها بلا حولٍ ولا قوة، هذه أنا الَّتي ما تزال تَشتكي لنفسها لأنَّها مجرد أنثى وحيدة. أنا حيثُ أنا دائمًا، واقِفةٌ في بؤرة أحزانٍ لا تستطيع حتّى أن تُنقذُ ذاتَها، بل وبِطريقةٍ ما، قد أحبَّت هذه الفَجوة وما تزال مُنغمسة فيها.
أتساءل أحيانًا إذا متُّ، هل سَتُحاسبني روحي لأنَّني لم أعتن بِها؟
هل سَتجعل منّي آثمة بِحقِّها ومقصِّرة؟ رُبَّما أنا أستحقُّ هذا في النّهاية؛ لأنّني لم أعش يومًا كمَّا يَجب عليَّ، لم أعطِ لذاتي فرصة لتشعر بالحياة رُغم أنّي حاولتُ وحاولتُ، لكنّي لَم أستطع!
أنا الرّباب في عالمي، وروحي مَطِرة، أنا السُّقم في عالمي والحزنُ مطرحي، أنا تَحت خباياي باكية، وكَهيكلٍ قوية، أنا مُجردُ كتلة وحدةٍ، والاكتئابُ في الليل يكون حشايا روحي.
أنا ضائِعة بين صانِعات أحلامٍ، أنا الفاقِدة لذاتي بين الواقع والخيال، أنا لا واقع يحدث لي على ما يرام، ولا أحلام تَدعم الواقع ليكون ما أشاء.
أنا لا حياة لي، كأنّي عابرة سبيلٍ لا صوت لها ولا أثر تتركه عندما تُغادرُ بهدوءٍ، دون انتظار أو لقاء أحد، وحيدة فقط تنظر إلى الّلا شيء.
في ذِكريات أبريل سَيُقدَّسُ اسمي، على أشجارِه وسماءِه الصّافية، على أنهُرِه الهادئة وأمطاره الدّافئة، وسأبقى مَع ذكرياتِ أبريل أعاني من آلامها، سأظلّ عالِقة فيه مَع أمنية وظلالٍ فاترة، وأبقى مَعَ أحزانٍ وظلمةٌ خاضِعة، كمن لا شيء له في هذا الكون، مجرد عائِقٍ لا أهمية له، كرغبة سَتزول في النَّفس لأنَّها غير حقيقية، وكَكلمة حظٍّ زائِلة لأنَّها لحظية، هكذا أنا وهكذا حياتي، مُجرد كتلة من الكآبة لا يُلاحظها أحد.
«هل من الصّعب قول: أنا بخير؟»
نَظرَ لي بَعد أن دامَ الصَّمت بيننا لبرهة، لا يُسمع سوى صَوت الرّياح الَّتي تَجعلني أرغب بالصراخ مَع صوتِ نشيجها.
«أعني، أنا لا أودُّ الخروج من هذه الغرفة، أودُّ أن أبقى فيها دون فعل شيء، حتّى التَّفكير أريد منه أن يُغادرني، وَدون أن يسألني أحدُّ عَن السَّبب.».
لا بأس أنا سأبقى في قوقعةٍ فارغة، لكنّي لا أريد أن أكثر من التَّفكير في أيّ شيء. أريدُ أن أمارس الحيّاة الااعتيادية لكن لا أريد أن أجعل من التَّفكير يأكلني، أنا متعبة بسببه وبشدَّة، هو يرهقني ويقتاتُ منّي ببطء. جعلَ منّي شخصًا لا أعرفه ولا أميِّزه وسط ظلمتِه، حتّى بدأتُ أسأل ذاتي: «من أنا؟».
«عندما تتألمين قُولي أنّك تشعرين بالألم، عِندما تَحزنين قولي أنا أشعر بالحزنِ، عندما تيأسين قولي أنا يائِسة، وعندما ترغبين بالبُكاء فابكي دون تَبرير، لستِ مُجبرة على أن تكوني دائِمًا بخير، لكن الأهمّ أن تُعبري عمَّا بداخلكِ حتّى تكوني بخير!»
التَّعبير عمَّا بداخلي ليسَ بأمرٍ سهل، هو يَقول لي بأن أخرج من الحالة الّتي اعتَدتُها، وأن أتركَ مكاني الصّامت لأخرج إلى الضّوضاء وتنفجر أذناي، لا أنكر بأنَّ أشدَّ ما أكرهه هو الصوت العالي والصّاخب. ليسَ وكأنَّني سَأهدم ما بَنتهُ شفتاي كل هذه المدَّة مِّن صمت لآتي وأقول له أنا أتألم، لا اشعر بشيء مبهج، وكأنّي متوقفة عن الحيّاة، وكأن قلبي لا ينبض إلا بجرحٍ ينزف بغلٍّ وعدم توقف.
الأمر أنّي أودُّ البكاء حقًّا، لكنّي بطريقة ما أجدني أكتم الدّموع في جفني، وكانت عينايَ دائمًا تُعاتبان.
«أنا مرهقة من الألم، أريد أن آخذ استراحة ممّا أشعر بِه، إنَّه ينخرني بِبطء ويقضي عليَّ، وإن لم أكن من أنهيتُ حياتي فهو سَيُنهيني!»
كمَن يجلسُ على قاربٍ لوحدة تائهًا وسط بحر، لا توجد طريقٌ واحد ترشده نحوَ اليابسة، وفي الوقت نفسه أسماك القرش لا تنفكّ تَحوم حوله، الألم يتآكل داخلي ويقتات عليّ كما تَفعل تلك الأسماك بمن يغرقَ، استنجدتُ بهذا القارِب قدر الإمكان لكنَّه لم يستطع تحملي بِسبب ثقلِ أحزاني وهمومي؛ فَوقعتُ غريقة في بحر ألمي ليأكلني وتبقى أشلائي كمخلفاتٍ بأعماقه.
عُمقه بارد وقاسٍ، مظلمٌ وغير مبالٍ. لا يُمكنني التَّنفس لأنَّه يخنقني بشدَّة ويجعلني دائِمًا فاقدة للوعي والواقعِ؛ إذ يجعلني أهرب لخيالي وأحلامي ولكلِّ ما لا واقعَ قاسٍ فيه!
«ذاتي تَختنقُ في كلِّ ليلةٍ وأنا أجاهد حتّى أعيش، الواقعُ رغبتي في عدم العيش هي كل شيء للآن، لم يكن لَدي كأسٌ كبيرٌ كفاية ليتحمّل ما يُعذبني!»
«في الواقع جميعنا لا نَمتلكُ هذا الكأس، بل نَحن من نصنعها، كما تُجاهدين الآن لأقصاء هذا الألم من مراحل حياتك، نَحنُ مَن نقوم بكسر ذلك الكأس، أو ربما نحتفظ به ليومٍ آخرٍ، لَن يتكسر حتّى تَعي ما هي حياتُك، وتعلمي كيفَ تكون السّعادة، لن ينكسر حتّى يُفنى عمرك، وَتنتهي صفحة حياتك، لكنَّ لا حقَّ لك بِكسره و لا حتّى بفناء عمرك!»
لا حقَّ لي؟ أليست هذه حياتي وأنا من يَملكها!
أليسَ من حقّي أن أنهي ألم نفسي وأرتاح؟
أليس من حقّي أن أجعلها تكون بخير؟
لكن، كيفَ عساها أن تكون بخيرٍ وهي في هذه الحياة مظلومة؟
كيف لها إدراكُ الحيّاة وهي لا تعي سوى الدّموع؟
كان كل ما شعرتُ به حتّى هذه اللحظة هو الألم، فكيف سيكون المستقبل يا ترى؟
كل ما أدركه هو بأنّي لن أكون بخيرٍ ما دمتُ على قيد الحيّاة!
«لا تُحاولي أن تكتمي بداخلك شيئًا، تكلمي عمّا تُريدين فقط، وأنا سأستمع لك!».
أتكلم وتستمع! ربّما قد يفيد هذا! هل يَودُّ أن يعلم ما أكتمه؟ كيف أخبره أنَّ ما بداخلي فيضانٌ مكتوم خلف سدّايَ الهادِئين، خلف هذين النَّجدين فائِضٌ مِّن الكلام لا أحد يُدركه غيري.
«إنَّه مؤلمٌ أن تبقى صامتًا لحدِّ هذه اللحظة، لكم هو مرهق، هناكَ فائضٌ مِن الكلماتِ أودُّ إخراجها من خلف شَفتيَّ، أودُّ أن أهدم السّدَّ الَّذي يَمنع شكواي من الخروج، لكنَّه مرهقٌ جدًّا، وأنا لا طاقة لي حتّى أهدمه!».
«لا بأس، طالما تُحاولين فلا بأس! سأكون بجوارك دائِمًا حتّى أستمع لكِ وأرى ألمك، طالما أنا هنا سأساعدك على هدم هذا السّدِّ وأجعلكِ ترتاحين منه!».
__
سأقتل ذاتي من الجسرِ بِدون حياء.
_
Comments