NovelToon NovelToon

ذِكرى أبريل | المرَّات السَّبع

قلب |نُقطة سوداء

_

أتعلم، الأمر مؤلمٌ جدًا!

كانت هُنالِك متاهةٌ سَوداءُ، أجري بِها دونَ توّقف!

كانت الظِّلال تُلاحقني في كلِّ ذكرى ربيعيّة بعنوانِ ذكرى أبريل!

كانَ أبريل أسوء الشّهور الّتي مرَّت بحياتي كلّها، فهو يحمل ذكرى يَهوى القلب نِسيانها.

كانَ الحُبُّ مَمحوًّا من قَلبي، كانَت هُنالِك نقطَةٌ سَوداء تَكبر بِسرعةٍ خياليّة كبيرة جدًّا!

وقَد أحرَقت قَلبي ونَّثرت دِثاءَه في شتاتٍ ربيعيِّ الثَّراء!

أزهار السّاكورا تُزهر كلُّ عام فـي أبريل، وأنا كُنتُ أموت في كلِّ أبـريــل!

"لطـالما كَرِهتُ أبي بِقدر ما أحـببتُه!"

«لِمَ؟»

أحَقًّا كَرهتُه بدرجةِ حُبّي لَـه؟

الموضوع كان صَـعبًـا في كُل مـرَّة أفـكر فـيه، مراهِقَةٌ مرهقَةٌ من العَيش أنا!

«في صِغري، علَّمني والِدي أنْ أبتَسِم دائِمًا، وفي كلِّ شيء، ولأنني -قد كنتُ- أطمح إلى المِّثالية في عَينيهما كنتُ أبتسمُ باتّساعٍ وقُبح!

أبتسم كلما نظرتُ إليهما -أو لغَـيرهما- ابتسامةً تشقُّ كامل وجهي، لكنِّني لَم أعلم وما زلتُ لا أعلم ما هيَ وما معناها!

أضحكُ بصَخَبٍ وبصوتٍ مرتفع جِدًّا، ولَكم كان الأمر مقزِّزًا!

إنَّه دائِمًا يَجعلُني أشعرُ بالقرفِ من تِلكَ الذكريات!»

الانتفاض مِن سَرير الذِّكريات كانَ صَعبًا، رغم خُلوّه من العقبات القاسِية، إلا أنني كنت دائِمًا أخرجُ منها منهمِكةً، فَأستلقي بَعدها على سَرير الحُزن لذَرفِ دموع حارِقة.

استنشاقُ عفيف الذكريات من القلبِ كُلّ يومٍ خانِقٍ ووقِح، لا يُغادِر جَوفي قطّ، بل يعلقُ داخِلا مَع رَغبَةٍ لذرفِ الدّموع، وأنا أرفض هذه الرَّغبة وبِشدَّة، حقّا!

«لمَ أبتَسم؟»

نظرتُ أمامي وأُعدتُ سؤالي بـِنبـرةِ مرهَقة!

«لـمَ أنـا أضـحَـك؟»

تَساءلتُ مَع عِيونٍ باهِتةٍ للّذي يَجلِسُ أمامي في مئزرٍ أبيض لَطيف، لا بُد إن نَقاءَهُ زائِفٌ كابتِسامتي!

«لَطالَما تَسائلت، لمَ أنا أضحَك؟»

لَيسَ وكأنّني أُريدُ ذلكَ، لَم أُحبّذ الابتسامة ولو بأي طَريقةٍ، كنتُ أرغبُ بالشّعور بِها، عِندما تُزيّن شِفاهِي البَتراء بِبيداءِ الابتسامة، لكنّني لَم أستشعرها إلا قاحِلَةً فاترةً لا حياة فيها!

«الابتسامات والضَّحكات أشياء روتينية في حيّاتنا الاعتيادية، نحن نبتسم فقط لأنّنا نودُّ أن نَكون طبيعين، ألّا نَشعر بالفرقِ بين ذاتنا وبين الآخرين.»

الفرق؟ لطالما كُنتُ ذاتَ رأيّ مُختلفٍ، صُحبَةً منعدمة، صخبًا خافتًا، وحياةً لا مَعنى حرفيَّ لَها، فَلِمَ أشعر بالفَرقِ وأنا الفرقُ ذاتُه؟

لا أعلم حتّى الآن لِمَ أنا هنا؟

لِمَ عليّ أن أجلس كلَّ يومٍ وأشرحَ له ما أشعر بِه؟ لِم حتّى أخبرهُ عن شِعوري الخافت؟

لِم أهتم لجلساتِنا هذه كلَّ يومٍ؟

أستطيع وباختصار أن أتَّغيب عنها، وعندئِذ لَن أضطَر لسّماعِه يَتفلسف ككلّ مرّة.

«هَل لَكِ أن تَتكلمي عن أول محاولة لكِ للانتحار؟»

رفعتُ له بصري بضجرٍ وببطئ، هل سَينصدم إن عرف كيفَ كانت أول محاولة لي؟

هل يَعتقد بأنّ إحياء الذّكريات يُساعِد؟ إن أحياءها بمثابَة أن تَفتحَ جرحًا قد حاولَ ذات مرَّةٍ أن يلتحم، وبدل ذلك التَهب، فزادَهُ ذلك عققًا وِسعًا، بالأخصّ عندما قالَ أعيدي شريط الذكريات.

كنتُ بِعمر كم يا تُرى؟ ولِماذا؟ وكيف حاولت الانتحار؟

هذه أول أسئلةٍ قد خطرت في بالي، هل كُنتُ حقًّا في وَعيي الكامِل عندما قرّرتُ فعل ذلك؟

هل كُنتُ بخير حقّا؟ ولَم أكن أعاني كما أفعلُ الآن؟

«كنتُ بما يُقاربُ سنَّ التّاسِعة، لَم أدرِك أنّ ما فعلتُه وَقتئدٌ يَعدُّ انتحارًا، لكنّني سأقول وبكلِّ ثقَّةٍ أنّني كُنتُ أودُّ المَوت!»

«التّاسِعة فقط؟ أليسَ هذا عُمرا صغيرًا لفتاة تَحاول قتل ذاتِها بِه؟»

نَطقها والدَّهشة تُزيّن مقلتيه، أنا وتَحتَ رَماد الحزن لَم أعرف الطّفولة، الحيّاة قَد أظلمت قَلبي مُنذ بداياتها، ولَم أرَ السَّعادة قطّ، بل كلُّ ما جاوَرني كان الحُزن من صميم القلب!

أشلائي كانَت مظلمة بقدرِ ما كانت مشِعّة بالنِّسبَةِ للآخرين، لم أستطع أبدًا أن أخلق بحياتي أحاسِيس مِثل المُهجة، ولَم أستمد من البَهجة ما هو سعيدٌ أبدا!

«الأمر أنّني لَم أكن كأي طفل عاديّ، كنتُ بالغةً متهوّرة بِقدرٍ ما أنا صغيرة، وكانَ لدى والدي سلاحٌ لا أذكر نوعَه جيدًا لكنّه مسدس بالفعل، ويحوي طَلقةً واحِدة.»

«أحاولتِ الانتحار بِها؟»

«حاولتُ قتل ذاتِي الباهتةِ بها، لكنّ للأسف لم أتوفّق.»

نَظر إليّ مستغربًا، هو يُخبرني أن أكمل الحكاية، لكنّها تفتقِر للذكريات!

للذّكرياتِ خِنجرٌّ تتمنّى إخراجه من قلبكَ، ولها هَمٌّ ووَهم ونزيفٌ دائِمٌ، لا يُمكنُها أن ترحَمك أبدًا؛ لأنَّها عذابٌ للقلب قبل العَقل، ولأنَّنا ذوي قلوبٍ ضعيفة جدًّا.

«كَان من الخَطأ حملُ المسدس في سِنٍّ صغيرة، بتعبيرٍ آخر، كانَ من الخطأ أن أنتحر بِمسدسٍ وأنا صغيرة؛ فَلم يكن خيارًا جيدا للانتحار، أتمنى لو شَربتُ الزِّرنيخ الذي كانَ بأجرارِ والدتي، ألم يكن الموتُ وقتها ليغدو مضمونًا؟».

أتمنى لو استطعت ذلكَ حقّا، أتمنى لو أنّني رَميتُ بجسدي عندما كنتُ على حافة سطحِ منزلنا وقت الغروب، كان الموت سَيكون مضمونًا ولو بِنسبة بِسيطة وأنا صغيرة وقتها.

«هَل لَكِ بإخباري عن سببِ رغبتك العَميقة في الإنتحار؟»

«الألم!»

أغلقتُ عيناي، أذكر جيّدًا ما حاولتُ نِسيانه في السّابق، لَم أكن أعاني من مَشاكل أسرية، ولا من عُنفٍ سواء كان في المدرسة أو المنزل، لكنّ الألم الذي كنتُ أشعر بِه مُختلف، ألم طِفلَةٍ وحيدة، مختلفة، ولا يوجد من يُعطيها حضنًا دافئا، أو أحدًا يَدعوها لِلَّعب مَعه، كنتُ أُنبَذ بطريقةٍ غير مُباشرة من الجَميع، لم يَشعروا بي، ولم يهتموا لأمري في الأصل.

التَّلابيب مِّن القلبِ داكِنةٌ، والسّواد أخذَ مطرحًا جميلًا له، لا تَعلم متّى سَترى في قلبي الحياة، لكنّه بالفِعل ما يزال يَنبض، وهذا ما أريد أن أمحوه، ومن ثُمَّ أتَوقف عَن العيش للأبد. كانَ قلبي مُنزَعجًا من العيشِ مَع أي شخص دخيل، أنا أودُّ أن أكون لِوحدي رُغم كرهي الجمِّ لذلك!

كُنتُ أعاني لِوحدي، مَعَ ذاكرتي وألمي، عِندما كُنتُ مُجرد فتاة خاوية، لا حياة فيها ولا حياء، كانَت الأمور أهون بِقليلٍ، لكنّي بِتُّ لَستُ أنا! أظلّ أعاني وحدي وأقابِلُ النّاس بِوجهٍ لا أعرفَه، بل متّى ولِدَ على وَجهي وملامحي مِثْلهُ حتّى!

عيوني كانت لامِعة دائِمًا، تُنَبّئ النّاظِرَ بأنَّني سَأبكي، لكنّي لم أكن قادِرة على البُكاء يَومًا، دائِمًا ما أمسح الكلام من شِفاهي، أكتِمُ الغِّصَّة داخلي، وأمنعُ عيوني من الفَيضانِ؛ فلا أحد يُمكنه أن يتحمل الثِّقل بِداخلي مهما كان.

يَظلّ يَنحَرني من الدّاخل، يَمنعني مِن أخذ أنفاسي ويَجعلني عبارة عَن مَلحمة من الآلام، لا أعلم كيف أنجو من الصِّراع داخلي لكنّني بالفعل أنتهي مع كل حَربٍ وصراع، أُولَدُ مُجدَّدًا من الألم لأبقى أعاني تَحت آلام القلب ذاتِها، أبقى أتلوى هنا وهناك بسبب ألمٍ لا يَهدأ، حياةٍ بِعمرِها ثائِرة، قلبٍ لا يُسعَد، شِفاهٍ صمّاء، آذانٍ صاخبة، وعيونٍ عمياء، أظلّ أصارع مَع كل شتات يُنير بريقَ أحلامي، مَع كل ظلالٍ أحرقت كافّة أمنياتي، ومَع كل دمعة منعتُها من أن تسقط من جفوني؛ فكيفَ أعود للحياة بَعد كلّ هذه الصِّراعات وأقول «أنا بخير.»؟

عُمري من عادَ من حربٍ، ولم يكن بِخير!

غدت الوحدة تأكلني بِبطئ، وَجعلت منّي مُجرد هيكلٍ بدون روح، فلم أعد أعي معنى أن تكون على قيد الحياة. اليوم أنزِفُ، وبالأمسِ أنزف، وغدًا سوف أنزف أيضًا، أبقى كذلك كل لحظة دون دواء ولا حَشايًا تُسعفني. أبقى هكذا كل يومٍ وأنا أحاول أن أكون بِخير، لكن لا خير فيَّ ولا في قلبي، فكل ما أستطيع أن أراه هو الألم ومشتَقاته.

«لِلألم سَبَب معيّن، لكنَّكِ لا تَعين سَببَ ألمك.»

لا أعي ما أنا فيه؟

هل أستطيع من الأساس أن أعي ما أنا فيه؟

الألم يَنخرُني كما يَنخر النَّمل الخَشب، كُنتُ أعاني وقلبي يَحتضر، لكنّني لَم أجد مُتسعا لفراغي، كانَ الألم كالثِّقب الأسود يأكلني بلا رحمة أو رأفة.

«أنتَ لا تَعلم شيئًا، لكنَّك تدري هذه المقولة: ما خَفيَ أعظم!».

كَمن أخفى سُرَّه بِصمتِه الدّائِم، كانَ الحزنُ مكانَ السّر دائمًا.

لا تَعلم من الحياة شيئا، لكنَّكَ تَعي بأنَّها مؤلمة وغَير منصفة، كيفَ لها ألّا تَكون كذلك!

إمّا أن تكون مُصاحِبًا للألم أو أن تكون مصاحِبًا للسَّعادة، إما أن تكون مَعها أو ضدَّها، لا حلَّ وسطَ ولا طريقَ آخر.

وَنحن كانَ نصيبنا الألم، فلا سَعادة ستَقف معنا ولا حياة ستقفُ بجانِبنا، نَحنُ مَن نوهِم ذاتنا بأنَّها معنا، لم أكن أعلم نفسي سابقًا وأنا أبتسم دائِمًا، وبأنَّ السّعادة تَقف معي، لكنّا نافرتي، لا تستلطفني قطّ.

آه على أيامٍ هُدِرت أسفًا، وكان فيها نَجديّ يَضحكان.

الآن صار من الصّعبِ أن تلمح الابتسامة على مَلامحي أو بينها، كل شيء اختفى، وما قَد أُخفي بصدري أعظم مِّن أي جرح، أعظم مِّن أي ألمٍ، وأعظم من أي ابتلاء!

باهِتَة ومظلمة، لا رونق فيها ولا حياة.

هذه أنا الَّتي غادرت روحها جسدها بلا حولٍ ولا قوة، هذه أنا الَّتي ما تزال تَشتكي لنفسها لأنَّها مجرد أنثى وحيدة. أنا حيثُ أنا دائمًا، واقِفةٌ في بؤرة أحزانٍ لا تستطيع حتّى أن تُنقذُ ذاتَها، بل وبِطريقةٍ ما، قد أحبَّت هذه الفَجوة وما تزال مُنغمسة فيها.

أتساءل أحيانًا إذا متُّ، هل سَتُحاسبني روحي لأنَّني لم أعتن بِها؟

هل سَتجعل منّي آثمة بِحقِّها ومقصِّرة؟ رُبَّما أنا أستحقُّ هذا في النّهاية؛ لأنّني لم أعش يومًا كمَّا يَجب عليَّ، لم أعطِ لذاتي فرصة لتشعر بالحياة رُغم أنّي حاولتُ وحاولتُ، لكنّي لَم أستطع!

أنا الرّباب في عالمي، وروحي مَطِرة، أنا السُّقم في عالمي والحزنُ مطرحي، أنا تَحت خباياي باكية، وكَهيكلٍ قوية، أنا مُجردُ كتلة وحدةٍ، والاكتئابُ في الليل يكون حشايا روحي.

أنا ضائِعة بين صانِعات أحلامٍ، أنا الفاقِدة لذاتي بين الواقع والخيال، أنا لا واقع يحدث لي على ما يرام، ولا أحلام تَدعم الواقع ليكون ما أشاء.

أنا لا حياة لي، كأنّي عابرة سبيلٍ لا صوت لها ولا أثر تتركه عندما تُغادرُ بهدوءٍ، دون انتظار أو لقاء أحد، وحيدة فقط تنظر إلى الّلا شيء.

في ذِكريات أبريل سَيُقدَّسُ اسمي، على أشجارِه وسماءِه الصّافية، على أنهُرِه الهادئة وأمطاره الدّافئة، وسأبقى مَع ذكرياتِ أبريل أعاني من آلامها، سأظلّ عالِقة فيه مَع أمنية وظلالٍ فاترة، وأبقى مَعَ أحزانٍ وظلمةٌ خاضِعة، كمن لا شيء له في هذا الكون، مجرد عائِقٍ لا أهمية له، كرغبة سَتزول في النَّفس لأنَّها غير حقيقية، وكَكلمة حظٍّ زائِلة لأنَّها لحظية، هكذا أنا وهكذا حياتي، مُجرد كتلة من الكآبة لا يُلاحظها أحد.

«هل من الصّعب قول: أنا بخير؟»

نَظرَ لي بَعد أن دامَ الصَّمت بيننا لبرهة، لا يُسمع سوى صَوت الرّياح الَّتي تَجعلني أرغب بالصراخ مَع صوتِ نشيجها.

«أعني، أنا لا أودُّ الخروج من هذه الغرفة، أودُّ أن أبقى فيها دون فعل شيء، حتّى التَّفكير أريد منه أن يُغادرني، وَدون أن يسألني أحدُّ عَن السَّبب.».

لا بأس أنا سأبقى في قوقعةٍ فارغة، لكنّي لا أريد أن أكثر من التَّفكير في أيّ شيء. أريدُ أن أمارس الحيّاة الااعتيادية لكن لا أريد أن أجعل من التَّفكير يأكلني، أنا متعبة بسببه وبشدَّة، هو يرهقني ويقتاتُ منّي ببطء. جعلَ منّي شخصًا لا أعرفه ولا أميِّزه وسط ظلمتِه، حتّى بدأتُ أسأل ذاتي: «من أنا؟».

«عندما تتألمين قُولي أنّك تشعرين بالألم، عِندما تَحزنين قولي أنا أشعر بالحزنِ، عندما تيأسين قولي أنا يائِسة، وعندما ترغبين بالبُكاء فابكي دون تَبرير، لستِ مُجبرة على أن تكوني دائِمًا بخير، لكن الأهمّ أن تُعبري عمَّا بداخلكِ حتّى تكوني بخير!»

التَّعبير عمَّا بداخلي ليسَ بأمرٍ سهل، هو يَقول لي بأن أخرج من الحالة الّتي اعتَدتُها، وأن أتركَ مكاني الصّامت لأخرج إلى الضّوضاء وتنفجر أذناي، لا أنكر بأنَّ أشدَّ ما أكرهه هو الصوت العالي والصّاخب. ليسَ وكأنَّني سَأهدم ما بَنتهُ شفتاي كل هذه المدَّة مِّن صمت لآتي وأقول له أنا أتألم، لا اشعر بشيء مبهج، وكأنّي متوقفة عن الحيّاة، وكأن قلبي لا ينبض إلا بجرحٍ ينزف بغلٍّ وعدم توقف.

الأمر أنّي أودُّ البكاء حقًّا، لكنّي بطريقة ما أجدني أكتم الدّموع في جفني، وكانت عينايَ دائمًا تُعاتبان.

«أنا مرهقة من الألم، أريد أن آخذ استراحة ممّا أشعر بِه، إنَّه ينخرني بِبطء ويقضي عليَّ، وإن لم أكن من أنهيتُ حياتي فهو سَيُنهيني!»

كمَن يجلسُ على قاربٍ لوحدة تائهًا وسط بحر، لا توجد طريقٌ واحد ترشده نحوَ اليابسة، وفي الوقت نفسه أسماك القرش لا تنفكّ تَحوم حوله، الألم يتآكل داخلي ويقتات عليّ كما تَفعل تلك الأسماك بمن يغرقَ، استنجدتُ بهذا القارِب قدر الإمكان لكنَّه لم يستطع تحملي بِسبب ثقلِ أحزاني وهمومي؛ فَوقعتُ غريقة في بحر ألمي ليأكلني وتبقى أشلائي كمخلفاتٍ بأعماقه.

عُمقه بارد وقاسٍ، مظلمٌ وغير مبالٍ. لا يُمكنني التَّنفس لأنَّه يخنقني بشدَّة ويجعلني دائِمًا فاقدة للوعي والواقعِ؛ إذ يجعلني أهرب لخيالي وأحلامي ولكلِّ ما لا واقعَ قاسٍ فيه!

«ذاتي تَختنقُ في كلِّ ليلةٍ وأنا أجاهد حتّى أعيش، الواقعُ رغبتي في عدم العيش هي كل شيء للآن، لم يكن لَدي كأسٌ كبيرٌ كفاية ليتحمّل ما يُعذبني!»

«في الواقع جميعنا لا نَمتلكُ هذا الكأس، بل نَحن من نصنعها، كما تُجاهدين الآن لأقصاء هذا الألم من مراحل حياتك، نَحنُ مَن نقوم بكسر ذلك الكأس، أو ربما نحتفظ به ليومٍ آخرٍ، لَن يتكسر حتّى تَعي ما هي حياتُك، وتعلمي كيفَ تكون السّعادة، لن ينكسر حتّى يُفنى عمرك، وَتنتهي صفحة حياتك، لكنَّ لا حقَّ لك بِكسره و لا حتّى بفناء عمرك!»

لا حقَّ لي؟ أليست هذه حياتي وأنا من يَملكها!

أليسَ من حقّي أن أنهي ألم نفسي وأرتاح؟

أليس من حقّي أن أجعلها تكون بخير؟

لكن، كيفَ عساها أن تكون بخيرٍ وهي في هذه الحياة مظلومة؟

كيف لها إدراكُ الحيّاة وهي لا تعي سوى الدّموع؟

كان كل ما شعرتُ به حتّى هذه اللحظة هو الألم، فكيف سيكون المستقبل يا ترى؟

كل ما أدركه هو بأنّي لن أكون بخيرٍ ما دمتُ على قيد الحيّاة!

«لا تُحاولي أن تكتمي بداخلك شيئًا، تكلمي عمّا تُريدين فقط، وأنا سأستمع لك!».

أتكلم وتستمع! ربّما قد يفيد هذا! هل يَودُّ أن يعلم ما أكتمه؟ كيف أخبره أنَّ ما بداخلي فيضانٌ مكتوم خلف سدّايَ الهادِئين، خلف هذين النَّجدين فائِضٌ مِّن الكلام لا أحد يُدركه غيري.

«إنَّه مؤلمٌ أن تبقى صامتًا لحدِّ هذه اللحظة، لكم هو مرهق، هناكَ فائضٌ مِن الكلماتِ أودُّ إخراجها من خلف شَفتيَّ، أودُّ أن أهدم السّدَّ الَّذي يَمنع شكواي من الخروج، لكنَّه مرهقٌ جدًّا، وأنا لا طاقة لي حتّى أهدمه!».

«لا بأس، طالما تُحاولين فلا بأس! سأكون بجوارك دائِمًا حتّى أستمع لكِ وأرى ألمك، طالما أنا هنا سأساعدك على هدم هذا السّدِّ وأجعلكِ ترتاحين منه!».

__

سأقتل ذاتي من الجسرِ بِدون حياء.

_

أودُّ عناقًا| خبأني في العُتمة

_

سَقاني الحزن من كأسِه بكلِّ كرمٍ وسخاء، فلم يَجعلني أغادر الدّنيا بدون خزّان آلامٍ ومصاب أوجاع.

جَعلني تائهة في قلبي وحائرة في عقلي، تَركني سقيمةً بدون دواءٍ ولا ضمادٍ لجراحي.

كلّ صباحٍ ومساءٍ أبقى أنزفُ ألمًا بدون دمعٍ لكنّي أبقى أبتسم، هناك من يجعلني أودُّ الصّراخ إلى أن يفضى قلبي مّن ثقله، لكن كيفَ لي وأنا أمتلكُ سدّينِ ملتحمينِ  لا يودّان أن يَخرجا ما وَرائِهما مّن فيضان، ولا أنكر بأنّي أخافُ لو نطقا بِمّا قد يَجعل غيري يحمل مّن جرحٍ نحوي. 

بَعض الأحيان، في منتصف ليالي ديسمبر الباردة والَّتي تُشبهني كنتُ أعاني مّن مُشكلةِ ما أنا أشعر، لكنّي وقتها أدركتُ بأنَّ كلّ ما أريدهُ هو مجرد عناقٍ دافئٍ قد يجعل البُرودَة في مُحيطي أقل ممّا هي عليه الآن. لَم أكن أعلم إذا كنتُ بخيرٍ أم لا، وإذا كنتُ أتألم أو لا؛ فكلّ شيء كانَ مختلط بداخلي ولم أعِ ما قد يكون وماذا يَحتوي؟!

يأتي أبريل في أيامه الدّافئة لكنّها غير مشرقة بالنِّسبة لي، يأتي أبريل ويَجعلني خامدة مّن الألم! الجَّميع يُزهر في أبريل حتّى الصِّخور إلّا أنا أبقى كُتلةً مّن الظّلمة والخذلان.

«ألم تُحاولي بأن تُغيِّري ما أنتِ فيه إلى الأفضل؟!».

كنّا نَحنُ الاثنان نسير بهدوءٍ في أي طريقٍ يُصادفنا، الواقع أشعر بأنّي أسير تَحت رَغبته لا هكذا في الهواء الطَّلقِ لأبريل.

«لَقد تَغيَّرت، إلى الأسود تَحديدًا.»

رُبَّما كانَ تَغيُّري هو أسوء مخاوفي، كانَ التَّغير بالنًسبة لي عذابًا روحيًّا وجسديًّا، لَم يقتصر على التَّدمير الذاتي بل والمحيط كذلك.

«النَّظر للأمور المشرقة يُكلف الكثير.».

في منتصف حنجرتي صخرة تَرَبَّعت بدون حياء، تُضيقُ بجوفي وتَخنقني بكلِّ قوّة. الكلمات بالنّسبة لي بئرًا عميقًا لا نهاية له، بِئرٌ مهمتُه اغراقي إلى أن أفقد أنفاسي. 

«النّظر للأمور المشرقة ليسَ صعبًا، أنتِ فقط عليكِ التّناسي بمّا قد مرِّرتِ به لكن لا تَكتمي ألمك، عليكِ الابتسامة عندما يوجد ما يستحق لذلك عليك بالبُكاء عندما تشعرين بالألم، ليسَ عليكِ بواجبٍ أن تستمعي لغيرك وهو يرمي بقمامته عليك، بل أصرخي في وَجهه قائلة بأنّكِ قد مَلِلتِ من سماعه وهو يشتكي أو يتكلم عنك.

فقط لا تُحاولي جعل ذاتك حزّانًا للأحزان بل أجعليه فارغًا من الآلام ومُمتلأً بالسَّعادة.»

عَيناه اللامعة كانت تنظرُ إلى عيناي الفارغة، دائمًا ما تُحفزني كلماته لأبوح وعيونه لأتغير لمَا هو أفضل، لا أعلم سوى أنّي أقع لكلماته بِسهولة.

«هو سَهلٌ كقولٍ، صعبٌّ كفعلٍ!»

«سَيكون سَهلًا كفعلٍ لو حاولتِ قليلًا.».

أحاول، لقد حاولتُ آلاف المرّات والمرّات لكن صوتي كانَ مُختفيًّا، لقد حاولتُ أن أشتكي يومًا فوجدتُ الحروف تُنطق بدون صوت!

كل شيءٍ كانَ ضدّي، كل شيء كانَ وما زالَ مؤلم، لا أحد يعلم عمَّا تُعانيه شيئًا. يتكلمون كلَّما شاءو كلامًا جارِحًا وأنا أسمع لهم فقط كأنّ لا شيء قد يؤثر في الحائط متناسين بأنّ الحائط يُمكن أن يُهدم في أيِّ لحظةٍ لأنَّه ضعيفٌ جدًّا.

«اشكي لي أنا أولًا، ثُمَّ حاولي مع كلّ شخصٍ قد آلمك.»

سأفعل، لو كانَ هذا يَجعلني أكون بخير سأفعل!

سأشتكي له عن الليالي البارِدة، وسأشتكي له عن كلِّ دمعة قد ذَرفتها من جُفنيَّ يومَ لا أحد وقف معي، لكن هل سَتُكسر شِفاهي صَمتها؟ هل سَتنطقُ الحرف وحنجرتي سَتصرخ؟

أتمنى حقًّا بأن تبوح، لعلَّ ما بي يكون بخيرٍ!

«أنا...»

لم أستطع!

لم تَصرخ رُغم ما بي كثير جدًّا لأتكلم عنه، أعتقد بأنّي مجرد فاشلة في التَّكلم حولَ ما تُريد في النّهاية.

فاحئني الطّرف المقابل عندما أجلسني على كُرسيٍّ واستقرَّ بقربي ليُمسكَ بيدي ويأخذها بقربه، يَده كانَت دافئة جدًّا بالنّسبة لي ولِيَديَّ

«أعلم بأنَّ لا سطلة قد تُبيح لي بأن أفعل هذا ولكنّه قد يَفع بعض الأحيان، فعندما تُمسك بيدِ شخصٍ تشعر بالأمان.».

عندما تُمسك يدَّ شخص ما ستشعر بالأمان!

هل الأمان زارَ جزيرتي يومًا، كانَ الخوفُ يُزيِّنُ مقلتيَّ بجزءٍ قاتنٍ، أرجو دائِمًا ذاتي لمواجهة هذا الخوف تَحت أيّ تأثيرٍ لكن كلّ شيءٍ كانَ مسيطرٌ عليَّ وكنتُ مجرد أسيرة.

«أنا متعبة، ليسَ جسديًّا وإنَّما نفسيًّا، كلُّ شيءٍ داخلي معتم وأنا تائهةٌ في تلكَ العتمة. لا أشعر بأنّي كغيري قد أرغبُ بالعيش، أنا حتّى هذه اللحظة أفكر بطريقةٍ ما تَجعلني أموت فيها وبطرقة مضمونة!».

الموت أبشعُ شيء قد تُفكر به، لكن بالنِّسبة لي هو أكثر شيء يَجعلني أرتاح!

تَحت خِدرِ الآلام أعاني مّن الفاجِعة، أفكر كثيرًا بينما أقف، ماذا لو لم أولد في هذه الحيّاة؟ 

رُبَّما سَيرتاحُ الجّميع منّي، لن تضطر أمي بالقلق بشأنِ مصاريفي اليومية، ولا على الدّراسية، لم يَضطر أبي للعمل دائمًا من أجلي، وإنَّما لأخي فقط والّذي أضحى الآن مهندسًا مشهور.

عندما كنتُ صغير كانَ أخي يكبرني بثمانية عشرَ سنة، لقد كانَ كبيرًا جدًّا بالنّسبة لي، أمضى دراسته الجامعية في الخارج ثُمَّ عادَ إلى موطنه، حيثُ حياته قد ازدهرت هنا بسبب نجاحاته.

عندما توظَّف في الشّركة ذاتِ سيطٍ وقامَ بالعديد مّن المشاريع حتّى أودَعته الشّركة شقّةً أعطاني إيّاها؛ ولأنّها ملكه فهو يأتي لبعض ليالٍ ينام فيها ثُمَّ يذهب لمنزله الخاص. رُبَّما أنا شاكِرة لأخي لأنَّه جعلني أعيش في مساحة خاصة بي، بعيدًا عن تَذمر والِديّ حول طولي وعن طريقة عيشي، لكن يبقى أودُّ لو يمكنني الهروب مّن الوحدة!

الوحدة شعورٌ قاتل للمرء، لكنّها تبقى مهربه الوحيد!

«التّفكير بالموت أمر غير صائب، يجب عليك بوضع خططٍ لجعلك تَشعرين بالسّعادة بطريقة مضمونة، أن لا تجعلي ذاكرتك تَتذكر أسوء الآلام داخلك، وإذا كانَ هناك جزءٌ منك يرغب بالموت، فتذكري إن أعضاءكِ كلّ ما فيها تُنتحب لتبقى على قيد الحياة.».

رَغبة الموت تُسيطر على قلبي، لا أمر ولا شيء قد يترواى في محجر عقلي سوى هذه الفكرة. أعلم بأنَّه غير منصف أن أجعل نفسي تموت بدون أن تحيا في هذه الحياة، أعلم بأنّه غير منصف في جعل ذاتي حزينة دائمًا ولا تُفكر في اسعاد ذاتها، هو أمرٌ مرهقٌ ولكن أبقى غير قادر على جعل الأمور تسير كما أشاء حتّى لو كنتُ أبحثُ عن السّعادة كانت سَتهربُ منِّي بكلِّ صراحةٍ.

«لا شيء فيَّ قد يَرغب في العيش.».

«بَل فيك جزء يرغب بذلك... أتشعرين بضربات قلبكِ؟ انظري كيفَ هي تُقاوم للآن فقط لتعيش! هناكَ قطعةٌ صغيرة تَنمو في كلّ يوم، لكنّك تقومين باهمالِها لتجعليها تموت، كما ماتَت أشلاءكِ السّابقة. أيعجبك أمر استسلامك داخليًّا؟!».

«أنا لا أرغب بالاستسلام.».

حرارة عيناي اشتدَّت في أسفلها، الدّموع تودُّ النَّزيف، تَودُّ الخروج عمَّا هي محجورة فيه، تَودُّ أن تصرخ وتقول بأنَّها حرَّة وأخيرًا مّن سجن محجري.

«شَهلاءُكِ لم يكن رفيقها الحزن بل السَّعادة، لكنَّك أخفيتها خلف دموعك؛ لذا أذرفي ما بِجعبتِّكِ مّن أملاحٍ فاترة لّعلَّ السَّعادة تَظهر!».

الدّمعة الأولى قد سَقطت مَعها الثّانية فبعدها دموع لم أحصِّها. كانَ هو يشدُّ بامساكه ليديَّ والأخرى تمسح دموعي، كنتُ حقًّا أشعر بالأمان وإنَّه لا بأس حقًّا بالبكاء في حضرته، دامَ أنَّه سيبقى مُمسكًا بيدي.

«ابكي ولا تَكتمي، لا تكوني خزانًا مّن الهمِّ والحزن، كوني السَّعادة نَفسها!»

أن أكون السّعادة نفسها، لا أن أبحث عليها!

كيفَ لم أدرك هذا يومًا، كانَ عليَّ أن أكون تلكَ السّعادة لأجدها، فإن بحثتُ عنها تحتَ أيِّ أطلالٍ لم أكن لأجدها ولم أجدها أصلًا!

السّعادة لم تُغادرني بل أنا الغبية الَّتي هجرتها أبحثُ عنها.

«بامكانكِ بدلَ الكتم البوح، بدل ذرف الدّموع خلسة الافصاح عن تلكَ الغّصة بخوفك، كلّ ما عليكِ هو أن تكوني أنتِ.».

كلماتُه كالدّواء لقلبي ودافئة لشتائي، يَعرف كيفَ يَجذبني له وبالتَّالي أضعفُ أمامه وأنهار وكأنّي لم أكن قوِّية يومًا!

أرغبُ في الحديث عن ذكرياتٍ أرغب في هجرانها ولكن هل ستقبل ذاكرتي الرّحيل؟

«عندما حاولتُ أن أنتحر ثاني مرَّة، هل تودُّ معرفة السَّبب؟!».

اقتربَ أكثر باهتمامٍ متحمِّسًا لسماع ما بجعبتي مّن ألفاظٍ؛ لذا قرَّرتُ أن لا أدعَ هذا الحماس يذهبُ سُدًّى  عن حديقتيه.

«كشجرةٍ وحيدة لا أوراق ولا رِفقه معها قد تؤنس وحدتها. كنتُ عبارة عن غصنٍ في الأعلى لكن منبع نجاته في أسفل الأرض حيثُ الظُّلمة، لم أسقَ بِّما يجب يومًا حتّى أعيش، ولم أستطع جعل تلكَ الوريقات تنمو حولي بسبب الجّفاف وشكلي المخيف لهم؛ لذا كنتُ مستسلمة للموت!

مستسلمة له بكلِّ خشوع، لكن هذه الرّغبة الآثمة كانت يمكن أن تُمحى برغبة أخرى!».

«ماذا تكون؟».

«كنتُ أودُّ احتضانًا، عناقٌ دافءٌ لربَّما!».

رَّغبة بسيطة لكنَّها صعبة لِتُنفذ في عالمي، لم أحظَ بِعناقٍ قد يجعلني أرتاح قليلًا مّن الّذي أنا فيه، بَل كنتُ أعاني وحدي بدون أي يدٍّ قد تَّضمني كما يَفعل هو الآن.

يَده الَّتي تَشدُّ على خاصَّتي بكلِّ فعلٍ قد يَبذرُ منّي تَجعلني أشعر بالأمان، أنا مُجرد مراهقة لم تَعش كما يَجب على أيِّ فتاةٍ بسنِّها هذا، لم أذق مّن الحيّاة شيءٍ قد يَجعلني أرغب في هذه الحيّاة. التّناقضات داخلي قد كبرت، أحد أشلائي يرغب بالموت وهو القسم الأكبر ونظيرهِ هو الجزء الَّذي قد يرغب بالحياة وهو الأدنى، منهم مَن قد يبحث عن السَّعادة والآخر الحزن والشّوؤم ضيوفه، وهنا الأمر يُرهقني حقًّا!

«أيمكنني تَحقيق هذه الرّغبة لك؟».

لم أستوعب ما قاله في البداية لانشغالي بِّما أفكر، لكن بعدما نَظرتُ لعينيه وجدتُ فيهما ما لا يُمكنني قراءته، كانَت تلمع بِشدَّة عكسَ خاصتي الَّتي أعتَدتُ على خفوتها بالفعل، فهل الَّذي رأيته رَغبتي؟

لم أجب أو أفكر وإنَّما أومأتُ له بنعمٍ!

طالما هناكَ شخصًا يرغب بِعناقِ شخصٍ معطوب مثلي فلمَ قد أرفضه؟!

لا أحد قد يرغب بي لأنَّني مُجرد إنسانٍ فاتر لا حيّاة فيه، وكذلك لا تنسَ بأنَّني بلا روحٍ بلا حيّاة بداخلي حتّى قد يرغب أحد فيَّ، لكن هو ضَمَّني بدون تَردُّدٍ إلى صَدره، لقد كنتُ صغيرة الحجم جدًّا بالنَّسبة له؛ لذا أختفيتُ بين ذراعيه، كانَ يُربت على ظَهري بيدي والأخرى على رأسي، لم أقوم بمبادلته في البداية لأنَّني ما أزال لا أستوعب ما يحصل، إلّا أن هناكَ دفئًا في قلبي قد أحبَبته!

«لا بأس، كل الأمور ستكون بخير مِّن الآن وصاعِدًا، حتّى أنتِ سَتُعاد أشلاءك إلى داخلك ولَن تُعاني مِّن شيء، لقد صبرتِ حقًّا ويجب أن تلقي نتائج صبرك، لقد تألمتِ بصمتٍّ وآن الآوان لتنتهِ كل الأوجاع، أنتِ فقط ثقّي بي وسأفعل كل ما يجعلك بخير!».

لم يَعد كل شيء بخير بالفعل، لا أنا ولا أشلائي، حتّى بعد احتضانه أنا لم أكن بخير، حتّى بعد أن تأملتُ في فراغ عينيه، كنتُ لا أشعر بشيء وإنَّما أبقى أتخبط في جدران الليل!

كنتُ أبقى في الخبايا وحيدة، أُرمى وأنا مجرد قطعًا فاترة إلى ظِلال الليل لِتطاردني، أخاف أن أنام الليل بسببها، تُطاردني لتتآكلني بآلامها؛ لذا أبقى مجرد فتاة تسهر بدون بسبب، أبقى أنظر لسقف الغرفة وأنا خائفة مِّن وجودِها في أحلامي وظلمتها!

لم ألتمس مِّن الحنان ما بحنانٍ، ولا مّن الأمان ما بأمانٍ، أبقى في عجلةٍ دوّارة عنوانها الألم، يبقى يتمحور حولي وهو يزداد بفجواته بداخلي، حتّى أغدو بعض الأحيان فارِغة كفجوته!

فَجوةٌ قد تتآكلني فغدوتُ ميتة والظِّلال قاتِلتي!

وهكذا رُفع شعائر جنازتي وشُّيعتُ فيها، مآذن الموت تُنادي باسمي وأنا بين أسماء مَن ماتو بسبب بصيرة الخوف مِّن الأحلام!

شُيُّعتُ يا منافِذي وأوصالي وكل حشاياي، ولم يأتِ أحدُ لجنازتي سواي، لأن لا أحد لي في هذا الكون!

لم تأتِ سوى روحي القاتمة وهي تَتعهد على عدم البُكاء أمام تلكَ الحوفاء، أمام من قتلتني وأدخلت سكاكين الظّلمة في قلبي، مَن قامَ بغرسِ أشواك كلماته بدل بذورها، ومن جعلني أنزفُ بدونِ ضماد!

غَفوتُ على سَريرٍ أسودٍ وموحش، أسدَلتُ جفون الحيّاة مّن خاصّتي على نافِذة جافة وقاحلة، ولم أرغب مرَّة أخرى في أن أعيش!

مُنعدمة مّن الحيّاة، لا بأس ولكنَّ ما قد كلَّفني باهضٌ! ما جعلني أعاني في الوحدة وأوصالها القاتلة، كانَ كلّ شيء مؤلم مّن الداخل، لكن لم يقتصر على ذاتي وإنَّما قد احتلَّ جسدي ويصبني الصُّداع الأيام، يُضيق تَنفسي لليالٍ وتكاد حنجرتي تتمزق هي وأحشاءها بسبب الكتمان.

وما قد سُقيتُ بعد عناقه، وإنَّما شعرتُ بأوصالي تَفرَّعت بعد أن فرقنا العناق، أردتُ أن أبقى في حضن ذراعيه لأطول وقت ممكن، أن أبقى داخلها إلى حيث أن أدرك إلى مَن أنتمي وَددتُ في تلكَ اللحظة رغم إنَّها لحظة ضعف، فقط لو دامت لوقتٍ أطول، حيثُ أستمرُّ في البُكاء وهو فقط يحضنُني ويُربِّتُ على حنايا ضهري يقول لي بأن كل شيء على ما يرام، وأتمنى ذلكَ حقًّا!

ولأنَّ الأرقَّ كانَ ضيفي المعتاد في الليالي الغادِّرة أمسكتُ هاتفي أخبره بأنَّ الأرقّ قد تّمكن منّي، وبأنّي مستسلمة لفكري العقيم فلا لحظة راحة لي.

كنتُ مُتردِّدة مّن مراسلته ليلًا إلَّا إنّي قرَّرت التَّجرؤ، فلقد أحببت حضنه.

الدفء فيه ملجأً وأمانًا، وذراعاه تلكَ الجدران المحنَّة لذلك المنزل، تشعر بأنَّكَ تنتمي لها ولا تَودُّ مغادرة ما شعرت فيه ولو لحظة.

أتى لي ردًّا على رسالتي أخبرني فيها بأنَّه مستيقظ كذلك ولا يُمانع مّن الحديث معي، دَعوته للمنزل أخبره بأنّي لوحدي ولا بأس بأن تأتي وتحتسي كوب قهوة معي. مضى وقتًا بسيطًا ردَّ فيه بأنّه سيأتي، لا أعلم ما شَعرتُ فيه لحظتها ولكنَّه حتمًا كان مشابِهًا لسَّعادة. شَعرتُ وقتها بأنّي للحظة لستُ بوحيدةٍ وبأنَّ هناكَ من سَيرغب لي لجانبه، والواقع بأنّي أنا من رغب أن تكون لحانبه وليسَ هو.

شَعرتُ بأنّي فقط أرغب بدفئه ولا أهتم للباقي، لا أنكر بأنّي أحبُّ تلكَ اللحظة عندما أتكلم عمّا بداخلي وهو الآخر يَستمع لي ويطرح الأسئلة نادرًا، كان كل شيء فيه مريح.

بعدما وصل لمسكني الّذي أخبرته عنه جلسنا سوية على الطاولة نَشرب فقط كوب قهوة مّن دون نقاشٍ باهةٍّ كالعادة، ولا سؤال بينَ أطراف ألسنتا رُغم عيوننا تتكلم. لم أشأ ولو قليلًا بناء الحاجر بينه وبيني كما فعلت مَّع الآخرين، أريد فقط أن أجعله مقرَّبًا لي بوسيلة ما؛ لذا سأتكلم لأول مرّة عن ماضٍ بدون ألم!

«لقد قمتُ بقطع وَريدي عند المحاولة الثّانية».

كانت تَجربة مؤلمة جدًّا إلّا إنّها قد فشلت وقتها بسبب ضعفي، اغراس تلك السّكين لم يكن سهلًا، ولكنّي تحملتُ لأقسى أملٍ، انطلقت منّي وقتها صرخة فاترة ليأتي أخي ويُنقذني، والِديّ لم يهتما بي كما يهتمان بأخي، وربَّما كانَ هذا أول سَبب لما أنا عليه.

«الماضي ينسج تلك الفكرة المؤلمة، يجعلك محاصرًا في دّوامة مُشتَّتة لا تعلم أين سينتهي بها المطاف، وأنا كنتُ خائفة من استحواذِها عليّ، وفي الوقت ذاته أشعر بالألم بسببها، لكم رغبتي عظيمة في الموت، أرغب في أن أنسى الماضي!».

بينَ قُطبان الماضي أنا مُحاصرة، لا أفعل شيء سوى النّظر كيفَ تُمزِّقُ أوصالي وكلّ ما فيّ، أنا مُتعبة من الحيّاة ومّن العيش، فَلمَ لا أغمضُ عينيّ فقط أستريح؟!

«السَّبب الّذي يَجعلنا نَتذكر الماضي هو لمواجهَة المستقبل.

الذاكرة تَجعل منكَ تَتذكر ما لا تَحبُّه، ما يُسبب لكِ الألم بِكل جوارِحك، ويَنتزِعُ منك كل ما فيك. الأمر كُلُّه مقترنٌ للعيش بِشكلٍ صحيح، عندما تَتذكر ما مَرِرت بِه في حياتِك والألم في ماضيك هذا يَجعلكَ تدرك بأنَّ المستقبل قادِر على أن يكون أسوء بكثيرٍ مّن الماضي. 

الأمر أشبَه بأن تُصارع في فَجوتان أولها الماضي والأخرى هي المستقبل وأنتِ هو الحاضر، عندما تُصارعين مع آلام الماضي تَعلمي منها ولا تَجعليها تُنهيك، لا تَستسلمي لها وكون حاضرك بكل تفاصيل،  المستقبل عِندما يأتي اعلمي بأنَّه أسوء من الجّراح الّتي قد حصلت عليها. إن الماضي يَجعلك مستعدًّا عاطفيًّا ونفسيًّا للمستقبل، يَجعلكِ لا تتأثرين بِّما قد يجرفك إلى أكبر تيارٍ يدعى بالمفاجع. 

لا يَجب على الذّاكرة نسيان ما قد مرَّت به يومًا وكذلك أنتِ؛ فالذِكريات أمرٌ واجبٌ لتعيش.».

ألقى خطبته عن الماضي وأنا فقط أستمع له، كنتُ أرغب في شيءٍ وأنتهى المطاف في شيء، لا أرغب في السّماع عن الماضي، أعلم بأنَّ كل شيء أمرُّ به مجرد اختبارٍ ولكنّي في لحظة الضعف أنسى كل شيء!

المرء يحتاج إلى راحة لباله لكن أنا والرّاحة لا نلتقي!

مهما حاولتُ جاهدة بأنّ لا أستسلم إلى تلكَ الخطايا أجد ذاتي مستسلمة بوهنٍ كاسرٍ ولا طاقة لي للوقوف على قدميّ. ما يحصل معي يستنفذُ منِّي طاقة؛ لذا أودُّ ترك كلّ شيء واستسلم للنوم، لا أرغب في النّهوض مّن ذلكَ الخيال، باختصار لا أودّ أن أفتح عينيّ مجدَّدًا!

«أتعلم، السّبب الَّذي جعلني أدعوك إلى هنا ليس  لأن نتكلم عن الماضي، بل كان شيء آخر.»

نَظرَ لي مستغربًا لأسترسل في حديثي، كوني دائمًا ما أشعر بالتَّعب فنطقي وطريقة كلامي دائمًا ما تكون بطيئة، ولا أهتم كيف الطرف الآخر يتكلم ويُقلد على طريقتي في الكلام؛ فأنا أعلم بأنَّهم لم يمرّو بِّما أنا مرِّرت.

«أنا أخاف الوحدة بقدرِ ما أنا وحيدة، أريد أحدًا بجانبي رغم إن لدي أخٌ يهتم فيّ إلّا إنّي لم أجد غيرك من قد يفهم رغبتي في أن أكون مع شخص ما، أعلم بأن الوقت متأخر ولكنّي حقًّا أحتاج شخصًا معي في ظلمة الليل الحالكة،على الأقل حتّى تنقشع أحلامي المظلمة ثُمَّ يُغادر.».

كانَ فقط يسمعني وأنا أتكلم بغصَّةٍ، لم ينطق بشيءٍ أو بحرفٍ، فقط ينظر لي بصمتٍ وربَّما يُحاول استيعاب ما قلته، أعلم بأنّي سيئة جدًّا في التَّعبير عن مشاعري وهذا ليسَ بغريب.

«إذا، هل تودّينَ أن أبقى معك؟»

___

الظُّلمة هي جاري الوحيد في الدّنيا.

__

مبتور| بين دَفَّتي هجران

_

ما بينَ أشتات الذّاكرة يوجد للهجران معنًى، وحيدة مُتلفة بينَ أقطاب الماضي والحاضر، وبينَ أقطاب الحياة واللامكان، لطالما كانَ الفراغ أسوء المتاهات، وأشدَّها عتمَة، ولطالما كانَ الثُّقب في القلب يكبر في كلّ يوم حتّى أكلني وأماتني.

في اللحظة الّتي وَدِدتُ فيها أمانًا كانَ بقربي، أعطاني ما لم يعطِني إيَّاه والديّ، ذلكَ الحضن الدافئ، لقد شعرتُ وقتها للوهلة الأولى بأن كلّ شيء حتمًا بخيرٍ، يداه حول خصري وأنا منغمسة في صدره، كانَ كالوالِد عندما يحبّ مولودَته، رغم خوفي مّن البشر إلّا إنّي لم أخَفه، بل استميتُ قربه بلطفٍ بالغ!

عجبٌّ مِّن حالي إلى أين وصلت؟! كل ما أريده مِّن الحياة تَجسَّد في رَجلٍّ أتى بِحجَّة علاج، أعلم بأنَّه يَودُّ تركي بعدما يحقق مبتغاه، ولكنّي لا أرغب بتركِ علَّتي ووحدتي هكذا، أرغب بدمعة تُخدِّره وتضفي السّعادة للأبد، لا أن يستمع لأنين جرحي ومّن ثُمَّ يعود مّن حيثَ أتى.

أكره صَفائح الهجران أو أن أتركَ بينها، هي أكبر آلامي وأبشعها، هي العذاب الواهن والحرمان الفاحل، بيداءٌ مبترةٌ وفيها لواذعٌ سامَّة لا نَجاة منها. لا أرغب في الضَّياع بينَ صفائحِ الحزن رُغم إنّي كذلك، ذُقتُ منها أشتّى أنواع السّقم، وما أزال في كلِّ لحظة أحاول النَّجاة مّن الصِّراعات أجد فيها نفسي أعمقُ مِّن ذي قبل، أغطس في أعماقِها اللامتناهية وأستشعر برودَتها في جسدي وأنا لا قدرة لي حتّى المقاومة، فقط مستسلمة لها وهي تأكلني وتَخنقني بدون رحمة!

«هل تُريد حقًّا أن أُشفى مِّن دائي؟».

صَوتٌ مرتجف في حلقي، عقلي طائِشٌ ومراهقٌّ، رغم ما قد كَسبه مّن آلامٍ وآثامٍ بليغةٍ تَجعله أكبر ممِّا ينبغي إلّا إنَّه يَبقى عقلُ طفلةً تبلغ سبعة عشر عامًا، ومراهقة فاقدة لشغفِ العيش والتَّجربة.

الواقع هي خاضت تَجربة واحدة ألّا وهي الموت!

«ولمَ لا أفعل؟»

كانَ جالِسًا أمامي في منزلي_شقَّة أخي_ تَحديدًا على الأريكة وهي واسعة بالفعل، مُنذ البارحة وهو بِمسكني لم يُغادر منه ولو إنشًا، وَوجدتُ في وجودِه حلَّة لم أعهدها قبلًا.

«إذًا، كن لي أبًا، أمًّا، أخًا، أختًا، ملجأً وأمانًا، داءً ودواءَه، حياة وسعادة، لا تَتركني ولا تهجرني، لا تَجعل منّي مريضة أوهامٍ أو اشتياق، استمع لي عندما أريد الشّكوى، وخبأني في صدرِكَ عندما أخافُ الظُّلمة، فقط كن معي حتّى أرمق نِهايتي!»

جالِسةٌ بِقربه أحاول كبت رغبتي في البُكاء، أضع كفّاي على ناطقي وأبتلعُ الغصَّة ولكنَّها فقط تَكبر وتكبر عند كلِّ ثانية أكتم فيها تلكَ الرّغبة!

ثوانٍ ولم أشعر إلّا بي بينَ أحضانه، يُربتُ على ظهري، يُلقي على مسامعي وعودَه الّتي أردتُ سماعها بينما أنا كلّي أمانًا بينَه وفيه!

أريده بقربي كلّ ثانيةٍ، فأنا لا وقت لي للبوح، فقط عندما تنحشر الآلام كلّها في أوجاعي، وربَّما في منتصف الليل حتّى، أرغب أن يَدَّسّني فيه عند لحظات وهني وخوفي لأعيش، بدلَ أن أستسلم فقط لصوت الموت وأنقادُ له بكلِّ طواعية، للحظة فقط، أرغب في العيش!

كَلَيلةٍ لم أرغب في وجودِها، رَغبتُ لأولِ مرَّة أن لا تَنتهي، لقد وافقت على عيشِه معي، أرغب فيه بجانبي دائمًا، أعلم بأنّ له أشغال الحياة، وإنّي لستُ الوحيدة في العالم، لكنّي لا أهتم إذا كنتُ الأولى أو الأخيرة المهم أن أحظى بأمانه في صدري، فليسَ لي أحدًا يُعطيني ما أعطاني إيّاه.

أتَت الليلة وغَفوتُ تحت أكنافه، داخل صدره، شعرتُ بحضنِ أبٍ مستوحشٍ يخافُ على ابنته من وحوش الدّنيا. غَفوت في تلكَ الليلة لأول مرّة بدون خوف، مّن دون كوابيس الماضي، مّن دون ذنبٍ يُرافق روحي الباهتة. كنتُ دومًا كشخصٍ يبحثُ عن السّعادة في السّابق، أبحثُ عن شتّى أمورٍ قد تَجعلني أشعر بِّما الفرح، بِّما يجعلني أحلق في السَّماء الوعرة، وأبتعد عن ظُّلمة الأرض وبَشاعتها المستعرة، لقد وجدتُها بعد أن استسلمتُ للموت، بعدما حاولت بكلِّ قطعةٍ مِن روحي أن تموت، أن تستسلم بكلِّ ألمٍ في أخادِجِها، أتَت في هيئةٍ بشرية ولكم أكره البشر فمَا بالها الحياة جعلت مبتغاي فيه؟!

صَحوتُ مِّن غفوتي في مرفق ابتسامة، رغبة فاضحة على ثغري للابتسام، كانت حياة لم استشعرها سابقًا، فيه نكهة من الذّوبان الحلوة، نَكهة مّن اللذة الحلوة، رُغم إنها مُرَّة بالفعل، كالنّبيذ عندما تَتذوقه، رُغم أنَّه مرٌّ لكنَّه حلو.

جلسنا سويًّا على كرسي الاعتراف، مُطالَبَةٌ أنا في البوحِ لكنّي لا أرغب، لا أريد أن أتكلم عن رغبةٍ قد ماتت، ورَغبةٍ قد ولدت، أريد العيشَ وأنا مُغمضة العينَين عن الواقع، عن الماضي، غير آبهةٍ للمستقبل وما فيه. أريد العيش كحاضرٍ لا كماضٍ، فهل سَتحقق هذه الرّغبة يومًا، هل سَتعطف عليّ الحياة يومًا وتَجعلني آمنة مِّن البؤس والصّراع؟!

جعلني كدمية يجب أن تُجيب على كلّ سؤال تَحت أيّ ظرفٍ كان، أصمت عندما تَجتاحني تلكَ الغصَّة وبعضُ الآخر أتكلَّم؛ لكي لا تَتفاقم وتُقطع أشلائي الصّوتية!

«لقد رميتُ ذاتي مّن أعلى الجسر.».

في ذلكَ الوقت، عانيتُ بصمتٍ أحمق، كانَ بامكاني الصّراخُ في الليالي الباردةِ، كانَ بامكاني المُقاومة تحتَ أي لعنةٍ قد لمستني وحطَّمتني، وأنا كقطٍ مهجورٍ، في شّوارع ديسمبر ولياليهِ الباردة، بلا دفئ منزل أو صاحبٍ، فقط في زُقاقٍ سوداويٍّ لوحده، يُحاول البقاء على قيد الحيّاة لكنَّه لم يفعل، وجدَ أمامه طريقٌ لِلرّاحة فاختاره بكلِّ رحابةِ صدرٍ؛ لأنَّه جزعَ مِن الحيّاة وظّلمتها.

«كانَ عمقُ الماء كعمق دواخلي، مظلمٌ وباردٌ، يخنقكَ ويجعل مِّن رئتيكَ أوصالٌ ممزَّقة، يَغلي دمكَ داخل جسدك وأنت في آخر لحظة تودُّ النّجاة، لا راحة في الموت ولا راحة في الحيّاة، فقط آلامٌ مختزنة بين أطلال الماضي ودفتي ذكريات!».

كانَ يستمع لشكواي بحرصٍ تام، يصمتُّ تارةً وأخرى يتكلَّم، لكنَّه كانَ كصندوق المفاجآت عندما ينفجر، لا تعلم ما قد يحتويه مِّن الداخل.

«وهل كنتِ تظنِّين الموت سهلًا، الموت ليسَ بلعبةٍ تَلعبينها وقتَما شِئتِ، الموتُ اخراج الرّوح مِّن الجسد، تَنسلُّ مِّن أطرافك بكلِّ ألمٍ وَوجعٍ، لن يُريحَكِ اخراجُ روحك ونفسَكِ مِّن الدّاخل بالعكس، هي سَتعاقب حتّى ما بعدَ الموت، وستكونين المُلام على حرمان ذاتك مِّن العيش عندئذ!».

أتجرَّع مِّن سهمِ كلامه ما بحلوٍ ومرٍّ، ما بعذابٍ وراحة، يَقول كلّ كلمة مع تدقيق مبهم، كأنَّه يخبرني لا يوجد أيّ راحة في هذا الوقت، ويجب فقط أن نعيش كما هو مُقرَّرٌ لنا تَحت أيّ خدرٍ وأيّ ألمٍ!

أيعجبُه أمرُ أنّي أستحضرُ الدّموع في حضرته؟ أيحبُّ رؤيتي ضعيفة لا حولَ ولا قوَّة لها؟!

أم يشعر بالشَّفقة عليَّ لأنّي طريحةُ الألم ومشتقاته؟

هل يرثى لحالي المؤلمة كما يفعل أي شخصٍ؟

أرغب في جعله يندم على كلِّ دمعة ولكنّي في حضرة جلالته مجرد واهنة تستمع فقط لكلامه!

«ابكِ ودعِ الدموع تَنفذ، الألم يتحرّر مّن الدّاخل مّن خلالها؛ فلا تَكتميها! كوني قوّية وَواجهي ، لا تَفعلي ما تُريده منك الحيّاة ألّا وهو الاستسلام.»

«لكنَّه مؤلم، لقد تَخطيتُ جميع مراحل الألم وأشعر بالخدرِ، عندما تُسكب تلك الدموع وتشقُّ اخاديجي بحرقتها، أشعر بأني في مصارعٍ أكبر وأشعر بأن تلكَ الغصَّة الّتي تخرج تكبر!».

صوتٌ مبتورٌ مِّن دموعٍ قد سُكِبت، عيونٌ رطبة ولكنّها تَحترقُ لسعة،  أشعرُ بأنَّ حبالي قد تمزَّقت ألف مرَّةٍ وما أزال صامتة، تلكَ الغصَّة تبقى في الجّوف دون حياء تُغدقُ بي فتيل آلامٍ بدون رهفةٍ بي وأنا أحاول النَّجاة منها!

«تَكلمي، أصرخي، أنا هنا لأسمع، لأستنجدكِ، لا تقلقي بعد الآن ولا تكتمي، أنا هنا بجوارك ولنَ أغادركِ.».

أنهيتُ جملته بنحيبٍ وعويلٍ، أنا الَّتي صمدت لأعوامٍ مِّن دون بكاء، وأنا الَّتي استمدَّت بالقوة في كلِّ يومٍ، تَقع عند منتصف الليل على رُكبيتها تَصرخ، لا أحد يسمعها ولا يستشعر بها!

فقط تُعاني مِّن الأرقِّ بسبب ضيوف الليل، مجبرةٌّ أنا على مسامرتهم في أسوء لحظاتِها خوفًا، خوفًا مِّن فقدانِها لعقلِها بسببهم، ولا تعلم ماذا تفعل، فقط تواصل بقطعِ أملِ حياتها.

ضمَّني بينَ ذراعيه بكلِّ دفئٍ ودَدت أن لا يختفي، أنتحبُ بينَ ذراعيه كلّ مساءٍ وصباحٍ، كما اليوم والأمس، ومِّن دون الاهتمام  لمَ قد يكون قادم!

أبعدني عنه بمسح آثارِ الدموع الّتي كانت تسقط سُجامًا بلا توقف، يداه قد دفأت وجنتي المحترقة وأرختني، كالمعجزة في حياتي سأشبهه فَمن يهتم لأمري كما يفعل هو؟!

«سأخرجُ قليلًا وآتي لك، انتظري فقط.»

قالها بعد أن حلَّ الصَّمت بيننا، استقام يغادر وأنا فقط أراقبه، وددت لو لم يغادر، فقط يبقى حيث أنا، ولو ضاقَ بيننا الصّمتّ، فقط لأشعر بأنّي لستُ وحيدة.

لا يوجد في عالمي ما بجديدٍ، فقط الأشياء ذاتها وصراعاتي كلّ يوم، ألمٌ طاغٍ، عينانِ داكنتان، جسدٌ سقيم، تنفسٌ ضعيف، وقلبٌ يكادُ أن يموت! لا يوجد شيء بداخلي سوى ليلةٍ باردة وضبابية، ضبابُها الدُّموع، بُكاءُها صراخي، بُرودتها جفافي، قمرها عتمتي، كلُّ شيءٍ فيَّ سَلبيٌّ بطريقة مقرفة.

النَّهار في هذه الأرض مشرقة، البشر هنا مشرقون، لا أعلم كيفَ ما زالوا، لكنّي أنا المظلمة بينهم هنا، هم يرتدون هذه الملابس الملونة وأنا أرتدي الأسود على ذاتي المنطفئة، وكأنَّ الحياة قد ماتت فيَّ، وهي بالفعل ميِّتة.

«ما سبب ما أعانيه؟».

السّؤال الَّذي لا أعلم اجابته، لمَ أنا حزينة؟ لم أشعر بأنّي شيءٌ ثقيل ولا أودُّ العيش أكثر؟ لم أشعر بأن لا فائدة مِّن هذه الحيّاة وإن غيابي ووجودي واحدٌ لا ثاني لهما؟!

هناكَ الكثير مِّن الأشياء أجهلها داخلي لكنّي لا أجدُّ لها اجابة، كلّ شيء معتمٌ داخلي بالغبار وأنا أعاني مِّن كلّ شيءِ بسبب هذا!

شعرتُ فيه قد أتى مع أكياسٍ عدَّة، أعتقد بأنَّه قد ذهبَ للتسوق عندَ هذه الدقائق، نظرَ إليَّ باسمًا ثغره وهو يقول:

«ستكون جلستنا اليوم خارجًا.».

نظرتُ له بخفوتٍ وهو أمامي، النّاس في الخارج تزاول نشاطها الاعتيادي بكلّ راحةٍ، هناكَ مَن يُحبّ العمل الَّذي يزاوله وهناكَ من يضجر، لكنهم جميعًا يحبون أن يزهرو في هذه الأيام؛ لأنَّها أيام اشراقة أشجار الكرز. أما أنا فقط أودُّ النّوم بدون الاستيقاظ أبدًا.

«ارتدي هذه الملابس.».

مدَّ لي الأكياس الّتي جلبها لأنظر داخلها، فستان مشعٌّ ببريقٍ يعاكسني، لونٌ وردي كزهور، فيه أوراق الكرز متناثرة ببياضها، رفعته لأرى أكمامه اللطيفة، وكيف إنَّه ذو طولٍ متوسط وعريض مِّن الأسفل، لكنَّه يخصر لي خصري بشكلٍ فاضح، لم أرتدِ يومًا هكذا فستان!

غيرتُ ملابسي ولكم بدوت شخصًا غير نفسي، شخصًا لا يشبهني، التأقلم مع الآخرين أمر لا أستطيع فعله، هو صعبٌّ لامرءٍ  مثلي، دائمًا ما أعاني بينَ أشلائي المبعثرة في داخلي، ومع صراعاتها الّتي لا تنتهي، أخرجُ مِّن جرحٍ أطال النَّزيف لألقَ جرحًا بالغًا وأسخطُ مِّن قبله بعمقه ونزيفه!

غريبة، منفردة عن الجميع، لستُ مميزة باشراقتي لكنّي مظلمة لا ابتسم، لا أنظر إلى الحياة بكلِّ ودٍّ وإنَّما بكلّ خفوت، حتّى صرتُ أكره خروجي مّن هذه الرّقعة!

الثّالث مّن أبريل، بعض أشجار الكرز جميلة، زهرية كالفستان الّذي أرتديه ولكنَّه حتمًا ليس كداخلي، أيامه دافئة جدًّا، سماءه صافية مِّن أي شائبة.

«عمقي يبكي بصمتٍ بالغ، والدُّنيا تضحك بكلِّ صخبٍ!»

نبستُ مستهزئة مِّن لعبة الدُّنيا وأنا أجلس على كرسي في الحديقة، لم تزهر الأشجار جميعها؛ فنحنُ في بداية الرّبيع، والشّتاء ذهبَ مع خسائر كبيرة، أتساءل فقط، متّى سيذهبُ الشّتاء داخلي ويزهر الربيع كما يحصل على هذه الأرض.

الشّجن لتلكَ الابتسامات قائم في الدّاخل، لن أكذب لو قلتُ بأنّي أحسد مَن يشعر بها، أحسد المرء الّذي لم يعانِ ما أعانيه، وأشفقُ على مَن عانى مآسٍ أسوء منّي، أعلم بأنَّ للألم مستوياتٍ، تزورك في كلّ فترةٍ حتّى تسكنك، ويجب عليكَ آداء واجب الضيافة، فتبكي ألمًا، وتنتحبُ بُهتًا، فقط لتبقى على قيد الحياة، لتشعر مرَّة واحد بها، لكنَّك بطريقةٍ ما تعلم بأنّ كلّ شيء مجرد وهمٍ تمرُّ به!

«أودُّ سؤالكِ عن شيء؟».

التَّردّد في محياه هو ما لمحته عندما نظرت له، هو كان يسأل لين أطراف الذّكريات دائمًا بكلِّ حرية وبدون تردد، فلمَ الآن يودّ الآن حتّى يفعله.

«هل جرَّبتِ أن تقعي في الحبّ مرّة؟!».

عقدت حاجبيّ وأنا أسمعه يطرح سؤاله لأنفجر ضاحكة مستهزئة في سؤاله، الحبّ؟ هل يمزح معي الآن؟!

الوقوع فيه أشبه في الإنجراف نحو هاوية أخرى، عمقها أكبر مّن كلّ ما قد مرِرت به، الحبُّ متاهةٌ عظمى لا تستطيع الخروج  منها؛ فكيفَ يفكر أن أقع فيه؟!

«أعتذر عن وقاحتي، لكنّه حقًّا مضحك!».

قلتها بعدما أحكمتُ ضحكتي لأعيد تلكَ النّظرة له، أراهن بأنّه يلعنني وشتم نفسه، لأنَّه قد سألني هذا السؤال، لا ألومه للحظة، فمعظم مَن عانوا كانوا يعانون منه!

«لقد أخبرتك سابقًا، عشتُ كمنبوذةٍ في الواقع، وحيدة لا صحبة لي، مجرد شخص يحاول أن يعيش قدر الإمكان!».

لم يكن لدي وقت لأقع فيه، لم أجد شخصًا يمكن أن أعطيه هذا الشّعور.

«لكن أتعلم، كنتُ أنا مَن تحتاج للحبِّ لا أن أقع فيه، كنتُ أحتاج إلى حنان أمٍّ، إلى خوفِ أبٍّ، حبِّ صديق، أحتاج لكلّ شيء!».

«ماذا عن الآن؟».

«فقدتُ تلكَ الرّغبات عندما فقدت شغف الحياة.».

ما الأسوء مّن أنَّكَ فاقدٌ لذلك الشغف؟

الأمر أسوء ممّا قد تظنُّه بالفعل، أن تفقد شعورك بالحياة أشبه بأنَّكَ دمية لا تعلم لماذا هي تتحرك للآن، بلا روح في جسدِكَ، تنظر لكلِّ شيء، تحاول جاهدًا أن تعيش كما يعفل غيرك لكنَّك لا تستطيع، مهما حاولت وجاهدت فستبقى في قاع الهاوية لوحدك بينما الآخرين قد نجو منها بعد صراعٍ عنفٍ كذلك، فقط تُدرك بأنَّك لا تودُّ العيش بعد الّذي حصل معك وإنّكَ محاصرٌ بين أصداف الماضي!

«إن فقدان تلكَ الرّغبات صعبة، لكنّها حتمًا في عمقك، ما تزال في داخلك ولكنّك لا تعلمين أين تكمن، فقط أريحي عقلك الباطن، انظري للحياة بمفاهيم عدّة، لا تيأسي؛ فحتّى الحيّاة على هذه الأرض لم تفعل، هي تتماشى مع ألمها وتكون بخير!».

صمتُّ فقط أراجع كلامه، يبقى أمر صبري مجرد عذرٍ، أنا فعلًا نظرتُ للحياة، ورأيتُ ما بداخلها وخارجها، أعلم ما تريده وما لا تريده، ولكنّي فقط متعبة، أودُّ فقط الرّاحة رغم علمي بأنَّها ليست موجودة.

«انظري جيدًا، في السّنةِ أربعة فصول، الأول شتاءٌ فيه الأشجار تتحمل العواصفه وأمطاره ورياحه، وكل شيء فقط لأنَّها تعلم بعد الشّتاء يأتي الرّبيع، فيأتي بالفعل فتُزهر، تُزهر بأوراقِها وثمارِها، وزهورِها وعطورها، ثُمَّ يأتي الصيف، فتقاوم، تحاول أن لا تنتهي بحرارته ولا للسعته، فيأتي الخريف بمزاجِه المتقلب، يومًا يكون معها ويومًا آخرًا ضدَّها، لا تعلمين متّى ولماذا وكيف، فتتساقط كل ورقةٍ وتضحى جذعًا يابِسًا، لكنّها لا تستسلم وتبقى منتظرة حلول رَبيع آخرٍ لتزهر مرّة أخرى كلّ سنة!».

تزهر ثُمَّ تموت أوراقها فتزهر مرَّة أهرى وأخرى بدون مللٍ من العيش!

هو يطلب منّي أن أزهر في كلّ مرّة تبتسم معي الحيّاة وأقاوم عواصفها، ألا يفهم بأنّي متعبة من الأمر بأكمله؟ لقد قلتها مرارًا وتكرارًا بأنّ لا طاقة لي لأعيش في هذا الكون الغير آبهٍ، وبأنّي جازِعةٌ مِّن العيش تحت أيّ عذرٍ، فلمَ يصرُّ على موضوع أن أقاوم أوجاعها الّتي ترميني بها؟!

«لِنُنهِ جلستنا عند هذا الحد لليوم.».

وبالفعل قد أنهيناها، أصرَّ على البقاء قليلًا نستمتِع بمشاهدة أوراق الكرزِ وهي تسقط، ولم يخلُ الأمر بالفعل مّن نصائحِه في زرع الأمل داخلي، لكنَّنا نحنُ الاثنان تعاهدنا على أن لا نلتقي تحت أيّ ظرف!

في متاهةٍ سوداء لا جدران لها، أرضٌ سوداء جرداءٌ مّن كلِّ حياة، فيها نفسي فقط!

أرتدي ذلكَ الفستان الزّهري الّذي اشتراه لي لكنّه كانَ مُمزَّقًا، أنفاسي تلهثُ خوفًا، أرى ذلكَ الرّماد وهو يتحول إلى ظِلالٍ، أحلامي وهي تحترقُ بكلِّ ما فيها ثُمَّ تضحى تُعذبني كما الآن، أهربُ، أبقى أهربُ مّنها لكن لا نفع!

هي سَريعة جدًّا ولا يُمكنني الفرار منها، مهما حاولتُ الصراخ والرّكض بعيدًا أجدها حولي، أحدها تلاحقني في كلّ أمسياتي الباهتة، مهما حاولتُ درعها، هي تكبر وتقيدني!

صرختُ باسمه مرارًا وتكرارًا، حاولتُ أن أراه في عالمي المظلم ولكنّي لم أفعل! حاولتُ ولو بأملٍ قليلٍ أن ألمحه ولكنّه ليسَ موجود، هو قد غادرني كما فعل الجَّميع، لا أحد معي في عُتمتي البالية لينقذني منها، تلكَ المتاهة الّتي لا طريقَ لها، ولا بابَ لها، خائفة رغم إنَّها واسعة وبشدَّةٍ، أشعر بأنَّ نفسي قد تقطَّعَ ولا يمكنني أن أستشعر به قط!

كحبلٍ يلتفُّ حولَ عنقي بكلِّ قوَّة وأنا أكاد أن أغادر جسدي، لا يمكنني ومهما حاولتُ أن أعيشَ، مصيري الموت في هذه المتاهة المؤلمة والفارغة، مصيري أن أتعذب في مسيرتي، وأن ألقى حتفي بألمٍ!

لا يُمكنني العيش تحتَ أكناف الصّراع وهو يقود بي للتهلكة، ولا أعلم حتّى كيفَ سأنتهي مَع هذا الألم، أقاتلةٌ أم مقتولة مِّن قبله؟!

كلّما حلَّ نجوى الليل أكون فيه ضحية لجرائمه الصّامتة، يقتلني في أحلامي بصمتٍ بالغٍ، حتّى تبدأ بالشكِّ إذا كانَ موجودًا أصلًا، أبقى أعاني مّن تلابيبه الَّتي تُقيدني مِّن أطرافي ونبثُّ فيَّ سُمَّها لجعلي أختنق!

يُلاحقني في أحلامي لجعلها كوابيسًا، حتّى الأحلام لم تعد بأمانٍ في حياتي، فكلَّ شيء هنا يقسم بوعيدٍ على جعلي أنهار كلّ ليلة وأتدمَّر، على أن أكفر بالابتسامات وبالضّحكات، وأن أنكر بالأمل وبالأحلام!

أستمرُّ في كلّ ليلة مع صراعٍ لأبقى، ومع صراعٍ لأموت، في هذه الكوابيس الدّاكنة تجتاحني رغبة كبيرة لأعيش، أما في واقعي فأنا أنتظر لحظة موتي على مضضٍّ!

حاولتُ التَّمسك بالحياة بعدما قد قُطِعَ نَفسي، امسكتُ رقبتي المتصلبة وحاولتُ فكَّ الحبل الوهمي الّذي أشعر به، ولكنّه لم يكن يحيط رقبتي، وكأنَّه أمرًا لا أستطيع أن أبصره، وهذا كانَ قاتلٌ لي بشدَّة.

فتحتُ عينيَّ مِّن الظّلمة لأستقيم في لحظتها ألهثُ بكلِّ قوّة، نظرتُ حولي أبحثُ عنه بهلعٍ كطفلٍ استيقظ مّن نومٍ ولم يجد أمه بجانبه، والّتي وعدته بأنَّها لن تُغادره أبدًا، لكنَّها فعلت وتركته بمفرده يواجه خوفه وهو ضعيف!

كنتُ كمن يهلع مّن فراشه خائفًا أن يترك بينَ دفتي هجرانٍ بالية فلا يقوى على حملها، أو يقوى الألم الّذي يتآكله لأنَّه بين دفتي صراع!

كنتُ أنحبُ كطفلةٍ فقدت أمها، بحثت عنه في كلِّ إنشٍ في المنزل لإيجادها، كانَ منصدمًا عندما رآى هيئتي المبعثرة لينطق باسمي، لم أعطِّه مجالًا حتّى قفزتُ لأحضانه وهو واقفٌ ليزداد علوَّ بكائي بينما أشدُّ مّن احتضاني له.

«لقد أخبرتك لا تُغادرني!».

لقد أخبرته بأنّي أخاف الوحدة، أخاف الهجران وأخاف البقاء، وجوده هنا بالنِّسبة لي هو منبع أمانٍ أحاول أن أغرق فيه، فهو ليسَ ببارِدٍ ولا بعميق، هو دافئ لي، يُدَّثرني في حنانه وأمانه، فأشعر بِّما قد فقدته مُذ زمنٍ.

بقى يُردِّد أسفه عليّ ويُربتُ على ظهري كطفلة، حاولَ جعلي أهدأ تحتَ أيّ عذرٍ ولكنَّ الأمر لم ينفع، لا أريد أن أهدأ، أخاف أن يغادرني ثانيةً بينما أنا في غفوةِ كابوسٍ ولا أجد احتضانه!

أخذني إلى السّرير وأنا ما زلتُ متمسكة به بكلِّ قوّة تملكها أطرافي حتّى لا يرحل، انسدلنا على السّرير بينما يُهدِّأُ فيِّ بوعودِه وكلماته، أخذَ الغطاء بينما أنا متمسِّكةٌ بخصره أعدِّل مِّن طريقة نومي وأغرس رأسي في صدره، جسده دافئ، وعطره آسِر، يجعلني أهدأ بسهولة وأغفو بسرعة لم أكن مخطئة عندما قلت بأنَّه رغبتي الّتي فقدتها، كل شيء كنتُ قد أضعته في داخلي تَجسَّدَ فيه وأنا الآن أتمسك به، لن أجعله يُغادرني حتّى بعدما أشفى، فأما أن يكون الموت فُراقنا أو الموت!

__

آسفة، لأنَّني كنتُ أنانية.

__

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon