اعتراف| وكر موت

_

اعتراف| وَكرُ موت

_

So mommy when I die, hold me into your arms~

ما أبشعَ الذّكريات حينَ تمرُّ، وما أقسى الآلام عندما تنبتُ، لا أمسيةَ أو ظلَّ قَد يُشفي الجُروح، ولا مِمحاةَ في الواقع يمكنها محو السُّقم!

الذّاكرة مُجرمة بِحقِّ صاحبها، لا تَهتمُّ له ولا تَهيمُ به، تَحفظُ في أرشِفَتِها أسوأَ الذِّكريات وتُمحي أجمَلها، لا نَتذكر مَن رافَقنا في السَّعادة لكن نَتذكر مَن غرسَ شوكة ألمٍ في صدرِنا.

لم يسعني أن أتذكر تلكَ الابتسامات الَّتي قد زيَّفتُها، لم يَسعني أن أرى تلكَ الزَّهرة وهي تَنمو بِداخلي لِتُصبح شجرةً عريقة وصَلبة، لَن يكون مصيري العيش أكثر، فَمن كُتب عليه الموت قَد كُتب سواء كانَ اليوم أو غدًا!

«سأدَعكِ تفعلين ما تَشائين هنا، فقط بشرطٍ واحد!».

مدَّ سَبّابته أمام وجهي لأنظر لها ثُمَّ أعيد نَظري له، بدا لي مُشرِقًا ومُبهجًا، لكن هذه المشاعر لا أراها إلَّا بعينَيَّ، فمَا بالُ معدَتي الَّتي تتقلّب الآن؟!

أومأتُ له مُستَفهمة عن هذا الشَّرط، والَّذي يستَدعيه رفعَ سبَّابته كالأطفال؟

«عليكِ الابتسامُ دائمًا، على الأقل لِنهاية هذا اليوم!».

وسعتُ حدقتيَّ له، الابتسام؟ دائما؟ طوال اليوم؟! حتمًا سَتتشنَّج شفتيَّ بهذه الحالة، أيودُّ منّي الاستمرار في تَزييفِ شكل شِفاهي وأن أُبدي مشاعِرًا غير الّتي أكنُّها في داخلي؟

«تَمزح، أنا لا أستطيع!».

«إذًا لنغادر.».

ما به؟ لمَ هو مُصرٌّ على جعلي أخرجُ من طوري لِطورٍ آخر؟!

لا أفهمُ ما مغزى الابتسام؟ أنا مُرهقة مِّن التَّزيف فلمَ يودُّ جعل شِفاهي تتشنَّج؟ أنا أرغبُ حقًّا بقضاء يومٍ بسيطٍ هنا، سأحاول فهذا اليوم هو فُرصتي، في ميلادِ أخي قمتُ بحماقةٍ وتركت آثارها في قلبِه، والآن النَّدم يتآكل داخلي.

«لا بأس، طالما سأقضي معظم الوقت هنا!».

صَدحَ صوتٌ خارجَ فمي بعدما لمحته يودُّ المغادَرة، التَفتَ لي وهو يَبتسم ليَتقدَّم نحوي آخذًا يدي ناطقًا بِسعادةٍ أجهل مصدرها:

«إذًا، أين سَتكون وجهتنا الأولى؟».

سألني فأخذ حديثُنا مجرًى مشرِقًا، رَكبنا عدَّة ألعابٍ أولها الدّولاب، أحبُّ الألعاب المرتفعة، وكذلكَ الأماكن، الهواء فيها بارِدٌ ونقيٌّ وكذلكَ فيها سكنٌ بعيد عن ضوضاء البشر، فهم دائمًا ما يكونون صاخبين.

فَضلًا عن أنَّها أجمل الأماكن، والموت فيها شبه مَضمون.

الابتسام كلَّفني الكثير لليوم، مُجبرة على الابتسام، مُجبرة على مجاملة مَن يَقفُ بجواري، وددتُ فقط لو أخبره بأنَّه اليوم الأخير الَّذي سَيراني فيه؛ لذا وافقتُ على عرضِه وبقيتُ مبتسمة، فقط لأخبره بأنَّه ليسَ السَّبب؛ فأنا أحتاج إلى مُعجزة لأشفى، مُعجزة لأشعر بسَّعادةِ، مُعجزة أن أبقى على قيد الحياة، لأشعر بِمن أنا، في هذا الكون أشعر بأنَّي لا شيء، أشعرُ بِبعض الأحيان أنّي مجردُ تافِهة تتلوّى ألمًا وبشكلٍ صامت، لا أحد يعلمُ ما أحمله داخلي وما أعانيه، كل شيء يسير بي ببطئٍ وصمتٍ.

لَن تكون هناكَ ليالٍ باردة وعميقة، لا مُظلمة أو متلِفة، لَن تكون هناكَ بعد الآن أمسياتٌ أرافق بها ألمي، سأمحي كل جرعةٍ قادمة منه للأبد، سأجترعُ هذه الكوؤس مرَّة واحدة فقط ويَتنهي الأمر هكذا، لَن أجعل مِن الانتظار يأكُلني، أُكرّرُ اعتذاري لكِ يا أنا، لأنَّني لـن أجعلكِ تعيشين أكثرَ مِن هذا، ولن تُقاسي لتُصبحي مُجردَ ظلٍّ في الدُّنيا.

«أرجوكِ ها، انزلي مِّن هناك!».

واقِفةٌ على شَقِّ مبنى، أتدلّى بِقدميَّ على طريقٍ يَحوي طرفين، الأول تَجد فيه الموت والثاني تَجد فيه الأمان، بِعلُوٍّ شاهقٍ واقفةً أنظر لكم، تلكَ الرُّقعة واسعة وصغيرة، ولكم نَحن أصغر منها!

لا شيء، نَحن نبقى في هذا العالم لا شيء، مُجرد أنفسٍ تَغزو هذا العالم، أنفسٌ تودُّ العيشِ تارة والموت تارة أخرى، لَن أنكر بأنَّني قد رغبتُ في العيش، رغبتُ أن أبقى تَحت أحضانه ولكنَّ النِّهاية لا بدَّ لها مِّن الظّهور، لا بدَّ لمن آن أجله أن يظهر، ومن لم يأتِ فله الحقُّ بالعيش لوقتٍ أطول.

العيشُ كحاضرٍ لا كماضٍ، المستقبل الَّذي تَخافه هو اللحظة الَّتي تعيشها أنتَ الآن، لا تُرهق ذاتك بالتَّفكير فيه وافعل ما يَلزمكُ فعله للعيش فقط، لا تَكن مثلي، وحيدة خائرة القوّى، أنثى فاتِرةٌ مُقبلة على الموت برحابة صدرٍ، فتاة كَتبت نِهايتها بيدِها، ومِن دون مساعدةِ القدر، فتاة لم تهتم للأبواب الَّتي تفتح أمامها.

«لديّ سؤالٌ واحدٌ لك، أولم تَشعري برغبةٍ في الحياة ولو مرَّة واحدة؟».

ابتسمتُ هذه المرَّة له وبِصدقٍ، لَم أقم بتشنيج شِفاهي ولا تَعذيب نَفسي للشُّعور بِها، رُبَّما لأنَّي أعلم لما أنا مقبلة عليه، ولربَّما أنا الَّتي بدأت فعلًا تَفهم ما الابتسامة، فلقد مضيتُ اليوم بأكمله وأنا أبتسم!

«لَقد فعلت، رَغبتُ فيها عندما كنتُ بأحضانك، عندما أنظر لعينيك، عندما تبدأ في عِظَتِكَ، أعلمُ بأنَّي غبية، أعلم بأنّي أجلبُ الألم لنفسي ولغيري، لكن لا أودُّ أن أفتح عينيَّ لأرى الغد، وهذه رَغبة لا أستطيع مَحوها حتّى بِعناقٍ!».

بَعد صمتٍ أجبته، وحاولتُ التماسُك قدر المستطاع، مُتناقضة بِفكري حاليًّا، أودُّ لو يَجعلني أُرمي بذاتي نَحو طرفِ الموت بِهدوء، وأودُّ لو يسحبني لطرفه مُخبِرًا إيَّاي بأنّي بأمانٍ بينَ أكتافه وبأنّي أنتمي له.

في هذه اللحظة وفي كلِّ لحظة مَضت شعرتُ بأنّي مضطربة، متناقِضة، لا أعرفُ ما أريدُه، لا أعلم أينَ مكاني، أفي زُقاقِ الظُّلمة أم بينَ أشلاء ماضٍ؟!

فأخبرني أنتَ أيُّها القارئ، يا من قرأتَ لي أكثرَ من ألفِ سطرٍ وسبعةِ فصولٍ لأيامٍ عابرة قَد مضت مِن أبريل، برأيكَ ما أنا فاعلةٌ بنفسي؟ هل أبواب السَّماء ستُدقُّ من قبل الموت؟!

أحياةٌ بعد هذه مكتوبةٌ لي أم هذا يومي الآخر والأخير؟

فَما الدّموع إلَّا وهي تُسكبُ حزنًا، وما الأحداقُ إلَّا وهي تبكي ألما، وما الشِّفاه إلّا وتَصرخُ ظلمًا؛ فيا حياة غادِري واتركيني، فأنا لا أريدُكِ ولا أدقُّ أبوابك اللعينة!

«ما بالكِ وأنتِ تصلين إلى هذه المرحلة؟ ما الَّذي تتصورين بأنَّكِ فاعلة؟! عودي للأسفل يا ها ولا تَتهوَّري ككلِّ مرَّة!».

لم أجبهُ وبقيتُ أمشي بِهدوء على حافَّةِ الموت، الهواء يَميل بِجسدي نَحو وجهته لكنّي أميل بِجسدي نَحو الموت، ألَّا أتهوَّر كالمرَّة السّابقة؟!

لَن أتهوَّرَ لأنَّها ستكون الأخيرة، قِيل أن رَقم سبعة يَعني السَّعادة، وهو رَقمٌ جالِبٌ للحظ، أسيجلبُ الحظَّ لي كذلك؟!

«التَّمسُّك بأحلامٍ غادِرةٍ لا فائدة ترجى منه، وكذلكَ مُحاولة العيش في حيّاة ناكرة لا فائدة منها، لا أريد لقلبي الألم، لا أريد رؤية الأشواك تُغرسُ بي، لا أودُّ لدموعي أن تُكتم، لا أودُّ لجفوني أن تُحرق، أيامُ حياتي انتهت فقط، لكن بقى شيءٌ واحد فقط عليَّ قوله لكَ قبل إنهائها، على الأقل سأموت مُبتسِمة لأجلكَ فقط!».

لَم يستسلم أبدًا عَن محاولة إيقافي بجعلي أسهو ليتقدم بخطوةٍ ولكنّي واعيةٌ لدرجة أشعر بِنَفسِه وهو يَخرجُ مِّن أنفه، ولستُ واعيةً لِدرجة لا أعلم ما أفعله!

«انزلي وقولي ما الشيء الَّذي تريدينه، فقط فكِّري بِعائلتكِ كيف ستغدو حالها بَعد فعلتكِ، أخوكِ الَّذي فعل كل شيءٍ لرؤيةِ ابتسامتك، أرجوك فقط!».

«لِم تَترجّاني؟!».

سألته بِنبرةٍ أشبه بالغضبِّ جعلَته ينصدم، لقد سئمتُ مِّن كلمتي «أرجوكِ» و «انزلي» ألا يَجد ما يَقوله غير هاتين الكَلمتين؟!

ثُمَّ عائلتي؟! ألن تُسعد؟! رُبَّما سَيَبكون يومًا أو اثنين، وكذلكَ سيقيمون لي مجلس عزاء لكن لا أحد سيحضره؛ لأنَّ لا أحد يعرفني، لا أحد يعلم ما بينَ خوالجي أو أشلائي، هم لَن يعرفوا سبب موتي كذلك، حتّى الَّذي يَقف أمامي لَن يفهمَ ما أريده!

«النَّظرُ لعينيكَ يَجعلني أودُّ الموت أكثر مِّن أيِّ شيء، لقد صرتُ أرى فيهما شُعورًا أرغبُ بِزواله، ألا ترى بي حبًّا شافِعًا لقلبكَ؟ ألا ترى حقًّا بأنّي أحبُّك؟ ألا ترى بأنَّكَ صرتَ ألمًا يُعذِّبُ قلبي بلا سبب؟!».

صَرختُ بأعلى صوتي وأنا أذرِفُ الدّموع، أرى فيه الحرمان الَّذي عشته، لكنَّه لا يعي ما أنا فيه، تَصرُّفه معي، فهمَه لي، أوامرُه واستِماعه لي، كلُّها أشياء جعلتني أقع له بِسهولةٍ، لَم يزر الحبُّ جزيرتي يومًا، لَم أشعر بِه أبدًا، فَلمَ الآن زارني بينَ دفَّتيّ رجل لا يَهتم لوجودي؟!

من حقِّه أن تتملَّكه الصَّدمة بينَ عينيه، فما بُحتُ به خطيرٌ له، لسُمعته، هو طبيبٌ وأنا مريضة، لَن يتجاوزَ هذا الأمر، وإن فَعل فسيَكون هو الطَّبيب النَّفسي وأنا مريضته الَّتي عجزَ عن شِفائها، رغم أنَّه قَد طبَّبَ سقمي، دَاواني بِحضنِه في دُجى الليالي، ودَاوى بِكلماته فيَّ أنواع السِّقامِ، أنا مُمتنَّةٌ لوجوده في النِّهاية.

«أولَا تَفهمين بأنّي أحبُّك؟!».

تَرهلتُ بِجسدي وأنا أسمعُ هذه الكلمة، وقعُها جعل من قلبي يَخفقُ، وجسدي يَعودُ إلى الوراء، شَعرتُ بأنّي حقًّا قد ملكتُ نهايةً سعيدة، نهاية سَمعتُ فيها الكلمة الَّتي وَددتُها، الكلمة الَّتي كانت حياتي بها، ولكنَّ الأوان قَد فات، حتّى خطواته السَّريعة تلكَ لَن يكونَ لها فائدة لأنَّ جسدي يَقع!

لا تَفصلني عَن الموت إلّا خطوَةُ نملةٍ، أتدلّى هذه المرَّة وأنا مُمسِكة بِحافة الهاوية، الهاوية الَّتي أضحت أماني في أحد الأيام، لقد تَمكن من الإمساك بمعصمي، لكن إلى أيِّ مدّى سَيقاوم؟ إلى أيِّ مدّى سَيجعل منّي متمسِّكة بالحيَّاة؟!

«لا خــاطِــرةَ ولا مَــنـفــــذا

الألـم كـان قـد انتـشـرَ فِـعلا

أكَلـنـي وأمــاتَــنـي وأحـيـــا

فـــيَّ مِــــن ظِـــلالٍ أمــــــدا

لا حـــيــاةَ ولا أمــــــلَا فـــي

حَضرَةِ الألمِ كل شيء انتشرا

والغُرسُ مِّن الأشواكِ مدفـونا

فــي أرضِ قلــبٍ مُـخـلَّــدا».

وبينَ عسرات توازُني واختِناقي فَخوفي، رأيتُ فيه ما أردتُ سابقًا، أعتذرُ منكَ لأنَّني فشلتُ في المحافظة على حياتي!

«أحبُّك!».

نَطقتُ بها بينما الآخر يُحاول جرّي نَحوه، بكيتُ في لحظةِ الخوف وبكيتُ في لحظة اعترافي، وَكر الموت يُناديني فيجب أن أغادر الآن، فوَداعًا يا عالمًا قد عشته!

إلى الوداعِ بدون لقاءٍ!

«اتركني!».

«لَن أفعل!».

رَفعتُ يدي أمسكُ بيده الَّتي تتمسَّكُ بي، ابتسمتُ له بينما أحلُّ عقدَة أصابِعه حول خاصَّتي قائلة ومبتسمة له باتساعٍ:

«على الأقل وفيتُ بوعدي، وها أنا أبتسمُ حتّى آخر يوم!».

شَعرتُ بجسدي يتهاوى وكأنّي أطير، شَعرتُ وكأنَّ لي جناحين ولكنّي لا أعرفُ كيفَ أحرِّكهما، استَطعتُ أن أراه وهو في صدمته لأَزيد من ابتسامتي وسعّا، أودُّ حفرَ ذكرى في عقله، ذكرى وأنا أبتسم له بكلِّ صدقٍ!

كََذكرى أبريل سأمرُّ عابرةٌ، وسَيبقى الجَّسد أسفلَ التُّراب، أنا والموت كُتبَ لنا اللقاء فَلا مَحالة منه ولا الهروب، أودعتُكِ يا روحًا فافرَحي، وهَلهلي بينَ أقطاب السّموات؛ فما بَين أطرافِ العذاب انتهى وأختفت متاهة الحيّاة.

أنا تلكَ الأنانية واليائسة، أنا مَن أوقدت لها قوافي اليأس مَع كوؤس الحزن!

أنا مَن سأُرمي ذاتي من الجِسر بدون حياة، وأقتطفُ جذورَ الماضي من الشَّقاء، كالظُّلمة تَحتلُّ هواجسي وتُبعثرُ خواطري، الظُّلمة هي جاري الوحيدُ في الدُّنيا، تَزورُني في ضَواحي لياليَّ وتَجعل منّي أسيرة لعذابِها بكلِّ خدائجي، فَما اليأسُ إلَّا بحاكمٍ!

آسِفةٌ؛ لأنَّني كنتُ أنانية، فَما اليأسُ إلَّا وهو الحاكِمُ والقاتلُ في الدُّنيا، يَقودني نَحو الهلاك وأنا وبكلِّ طواعيةٍ أنساقُ نحوه، فما مَضى بِستَّةِ محاولاتٍ ما السّابعة بالوصول!

يَجبر عقلي بأن أكون اليائسة والمظلمة في هذا الكون، ويَجبرَني اليأسُ بأن أبقى مُعتمةً وبجسدٍ خاوٍّ أعيش، أوَ لِلمرَّة السّابعة فَما هي إلَّا النِّهاية فقط!

في كلِّ صراعاتي أعود منهزِمة وبين حقائبي آثارِ اليأس والعذاب، أعود وبينَ أكتافي كلِّ هزائمي واستسلاماتي، والمرور بِها يَجعل منّي أنفجرُ أكثر مِّن السابِقِ، فلا راحة بينَ مقلتين ولا هناء!

تَتروى لي صورٌ قَد نسيتُها، صورٌ عَن ماضٍ باهتٍ، ألوانه شبه معتمة، الغشاوة في عينيَّ انقشعت، رأيتُ مصدرَ خرابي وعاقبتي، علمتُ سرَّ حزني وكرهي، فها هي الحقيقة تَظهر بَعد فوات الأوان!

يُقال عندَ الموت تَرى كلَّ لحظةٍ مرَّت بك خلال آخر لحظات من حياتك، ها أنا أرى طَيفَ ذكرى والِدتي، لكن بوجهٍ لا أعرفه، لا أبصرهُ وربَّما لا أذكره، مَن أنا بالضبط؟ ماذا أكون؟!

اللُغز الَّذي لم أفهمه، مُقتُ أهلي لي، ماعدا أخي، اللُغز الَّذي لَم أهتم له، الشَّقاء في حياتي، رُغمَ أنّي لم أرتكب ذنبًا آثِمًا، والآن صِرتُ بينَ أطراف الحياة أعلم ما أكونه، أنا الذَّنب الَّذي لا ذَنبَ له، أنا ذَنبهم هم، ذَنبُ أخطائهم، أنا النّقم الَّذي أُنزِلَ عليهم مِّن السَّماء، ولأنّي أذكرهم بأفجعِ آثامِهم؛ مَقتوني وجعلو منّي كارِهةً للحياة.

فَليرتاحوا الآن، لِيرتاحوا وليناموا بِأمانٍ، فأنا قَد أنهيتُ حياتي، أنهيتُها بكلِّ تَفاصيلها المؤلمة، لَن أكون ذَنبهم مِّن الآن فصاعدًا، بل سأكون ذَنبَ نَفسي، نَفسي الَّتي لَم أهتم بِها يومًا، ولم أعطِها فرصة لتكون هي، لم أجعلها تَخرجُ للعالم مبتسمة، ولا فرِحَ!

فها أنا أشعرُ بأنِّي حطَطتُ على الأرض، جسدي مَكسور، والألمُ في رأسي رهيب، لا أستطيع حتّى النَّظر جيِّدًا من الألم، هذا هو شعور الموت، ولأَنَّه شُعورٌ مؤلمٌ، شُعورٌ قاسٍ بكلِّ خَطواته، لَم أعد أستطيع رؤيته من الأعلى، لكن السَّمع لدي مُشوشٌ، صوت صَرير أذني وأصوات النّاس بكلِّ مكانٍ، فالكلُّ شهِدَ موتي وسقوطي، فَهم لا يتواجدون إلَّا بهذا الوقت، ليروا كيفَ يَسقط الإنسان بدلَ مساعدته!

حانَ وقتُ الوداع بالفعل يا أيُّها العالم، لـن أحتاجَ إلى رِئتينِ مَعطوبَتين لأعيش الآن، ولا إلى قلبٍ مرتهلٍ ولا إلى عقلٍ كاهلٍ، لَن أعيش بَعد هذا اليوم وسأحرِصُ على هذا، وقوعي أمام عينيه فاجعة بالنِّسبة له، وأنا أعتذرُ عن هذا، أعتذرُ للمرَّة الألف لأنَّني أنانية، وفكرتُ في ألمي قبل نَفسي!

كنتُ أحتضرُ بوهنٍ، أحتضرُ من ألمِ جسدي الَّذي غَزاني عِند اصطدامي بفَروةٍ قاسية، شَعرتُ بروحي وهي تُغادِرُ ببطئٍ شديدٍ من أوصالِ جسدي، الظُّلمة قَد حلَّت بينَ مفاجِعي، الهدوء قَد استحوذَ مشارفي، هذه المرَّة أنا في ظلمة الكون، ظُلمة آثمة مُختلفة عَن كلِّ مرَّة، ظلمة هادئة لا ضَجيج فيها، لا رمادِ أحلامٍ أو صُراخ، لا أشواكَ آلامٍ ولا نزيفَ قلبٍ لروحِها، حتّى المتاهة الَّتي أركضُ فيها كلّ يومٍ لا وجودَ لها، وكأنّي موجودةً في عالمٍ آخر، عالم تمنيتُ وجوده، فرغمَ الظُّلمة إلَّا أنَّني أستطيع الرُّؤية، ورغمَ ضَجيج قلبي إلَّا إنَّ كلَّ شيءٍ هادئ هنا، هادئ بطريقةٍ مريبة، وَددتُ المغادرة منه ولكن لا أجدُ أيَّ منفذٍ، وكأنَّني أغوص في عقلي، في باطنِ قلبي، لا أفهم أينَ أنا لكن أودُّ لروحي فقط أن تُمحى مِّن كلِّ الأماكن!

أن تُمحى مِّن كلِّ ذكرى مؤلمة في العقول، أن تُمحى لو كانَت شوكة في قلبي، لو جلبتُ معها الألم والدّموع، لا أريدُ لذكراي أن تكون مؤلمة، لا أتمنى بأن تكون جرحًا في قلبِ أحدهم، سأكون مذنِبة، سأشعرُ بالنَّدم لأنَّني تركتُ فيه وجعًا وقت مغادَرتي للدُّنيا.

رُغمَ جلوسي في هذه العتمة وحيدة إلَّا أنّي لَم أشعر بأنّي لوحدي، وكأنَّ ظلَّه يَمرُّ لي بيده لأستقيم مُتمسِّكة بأصابِعه، كفُّ يده الكبير دافئٌ وكأنَّ ظلَّه الَّذي أمامي حقيقي، كلُّ المعالم فيه حقيقية، وشبيهة بالواقع، جعلتني أتَّصوَّر بأنَّه بالفعل معي، وأنَّه ليسَ ظلًّا أتخيَّله، طيفًا يُعانُقني في مَقبرَةِ الليالي وحلكتِها ويَدفئ لي شَفتيَّ، شَعرتُ بأنَّ الأمان زارَ أرضي فبدأت زَهرة صغيرة تنمو، تليها أزهارٌ وحدائقُ بدون ظُلمة، سَماء صافية ومُشرِقة!

مُبتسمٌ هو بكلِّ وسعٍ ويَقف أمامي بصمتٍ، كأنَّنا نَقرأ بَعضَنا بصمتٍّ كما يَقرأ العاشِقُ شعرًا يتكلَّم عن محبوبتِه، ويخافُ أن يُحسدَ حبُّه!

تَمسَّكَ بيديَّ جيِّدًا وحلَّقَ بي نَحوَ السَّماء، أَدركتُ لحظتها فقط أنّي فعلًا بحلمٍ وليسَ بواقع، لكنّي فقط في قرارتي أرغبُ بالسَّير وراءَه، وراء كلّ خطوةٍ يخطوها!

كلُّ هذا تَبدَّدَ لحظة سماعي لاسمي بصوته، رأيتُ كلَّ شيء يَختفي وفقط ضوءٌ ساطِعٌ أجهل ما وراءه، حتّى هو اختفى إلَّا صوته الَّذي يَصرخُ باسمي بكلِّ وَجعٍ مِّن الوراء، لكنّي أجهل بالضبطِ أين؛ لذا فقط انسقتُ نَحو ذلك النُّور لعلّه يُرشدني إليه ولكن لقد كانَ حَشرجةِ الموت!

___

أتمنى لو كنتِ وهمًا!

___

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon