أودُّ عناقًا| خبأني في العُتمة

_

سَقاني الحزن من كأسِه بكلِّ كرمٍ وسخاء، فلم يَجعلني أغادر الدّنيا بدون خزّان آلامٍ ومصاب أوجاع.

جَعلني تائهة في قلبي وحائرة في عقلي، تَركني سقيمةً بدون دواءٍ ولا ضمادٍ لجراحي.

كلّ صباحٍ ومساءٍ أبقى أنزفُ ألمًا بدون دمعٍ لكنّي أبقى أبتسم، هناك من يجعلني أودُّ الصّراخ إلى أن يفضى قلبي مّن ثقله، لكن كيفَ لي وأنا أمتلكُ سدّينِ ملتحمينِ  لا يودّان أن يَخرجا ما وَرائِهما مّن فيضان، ولا أنكر بأنّي أخافُ لو نطقا بِمّا قد يَجعل غيري يحمل مّن جرحٍ نحوي. 

بَعض الأحيان، في منتصف ليالي ديسمبر الباردة والَّتي تُشبهني كنتُ أعاني مّن مُشكلةِ ما أنا أشعر، لكنّي وقتها أدركتُ بأنَّ كلّ ما أريدهُ هو مجرد عناقٍ دافئٍ قد يجعل البُرودَة في مُحيطي أقل ممّا هي عليه الآن. لَم أكن أعلم إذا كنتُ بخيرٍ أم لا، وإذا كنتُ أتألم أو لا؛ فكلّ شيء كانَ مختلط بداخلي ولم أعِ ما قد يكون وماذا يَحتوي؟!

يأتي أبريل في أيامه الدّافئة لكنّها غير مشرقة بالنِّسبة لي، يأتي أبريل ويَجعلني خامدة مّن الألم! الجَّميع يُزهر في أبريل حتّى الصِّخور إلّا أنا أبقى كُتلةً مّن الظّلمة والخذلان.

«ألم تُحاولي بأن تُغيِّري ما أنتِ فيه إلى الأفضل؟!».

كنّا نَحنُ الاثنان نسير بهدوءٍ في أي طريقٍ يُصادفنا، الواقع أشعر بأنّي أسير تَحت رَغبته لا هكذا في الهواء الطَّلقِ لأبريل.

«لَقد تَغيَّرت، إلى الأسود تَحديدًا.»

رُبَّما كانَ تَغيُّري هو أسوء مخاوفي، كانَ التَّغير بالنًسبة لي عذابًا روحيًّا وجسديًّا، لَم يقتصر على التَّدمير الذاتي بل والمحيط كذلك.

«النَّظر للأمور المشرقة يُكلف الكثير.».

في منتصف حنجرتي صخرة تَرَبَّعت بدون حياء، تُضيقُ بجوفي وتَخنقني بكلِّ قوّة. الكلمات بالنّسبة لي بئرًا عميقًا لا نهاية له، بِئرٌ مهمتُه اغراقي إلى أن أفقد أنفاسي. 

«النّظر للأمور المشرقة ليسَ صعبًا، أنتِ فقط عليكِ التّناسي بمّا قد مرِّرتِ به لكن لا تَكتمي ألمك، عليكِ الابتسامة عندما يوجد ما يستحق لذلك عليك بالبُكاء عندما تشعرين بالألم، ليسَ عليكِ بواجبٍ أن تستمعي لغيرك وهو يرمي بقمامته عليك، بل أصرخي في وَجهه قائلة بأنّكِ قد مَلِلتِ من سماعه وهو يشتكي أو يتكلم عنك.

فقط لا تُحاولي جعل ذاتك حزّانًا للأحزان بل أجعليه فارغًا من الآلام ومُمتلأً بالسَّعادة.»

عَيناه اللامعة كانت تنظرُ إلى عيناي الفارغة، دائمًا ما تُحفزني كلماته لأبوح وعيونه لأتغير لمَا هو أفضل، لا أعلم سوى أنّي أقع لكلماته بِسهولة.

«هو سَهلٌ كقولٍ، صعبٌّ كفعلٍ!»

«سَيكون سَهلًا كفعلٍ لو حاولتِ قليلًا.».

أحاول، لقد حاولتُ آلاف المرّات والمرّات لكن صوتي كانَ مُختفيًّا، لقد حاولتُ أن أشتكي يومًا فوجدتُ الحروف تُنطق بدون صوت!

كل شيءٍ كانَ ضدّي، كل شيء كانَ وما زالَ مؤلم، لا أحد يعلم عمَّا تُعانيه شيئًا. يتكلمون كلَّما شاءو كلامًا جارِحًا وأنا أسمع لهم فقط كأنّ لا شيء قد يؤثر في الحائط متناسين بأنّ الحائط يُمكن أن يُهدم في أيِّ لحظةٍ لأنَّه ضعيفٌ جدًّا.

«اشكي لي أنا أولًا، ثُمَّ حاولي مع كلّ شخصٍ قد آلمك.»

سأفعل، لو كانَ هذا يَجعلني أكون بخير سأفعل!

سأشتكي له عن الليالي البارِدة، وسأشتكي له عن كلِّ دمعة قد ذَرفتها من جُفنيَّ يومَ لا أحد وقف معي، لكن هل سَتُكسر شِفاهي صَمتها؟ هل سَتنطقُ الحرف وحنجرتي سَتصرخ؟

أتمنى حقًّا بأن تبوح، لعلَّ ما بي يكون بخيرٍ!

«أنا...»

لم أستطع!

لم تَصرخ رُغم ما بي كثير جدًّا لأتكلم عنه، أعتقد بأنّي مجرد فاشلة في التَّكلم حولَ ما تُريد في النّهاية.

فاحئني الطّرف المقابل عندما أجلسني على كُرسيٍّ واستقرَّ بقربي ليُمسكَ بيدي ويأخذها بقربه، يَده كانَت دافئة جدًّا بالنّسبة لي ولِيَديَّ

«أعلم بأنَّ لا سطلة قد تُبيح لي بأن أفعل هذا ولكنّه قد يَفع بعض الأحيان، فعندما تُمسك بيدِ شخصٍ تشعر بالأمان.».

عندما تُمسك يدَّ شخص ما ستشعر بالأمان!

هل الأمان زارَ جزيرتي يومًا، كانَ الخوفُ يُزيِّنُ مقلتيَّ بجزءٍ قاتنٍ، أرجو دائِمًا ذاتي لمواجهة هذا الخوف تَحت أيّ تأثيرٍ لكن كلّ شيءٍ كانَ مسيطرٌ عليَّ وكنتُ مجرد أسيرة.

«أنا متعبة، ليسَ جسديًّا وإنَّما نفسيًّا، كلُّ شيءٍ داخلي معتم وأنا تائهةٌ في تلكَ العتمة. لا أشعر بأنّي كغيري قد أرغبُ بالعيش، أنا حتّى هذه اللحظة أفكر بطريقةٍ ما تَجعلني أموت فيها وبطرقة مضمونة!».

الموت أبشعُ شيء قد تُفكر به، لكن بالنِّسبة لي هو أكثر شيء يَجعلني أرتاح!

تَحت خِدرِ الآلام أعاني مّن الفاجِعة، أفكر كثيرًا بينما أقف، ماذا لو لم أولد في هذه الحيّاة؟ 

رُبَّما سَيرتاحُ الجّميع منّي، لن تضطر أمي بالقلق بشأنِ مصاريفي اليومية، ولا على الدّراسية، لم يَضطر أبي للعمل دائمًا من أجلي، وإنَّما لأخي فقط والّذي أضحى الآن مهندسًا مشهور.

عندما كنتُ صغير كانَ أخي يكبرني بثمانية عشرَ سنة، لقد كانَ كبيرًا جدًّا بالنّسبة لي، أمضى دراسته الجامعية في الخارج ثُمَّ عادَ إلى موطنه، حيثُ حياته قد ازدهرت هنا بسبب نجاحاته.

عندما توظَّف في الشّركة ذاتِ سيطٍ وقامَ بالعديد مّن المشاريع حتّى أودَعته الشّركة شقّةً أعطاني إيّاها؛ ولأنّها ملكه فهو يأتي لبعض ليالٍ ينام فيها ثُمَّ يذهب لمنزله الخاص. رُبَّما أنا شاكِرة لأخي لأنَّه جعلني أعيش في مساحة خاصة بي، بعيدًا عن تَذمر والِديّ حول طولي وعن طريقة عيشي، لكن يبقى أودُّ لو يمكنني الهروب مّن الوحدة!

الوحدة شعورٌ قاتل للمرء، لكنّها تبقى مهربه الوحيد!

«التّفكير بالموت أمر غير صائب، يجب عليك بوضع خططٍ لجعلك تَشعرين بالسّعادة بطريقة مضمونة، أن لا تجعلي ذاكرتك تَتذكر أسوء الآلام داخلك، وإذا كانَ هناك جزءٌ منك يرغب بالموت، فتذكري إن أعضاءكِ كلّ ما فيها تُنتحب لتبقى على قيد الحياة.».

رَغبة الموت تُسيطر على قلبي، لا أمر ولا شيء قد يترواى في محجر عقلي سوى هذه الفكرة. أعلم بأنَّه غير منصف أن أجعل نفسي تموت بدون أن تحيا في هذه الحياة، أعلم بأنّه غير منصف في جعل ذاتي حزينة دائمًا ولا تُفكر في اسعاد ذاتها، هو أمرٌ مرهقٌ ولكن أبقى غير قادر على جعل الأمور تسير كما أشاء حتّى لو كنتُ أبحثُ عن السّعادة كانت سَتهربُ منِّي بكلِّ صراحةٍ.

«لا شيء فيَّ قد يَرغب في العيش.».

«بَل فيك جزء يرغب بذلك... أتشعرين بضربات قلبكِ؟ انظري كيفَ هي تُقاوم للآن فقط لتعيش! هناكَ قطعةٌ صغيرة تَنمو في كلّ يوم، لكنّك تقومين باهمالِها لتجعليها تموت، كما ماتَت أشلاءكِ السّابقة. أيعجبك أمر استسلامك داخليًّا؟!».

«أنا لا أرغب بالاستسلام.».

حرارة عيناي اشتدَّت في أسفلها، الدّموع تودُّ النَّزيف، تَودُّ الخروج عمَّا هي محجورة فيه، تَودُّ أن تصرخ وتقول بأنَّها حرَّة وأخيرًا مّن سجن محجري.

«شَهلاءُكِ لم يكن رفيقها الحزن بل السَّعادة، لكنَّك أخفيتها خلف دموعك؛ لذا أذرفي ما بِجعبتِّكِ مّن أملاحٍ فاترة لّعلَّ السَّعادة تَظهر!».

الدّمعة الأولى قد سَقطت مَعها الثّانية فبعدها دموع لم أحصِّها. كانَ هو يشدُّ بامساكه ليديَّ والأخرى تمسح دموعي، كنتُ حقًّا أشعر بالأمان وإنَّه لا بأس حقًّا بالبكاء في حضرته، دامَ أنَّه سيبقى مُمسكًا بيدي.

«ابكي ولا تَكتمي، لا تكوني خزانًا مّن الهمِّ والحزن، كوني السَّعادة نَفسها!»

أن أكون السّعادة نفسها، لا أن أبحث عليها!

كيفَ لم أدرك هذا يومًا، كانَ عليَّ أن أكون تلكَ السّعادة لأجدها، فإن بحثتُ عنها تحتَ أيِّ أطلالٍ لم أكن لأجدها ولم أجدها أصلًا!

السّعادة لم تُغادرني بل أنا الغبية الَّتي هجرتها أبحثُ عنها.

«بامكانكِ بدلَ الكتم البوح، بدل ذرف الدّموع خلسة الافصاح عن تلكَ الغّصة بخوفك، كلّ ما عليكِ هو أن تكوني أنتِ.».

كلماتُه كالدّواء لقلبي ودافئة لشتائي، يَعرف كيفَ يَجذبني له وبالتَّالي أضعفُ أمامه وأنهار وكأنّي لم أكن قوِّية يومًا!

أرغبُ في الحديث عن ذكرياتٍ أرغب في هجرانها ولكن هل ستقبل ذاكرتي الرّحيل؟

«عندما حاولتُ أن أنتحر ثاني مرَّة، هل تودُّ معرفة السَّبب؟!».

اقتربَ أكثر باهتمامٍ متحمِّسًا لسماع ما بجعبتي مّن ألفاظٍ؛ لذا قرَّرتُ أن لا أدعَ هذا الحماس يذهبُ سُدًّى  عن حديقتيه.

«كشجرةٍ وحيدة لا أوراق ولا رِفقه معها قد تؤنس وحدتها. كنتُ عبارة عن غصنٍ في الأعلى لكن منبع نجاته في أسفل الأرض حيثُ الظُّلمة، لم أسقَ بِّما يجب يومًا حتّى أعيش، ولم أستطع جعل تلكَ الوريقات تنمو حولي بسبب الجّفاف وشكلي المخيف لهم؛ لذا كنتُ مستسلمة للموت!

مستسلمة له بكلِّ خشوع، لكن هذه الرّغبة الآثمة كانت يمكن أن تُمحى برغبة أخرى!».

«ماذا تكون؟».

«كنتُ أودُّ احتضانًا، عناقٌ دافءٌ لربَّما!».

رَّغبة بسيطة لكنَّها صعبة لِتُنفذ في عالمي، لم أحظَ بِعناقٍ قد يجعلني أرتاح قليلًا مّن الّذي أنا فيه، بَل كنتُ أعاني وحدي بدون أي يدٍّ قد تَّضمني كما يَفعل هو الآن.

يَده الَّتي تَشدُّ على خاصَّتي بكلِّ فعلٍ قد يَبذرُ منّي تَجعلني أشعر بالأمان، أنا مُجرد مراهقة لم تَعش كما يَجب على أيِّ فتاةٍ بسنِّها هذا، لم أذق مّن الحيّاة شيءٍ قد يَجعلني أرغب في هذه الحيّاة. التّناقضات داخلي قد كبرت، أحد أشلائي يرغب بالموت وهو القسم الأكبر ونظيرهِ هو الجزء الَّذي قد يرغب بالحياة وهو الأدنى، منهم مَن قد يبحث عن السَّعادة والآخر الحزن والشّوؤم ضيوفه، وهنا الأمر يُرهقني حقًّا!

«أيمكنني تَحقيق هذه الرّغبة لك؟».

لم أستوعب ما قاله في البداية لانشغالي بِّما أفكر، لكن بعدما نَظرتُ لعينيه وجدتُ فيهما ما لا يُمكنني قراءته، كانَت تلمع بِشدَّة عكسَ خاصتي الَّتي أعتَدتُ على خفوتها بالفعل، فهل الَّذي رأيته رَغبتي؟

لم أجب أو أفكر وإنَّما أومأتُ له بنعمٍ!

طالما هناكَ شخصًا يرغب بِعناقِ شخصٍ معطوب مثلي فلمَ قد أرفضه؟!

لا أحد قد يرغب بي لأنَّني مُجرد إنسانٍ فاتر لا حيّاة فيه، وكذلك لا تنسَ بأنَّني بلا روحٍ بلا حيّاة بداخلي حتّى قد يرغب أحد فيَّ، لكن هو ضَمَّني بدون تَردُّدٍ إلى صَدره، لقد كنتُ صغيرة الحجم جدًّا بالنَّسبة له؛ لذا أختفيتُ بين ذراعيه، كانَ يُربت على ظَهري بيدي والأخرى على رأسي، لم أقوم بمبادلته في البداية لأنَّني ما أزال لا أستوعب ما يحصل، إلّا أن هناكَ دفئًا في قلبي قد أحبَبته!

«لا بأس، كل الأمور ستكون بخير مِّن الآن وصاعِدًا، حتّى أنتِ سَتُعاد أشلاءك إلى داخلك ولَن تُعاني مِّن شيء، لقد صبرتِ حقًّا ويجب أن تلقي نتائج صبرك، لقد تألمتِ بصمتٍّ وآن الآوان لتنتهِ كل الأوجاع، أنتِ فقط ثقّي بي وسأفعل كل ما يجعلك بخير!».

لم يَعد كل شيء بخير بالفعل، لا أنا ولا أشلائي، حتّى بعد احتضانه أنا لم أكن بخير، حتّى بعد أن تأملتُ في فراغ عينيه، كنتُ لا أشعر بشيء وإنَّما أبقى أتخبط في جدران الليل!

كنتُ أبقى في الخبايا وحيدة، أُرمى وأنا مجرد قطعًا فاترة إلى ظِلال الليل لِتطاردني، أخاف أن أنام الليل بسببها، تُطاردني لتتآكلني بآلامها؛ لذا أبقى مجرد فتاة تسهر بدون بسبب، أبقى أنظر لسقف الغرفة وأنا خائفة مِّن وجودِها في أحلامي وظلمتها!

لم ألتمس مِّن الحنان ما بحنانٍ، ولا مّن الأمان ما بأمانٍ، أبقى في عجلةٍ دوّارة عنوانها الألم، يبقى يتمحور حولي وهو يزداد بفجواته بداخلي، حتّى أغدو بعض الأحيان فارِغة كفجوته!

فَجوةٌ قد تتآكلني فغدوتُ ميتة والظِّلال قاتِلتي!

وهكذا رُفع شعائر جنازتي وشُّيعتُ فيها، مآذن الموت تُنادي باسمي وأنا بين أسماء مَن ماتو بسبب بصيرة الخوف مِّن الأحلام!

شُيُّعتُ يا منافِذي وأوصالي وكل حشاياي، ولم يأتِ أحدُ لجنازتي سواي، لأن لا أحد لي في هذا الكون!

لم تأتِ سوى روحي القاتمة وهي تَتعهد على عدم البُكاء أمام تلكَ الحوفاء، أمام من قتلتني وأدخلت سكاكين الظّلمة في قلبي، مَن قامَ بغرسِ أشواك كلماته بدل بذورها، ومن جعلني أنزفُ بدونِ ضماد!

غَفوتُ على سَريرٍ أسودٍ وموحش، أسدَلتُ جفون الحيّاة مّن خاصّتي على نافِذة جافة وقاحلة، ولم أرغب مرَّة أخرى في أن أعيش!

مُنعدمة مّن الحيّاة، لا بأس ولكنَّ ما قد كلَّفني باهضٌ! ما جعلني أعاني في الوحدة وأوصالها القاتلة، كانَ كلّ شيء مؤلم مّن الداخل، لكن لم يقتصر على ذاتي وإنَّما قد احتلَّ جسدي ويصبني الصُّداع الأيام، يُضيق تَنفسي لليالٍ وتكاد حنجرتي تتمزق هي وأحشاءها بسبب الكتمان.

وما قد سُقيتُ بعد عناقه، وإنَّما شعرتُ بأوصالي تَفرَّعت بعد أن فرقنا العناق، أردتُ أن أبقى في حضن ذراعيه لأطول وقت ممكن، أن أبقى داخلها إلى حيث أن أدرك إلى مَن أنتمي وَددتُ في تلكَ اللحظة رغم إنَّها لحظة ضعف، فقط لو دامت لوقتٍ أطول، حيثُ أستمرُّ في البُكاء وهو فقط يحضنُني ويُربِّتُ على حنايا ضهري يقول لي بأن كل شيء على ما يرام، وأتمنى ذلكَ حقًّا!

ولأنَّ الأرقَّ كانَ ضيفي المعتاد في الليالي الغادِّرة أمسكتُ هاتفي أخبره بأنَّ الأرقّ قد تّمكن منّي، وبأنّي مستسلمة لفكري العقيم فلا لحظة راحة لي.

كنتُ مُتردِّدة مّن مراسلته ليلًا إلَّا إنّي قرَّرت التَّجرؤ، فلقد أحببت حضنه.

الدفء فيه ملجأً وأمانًا، وذراعاه تلكَ الجدران المحنَّة لذلك المنزل، تشعر بأنَّكَ تنتمي لها ولا تَودُّ مغادرة ما شعرت فيه ولو لحظة.

أتى لي ردًّا على رسالتي أخبرني فيها بأنَّه مستيقظ كذلك ولا يُمانع مّن الحديث معي، دَعوته للمنزل أخبره بأنّي لوحدي ولا بأس بأن تأتي وتحتسي كوب قهوة معي. مضى وقتًا بسيطًا ردَّ فيه بأنّه سيأتي، لا أعلم ما شَعرتُ فيه لحظتها ولكنَّه حتمًا كان مشابِهًا لسَّعادة. شَعرتُ وقتها بأنّي للحظة لستُ بوحيدةٍ وبأنَّ هناكَ من سَيرغب لي لجانبه، والواقع بأنّي أنا من رغب أن تكون لحانبه وليسَ هو.

شَعرتُ بأنّي فقط أرغب بدفئه ولا أهتم للباقي، لا أنكر بأنّي أحبُّ تلكَ اللحظة عندما أتكلم عمّا بداخلي وهو الآخر يَستمع لي ويطرح الأسئلة نادرًا، كان كل شيء فيه مريح.

بعدما وصل لمسكني الّذي أخبرته عنه جلسنا سوية على الطاولة نَشرب فقط كوب قهوة مّن دون نقاشٍ باهةٍّ كالعادة، ولا سؤال بينَ أطراف ألسنتا رُغم عيوننا تتكلم. لم أشأ ولو قليلًا بناء الحاجر بينه وبيني كما فعلت مَّع الآخرين، أريد فقط أن أجعله مقرَّبًا لي بوسيلة ما؛ لذا سأتكلم لأول مرّة عن ماضٍ بدون ألم!

«لقد قمتُ بقطع وَريدي عند المحاولة الثّانية».

كانت تَجربة مؤلمة جدًّا إلّا إنّها قد فشلت وقتها بسبب ضعفي، اغراس تلك السّكين لم يكن سهلًا، ولكنّي تحملتُ لأقسى أملٍ، انطلقت منّي وقتها صرخة فاترة ليأتي أخي ويُنقذني، والِديّ لم يهتما بي كما يهتمان بأخي، وربَّما كانَ هذا أول سَبب لما أنا عليه.

«الماضي ينسج تلك الفكرة المؤلمة، يجعلك محاصرًا في دّوامة مُشتَّتة لا تعلم أين سينتهي بها المطاف، وأنا كنتُ خائفة من استحواذِها عليّ، وفي الوقت ذاته أشعر بالألم بسببها، لكم رغبتي عظيمة في الموت، أرغب في أن أنسى الماضي!».

بينَ قُطبان الماضي أنا مُحاصرة، لا أفعل شيء سوى النّظر كيفَ تُمزِّقُ أوصالي وكلّ ما فيّ، أنا مُتعبة من الحيّاة ومّن العيش، فَلمَ لا أغمضُ عينيّ فقط أستريح؟!

«السَّبب الّذي يَجعلنا نَتذكر الماضي هو لمواجهَة المستقبل.

الذاكرة تَجعل منكَ تَتذكر ما لا تَحبُّه، ما يُسبب لكِ الألم بِكل جوارِحك، ويَنتزِعُ منك كل ما فيك. الأمر كُلُّه مقترنٌ للعيش بِشكلٍ صحيح، عندما تَتذكر ما مَرِرت بِه في حياتِك والألم في ماضيك هذا يَجعلكَ تدرك بأنَّ المستقبل قادِر على أن يكون أسوء بكثيرٍ مّن الماضي. 

الأمر أشبَه بأن تُصارع في فَجوتان أولها الماضي والأخرى هي المستقبل وأنتِ هو الحاضر، عندما تُصارعين مع آلام الماضي تَعلمي منها ولا تَجعليها تُنهيك، لا تَستسلمي لها وكون حاضرك بكل تفاصيل،  المستقبل عِندما يأتي اعلمي بأنَّه أسوء من الجّراح الّتي قد حصلت عليها. إن الماضي يَجعلك مستعدًّا عاطفيًّا ونفسيًّا للمستقبل، يَجعلكِ لا تتأثرين بِّما قد يجرفك إلى أكبر تيارٍ يدعى بالمفاجع. 

لا يَجب على الذّاكرة نسيان ما قد مرَّت به يومًا وكذلك أنتِ؛ فالذِكريات أمرٌ واجبٌ لتعيش.».

ألقى خطبته عن الماضي وأنا فقط أستمع له، كنتُ أرغب في شيءٍ وأنتهى المطاف في شيء، لا أرغب في السّماع عن الماضي، أعلم بأنَّ كل شيء أمرُّ به مجرد اختبارٍ ولكنّي في لحظة الضعف أنسى كل شيء!

المرء يحتاج إلى راحة لباله لكن أنا والرّاحة لا نلتقي!

مهما حاولتُ جاهدة بأنّ لا أستسلم إلى تلكَ الخطايا أجد ذاتي مستسلمة بوهنٍ كاسرٍ ولا طاقة لي للوقوف على قدميّ. ما يحصل معي يستنفذُ منِّي طاقة؛ لذا أودُّ ترك كلّ شيء واستسلم للنوم، لا أرغب في النّهوض مّن ذلكَ الخيال، باختصار لا أودّ أن أفتح عينيّ مجدَّدًا!

«أتعلم، السّبب الَّذي جعلني أدعوك إلى هنا ليس  لأن نتكلم عن الماضي، بل كان شيء آخر.»

نَظرَ لي مستغربًا لأسترسل في حديثي، كوني دائمًا ما أشعر بالتَّعب فنطقي وطريقة كلامي دائمًا ما تكون بطيئة، ولا أهتم كيف الطرف الآخر يتكلم ويُقلد على طريقتي في الكلام؛ فأنا أعلم بأنَّهم لم يمرّو بِّما أنا مرِّرت.

«أنا أخاف الوحدة بقدرِ ما أنا وحيدة، أريد أحدًا بجانبي رغم إن لدي أخٌ يهتم فيّ إلّا إنّي لم أجد غيرك من قد يفهم رغبتي في أن أكون مع شخص ما، أعلم بأن الوقت متأخر ولكنّي حقًّا أحتاج شخصًا معي في ظلمة الليل الحالكة،على الأقل حتّى تنقشع أحلامي المظلمة ثُمَّ يُغادر.».

كانَ فقط يسمعني وأنا أتكلم بغصَّةٍ، لم ينطق بشيءٍ أو بحرفٍ، فقط ينظر لي بصمتٍ وربَّما يُحاول استيعاب ما قلته، أعلم بأنّي سيئة جدًّا في التَّعبير عن مشاعري وهذا ليسَ بغريب.

«إذا، هل تودّينَ أن أبقى معك؟»

___

الظُّلمة هي جاري الوحيد في الدّنيا.

__

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon