كُتلة |جزيرة من المشاعر

_

S. O. S

أتعذّب بينَ أهاجيس الذّاكرة، أتعذّب ومالي مّن قوّة لأحتمل ثقلها!

بينَ أطراف الحروب أقع وأنزفُ ومالي مّن دواءٍ لأعيش، فاقدةٌ لرغبة العيش وما لي مِّن صوتٍ حتّى استغيث، كالسّواد في عتمةِ الليل وكغطاءٍ يُعصبُ حولَ العينين، أنا كنتُ أتلاشى بينَ الواقعين. رغبَةُ الحيّاةِ منعدمةٌ ورغبةُ الموتِ فاضحةٌ، كالدُّرِ الميت والغير حقيقي، وكالنَّوافذ الواهمة الّتي تَجرُّكَ للظلمة، لا شيء في عالمي يُعطي لكَ الأمل لتعيش، فقط عينين سارِحتين في أشلاء هذا الكون وأنا بواحةٍ باهتةٍ مصفرَّةٍ!

لطالما آمنتُ بِفكرة أنَّنا جزيرةٌ سُكّانَها المشاعر، في القلب توجد تلك المشاعر بأنواعِها، الفَرح، السَّعادة، الحزن، الألم، البهوت، الحبّ، الكبر، الغيرة، كل شيء متكون مِّن المشاعر يسكن في القلب، وعلى إحدى هذه المشاعر أن تَحكم أرضهم، فإن كانَت فَرِحة وعادِلة كانَ قلبُ يَنبض في الحيّاة، وإن كانت عكس تلكَ المشاعر المبهجة فاعلم بأنّ قلبكَ صارَ بيداءٌ مُظلمة وقاحلة، وإن حاولتَ العيش لن ينفعه الأمر فلقد انتهى الأمر بِموت قلبِك النابض!

وأنا قد مَكثتني آهات روحي الفاترة فأضحيتُ بلا حيّاة أو شعور مُبهج، بقيتُ أتلوى ما بينَ الآلام بلا قوةٍ لأُنقذ ذاتي، لهيبي الفاتر يتَصاعد في كلِّ لحظةٍ مُخلِّفًا وراءه رماد أحلامٍ قد احترقت!

كابوسٌ زارني ككلِّ ليلةٍ لا َيرحم نَّفَسي، ضعفتُ جدًّا أمام الخَوف وما أزال أخاف مِّن تِلكَ الظّلال، مِّن مطارَدتها لي وسط ظلمتي ومِّن احتراق تلكَ الاحلام وتَرك مخلفاتِها، تحت أيِّ عذابٍ وتحتَ أيِّ نُّقمٍ أنا أعيش، واقع أنّي أعيش في ظلمة تُرافقني قد يَبدو مؤلم، لكنّي أدركتُ في النّهاية إنَّها مجرد شيء اعتيادي أمرُّ به بكلِّ برود، أحاول أن لا أتأثر فيه ولكنّي استسلم في النّهاية باكية!

حُضنه الّذي هو أماني غابَ عنّي في تلكَ الليلة، كنتُ أحتاج إلى ذراعيه حولي حتّى اهدء، فقدتُ صوابي خائفة إنَّه وهمٌ وبأنَّه تركني، كنتُ خائفة مِّن اختفاء واحَة أماني بِسبب ظلمتي لقد كنتُ أصرخُ يائسةً حتّى يُنقذني ولكنّه لم يأتِ، وكانَ الأمر يقتلني مِّن الدّاخل، عندما تضع ثقتِك بأنّ هناك مَن ينقذك، لكنّك فقط تسقط جريحًا مِّن دون وجوده بجانبك أمرٌ مؤلم حقًّا، أشعر بأن الآلام تتضاعف حولي بكلِّ وسيلة، وأشعر بِأنّ قلبي كاهلٌ لا يستطيع أن يقاوم.

بَعد صراعٍ في حُلكة الليل أجبرني على الاستيقاظ مُبكرًا، لدي اليوم مدرسة، لقد انتهت العطلة بالفعل وقد تغيبتُ ليومين، أكره الذّهاب للمدرسة، لكنّي مجبرة على الخُضوع لذلك، على أيِّ حال هي فقط سنة دراسة واحدة وستنتهي، لا أفكر بدخول الجّامعة أو ما شابه، الواقع أودّ لو أجلس في المنزل فقط دون فعل شيء، لا شيء فقط، أتمدَّد على السّرير وأشاهد أفلامًا أو مُسلسلاتٍ وربَّما بَرامج ثقافية.

أخذتُ دواء الاكتئاب الوفي، حضرتُ كوب قهوتي لأشربها قبل المغادرة ولكنّه أوقفني جارًّا إيَّاي إلى مائدة الإفطار الّتي قام باعدادها قبل أن يوقظني، لم أتناول الفطور مُذ أن كنتُ في السّابعة.

«سَواءٌ رَضيت أم لا، سوف تَتَّبعين نظامًا صحيًّا مِّن الآن فَصاعِدًا، وأيُّ اعتراضٍ غير مقبول.».

اجلسني بالفعل ولقد رأيتُ فَطورًا لم أرَه في حياتي، أنا قد فَقدت شهيتي للأكل مُذ زمنٍ ولم أكن آكل إلّا وانتهى الأمر بي أتقيَّؤ في الحمّام، فمَ باله يودُّ منّي الأكل الآن؟

لا أمانع مِّن التقيُّؤ فوق قميصه الأبيض بالفعل!

«الأدوية الّتي تأخذيها تحتوي على فاتح شهية، لقد أخبرني أخاك بالفعل عن مشكلتك؛ لذا بالصّحة والهناء.».

قالها يَرسم ابتسامة صغيرة على فاههِه لأنظر له صامتة، أنا بالفعل أمضي نهاري كلّه مطبِقة شفتي لكن هذا لا يعني له الحقّ في أخذ حريته معي، بدأت أكره الأمر فعلًا، أنا أرغب في فعل ما أريد لا أن تُلقى علَيَّ قوانينًا يجب أن تطبَّق!

استقمتُ مِّن الكرسي لأغادر لكن صوت معدتي فجأة قد ظهر مِّن العدم، حاولتُ اخراسَها لكن الأمر لم ينفع لأسمع صوته والَّذي كان يُحاول كتمَّ ابتسامته على وضعي.

«لقد بدأ مَفعوله، تعالي لن تَخسري شيء.».

جلستُ على مضَضٍ أمامه لأنظر لطعام مجدَّدًا، لا أعلم كيفَ أبدأ ومِّن أي طَبق، أنا فقط أنظر للأكل وأشرب ثاني كوب قهوةٍ قد حضَّرته، عندما رأى الآخر حيرتي قامَ بوضع الأكل أمامي، بيضٌ مسلوق ومُقطع مع خبزٍ أسمَرٍ، زُبدة وزَيتون، خيارٌ وطماطم وكذلك الجبن، لا أعلم ما آكله ولكنّي أحبُّ الزِّبدة؛ لذا أخذتُ القليل منها ودَهنتُ الخُبز فيها لآكلها، شَعرتُ بلقمتي تَختَرقُ بَلعومي لمرئي فتقع بمعدتي، لم أعتد على الأكل في الصّباح، دائمًا ما أمضي يومي في أكل وجباتٍ خفيقة، ولِدتي كانت تستقبلني في الصَّباحِ بِصراخِها وشكواها مِّن شُؤمي، لطالما تعتبرني بأنّي مَصدرُ الخراب للمنزل.

«لم أكن أتناول الإفطار على مدار إحدى عشرة سنة، في الصَّباحِ أغادر في أبكرِ وقتٍ مُمكن إلى المدرسة، وعند العطل لا أنام الليل أصلًا لأخرج عند الخامسة فجرًا، قبل استيقاظ والِدتي، كنتُ أكره النَّظر لعينيها، والسَّماع لكلماتها، لكنّي كنتُ أحبّها، أما والدي فلم يكن مقربًا لي، همَّه الأول والأخير أن يُوفِّر المال مِّن أجل أخي، الاهتمام بي كانَ آخر أمر في قائِمتهم، وللأسف تلكَ القائِمة كانت تَحتوي على الكثير مِّن المتطلبات فلم يَهتم بي أحد حتّى أتى أخي... كرهتُه حقًّا في البداية، ما الّذي يجعله مُميَّزًا عنّي حتّى يُقدِّسه تَفكير والِدي وينسَياني؟! كانَ هناكَ الكثير والكثير مِّن الأسئلة في داخلي أدركتُ معناها وإجابتها مَع مرور الوقت، كانَ أخي عكسي تمامًا، عندما بدأتُ أدمنُ النَّوم في مرحلة الإعدادية لم يهتم أحدٌ لسَّبب، لكنَّه كانَ يفعل، فعندَ عودَته صارَ يحشرُ أنفَه في حياتي، وجدتُ بأنَّ لَه أصدقاء عدَّة، عَكسي أنا وحيدة، حتّى أنّي قد انفجرتُ في وجهِهِ عندما قالَ لي بأن أخرج مِّن غرفتي مَّع أصدقائي قائلة بأنَّه جاهلًا لحياتي وبأنّي مجرد روحٍ قانيةٍ وحيدة؛ لذا الأفضل له تركي وحدي!».

الكثير مِّن الأحيان كنتُ أتساءل، هل هناكَ شَخصًا يَتذكرني في حياته لو متّ؟!

لم أكن شيئًا طوال هذه السَّنوات السَّبع سوى علَّة فهل سيطيبُ خاطرهم بتذكري؟!  يبقى الإنسان كتلة مِّن المشاعر المُختلطة والمُختلفة، لا يستطيع أحدٌ أن يمتلك مشاعرًا مشابه في المقدار للآخر؛ فهذا مستحيل حتمًا!

سواءَ ذُكِّرتُ بخيرٍ أو بكرهِ، هذا لا يهم، المهم أنَّك فعلتَ واجبك في هذه الحيّاة الدّنيا وغادَرت بسلامٍ وهذا ما أفعله حتّى الآن.

كانَ ينظر لي بصمتٍّ أتكلمُ عن ماضٍ ودَّ سماعه مُذ زمنٍ، فَتْحَ حديثٌ عن الماضي أشبه بفتحِ جرحٍ بيديك مِّن دون ضَماد، ذلكَ الجرح الَّذي بِوِدِّك لو يلتئم ويختفي مِّن حيّاتك، ولكنَّ النِّدوب لا تَختَفي، هي تبقى بأثَرِها الدّائم، حتَّى لو أخفاها الجَّسد فالعقل لَن يَفعل وسَيبقى يتذكرها دائِمًا بكلِّ لحظةٍ تمرُّ عليه.

«بدَل تَركي قامَ أخي بِضمِّي إليه، حاولَ مُداواةَ جروحي وتَضميدَها، أتى بكَ إلي، بعد معرفته بعلَّتي، حاولَ جاهِدًا بِجعلي أبتسم وأعيش كأيِّ فتاةٍ بالكون، ولكنّي في كلِّ لحظة كنتُ أحاول انهاء حياتي.».

تَجارب أخي مُعظمها ردَّت بفشلٍ عميق كانَ لَها سببًا واحدًا، هو قد أتى متأخرًا جدًّا، لقد أتى في الوقتِ الَّذي تَوقفتُ فيه بالعيش، وإعادة الحيّاة لميتٍ أمر لا أحد يَستطيع فعله سوى الرّب؛ لِذا بقيتُ على حالي إلى هذا الوقت أصارِع بينَ جِفوني في كلِّ مسّاء.

«أتعلمين، عندما أتى أخوكِ لي كنتُ قد رَفضتُ علاجك، الواقع بأنّي لا آخذ جلساتٍ لمن هم أقل من سنِّ ١٨، لا أستقبل أعمار المراهقة بِحجَّةِ إنَّها مُجرد اضطراباتٍ في الهرمونات أو لأنَّه في مرحلة بِلوغ، لكنَّه قد أصرَّ حتّى أقبل، اخبرتُه بأنّ الأمر لن يَنفع مرارًا وتِكرارًا، لكنَّه بقى يأتي إلي، عندئذ قرَّرتُ مراقبتك لأيامٍ قليلة أستطيع تصنيف حالتك، ومُذ اليوم الأول أدركتُ بأنَّكِ مصابة بالاكتئاب، وفي اليوم التالي أدركتُ إلى أيِّ درجةٍ قد وصلتِ؛ لذا وافقتُ على أخذ جلساتِ علاجٍ لك، إلى أن يَنتهى بنا المَطاف حيثُ يجب أن ينتهي!».

«لمَ هو مهتَمٌّ بي لهذه الدّرجة؟».

«لقد أخبرتك إنَّه يَشعر بالذَّنب، لأنَّه كانَ السَّبب في ما تمرِّين به، أعتقد بأنَّه شعور أخٍ مهتمٍّ.».

على الأقل هو يَعرف ذنبه، يعلم بأنَّه السَّبب في ما قد آلت إليه نَّفسي، ووصلتُ إلى ما وصلت، تُهتُ حيثُ لا أعلم، تَفكيري دائمًا مُشوش، دائمًا ما يكون ضوضاء وغير هادء، يَجعلني أجنُّ في لحظة ضعف، فلا أعرف ما قد أفعله بذاتي أو بغيري، سوى بأنّي سأجرح كلا الطرفين وسَأغفو مَع جرحٍ آخر.

«اذهبي الآن للمدرسة، عندما تَنتهين سآتي لأقلَّكِ.».

هَمهمتُ له فقط فأنا لا طاقة لي أكثر للحديث، فما حصل قبل قليل استنزفَ كل طاقتي لِلبوحِ، وعلى ما يبدو بأنَّه سَيأخذ جلسةَ استجواب أخرى بعد المدرسة.

تَمضي الأيام بينَ جفنين، في الأمس كنتُ صغيرة فَقط، تمشي في كلِّ الطُّرقات، حتّى حَفظت كلّ طريقٍ ومَنفذ، لكنَّها جاهلة لوجهتها، لطالما تساءلت، ما وجهتي؟  ماذا تكون؟  إلى أينَ سأتوقف وإلى أين ستَقودني؟

الأسئلة الَّتي لا إجابة لها هي أسئلة خاطئة، هذا ما قيل لي، ها أنا أسأل نفسي السؤال ذاته في عدَّةِ صيغ مختلفة، لكنّي لا أجد الاجابة، لا أجد منفذًّا لحالتي الّتي أنا فيها، كلُّ شيء داخلي مبهمٌ وأنا أحاول أن ألقى لغموضه حلّ ما.

عندما شار‌فت الدّروس على البدأ لقيتُ تلكَ الابتسامات الواسعة، الوحيدة ما بينَ الطلابِ هي أنا، الّتي لا تملكُ الرّفقة، لا تُجيد الابتسام، لا تتكلم ولا تَنام وسط الدّرس، تتعرض للسُّخرية بصمت، فقط أنا الوحيدة ما بين الجَّميع الّتي تسكن بصمتِها وضوضاء عقلها.

«هل أُنهيَّ الدّوام لليوم؟!».

«أجل.».

لقيتُه أمامي في ملابسٍ رسمية سوداء، القميص وحده كانَ أبيضًا، نظرتُ حولي لأجد بعض الفتيات ينظرنَ له باعجابٍ، بالفعل عليهن ذلك حتّى أنا قلبي توقف عند رؤيته أمامي، لكنّي لا أهتم الآن بهذا الموضوع، فالوقوع بالحبِّ هو فقدان نهائي للعقل، وأنا لا أستطيع أن أزيد الطين بلَّة حتّى تزداد علَّتي فوق ما هي مؤلمة.

رَكبتُ معه في السّيارة ليأخذني بسرعتها القصوى إلى متجر ملابس، نظرتُ له بعلامةِ استفهامٍ ليُجيني وهو يُزيل حزام الأمان.

«ليسَ لدي أحد أُبَذِّر عليه مالي غيرك؛ لِذا جلبتك لنغير في بعض الأمور مِّن اسلوب ملابسك المُظلمة.».

لم أهتم لجريدَته وخرجت، وهو سيصرف المال على لا شيء، فأنا لن أرتدي إلا ما يُمثلني.

عجُبٌ من الملابس وألوانها في المتجر، وعجبٌ مِّن حالي الرَّثَّة الَّتي لم تُحب إلَّا الأسود. ذهب ليختار لي الملابس وأنا كنتُ فقط أتنقل بينَ الأثياب، كانَت جميلة وزاهية، إنَّها موضة الرّبيع بالفعل، كلّ شيء فيه ذو ألوانٍ مبتهجة وفاتنة، الزّهري المشع والأخضر كالحقول، الأصفر كالشمس والأحمر كالجّوري، الأبيض كالنَّقاء والأسود كالخطيئة، جميعها مزينة بزهورٍ ذاتِ أحجامٍ مختلفة، وما لفتَ انتباهي ذلكَ الفستان الأسود، كانت فيه زهورٍ وردية  صغيرة الحجم، مِّن أكتافه إلى ذيوله، مُخصَّرٌ مّن فوقِه وعريضٌ مِّن أسفله، كما أحبُّ تمامًا، خصوصًا مَع طريقة تصميمه المميزة.

ألتفتُّ له مسرعة آخذةً الفستان، لم يلبث ثوانٍ حتّى قالَ لي أن آخذَه، بدا رَفضه في البداية بسبب لونه ولكنّي أبديتُ اعجابي الشّديد به؛ فوافَقَ بسرعةٍ. هو الآخر اشترى لي ملابس عدَّةٍ ذاتِ ألونٍ مختلفة، وأجبرني على تَّغيِّريهن حتّى صفى على واحِدٍ أبيض، على يسار الصَّدر وَردةٌ حمراء كبيرة، كانَ طوله لأسفل الرّكبتين ولم يكن عريضًا جدًّا أو ضيقٌّ، بل يكفي إنَّكَ تستطيع التَّحرك به بسهولة.

أبقني فيه ودَفع ثمن الَّذي اشتراه وخرجنا، أتساءل كيفَ سيمضي هذا اليوم أيضًا، هل سأتكلم عن الماضي القبيح أم يجعلني أعيش بلا فتح صفحاتهِ الدّموية؟!

دائِمًا ما أتأمل شكله الهادء وأتساءل كيفَ هي حياته؟

بقدرِ ملامحه الثابتة والهادئة، تحاول الابتسام قدرِ الإمكان والسّماع لي بكلِّ اهتمام، كنتُ أودُّ لو  أستطيع فعل المثل.

يبقى غامضًا كونه ليسَ مقربًا لي، رغم إنَّنا ننام معًا، وهو يصرِف عليّ، ويستمع لي بكلِّ حرصٍ، لا أعلم بالضَّبط إذا كنتُ أنا البعيدة أو هو.

«لقد وصلنا.».

قالها لأنظر إلى أين انتهت محطَّتنا، مدينة الألعاب!

أليست هي مكان للأطفال، ما الَّذي يَجلُب شخصًا في منتصف الثلاثين مَّع مراهقة هرمة إلى هذا المكان؟!

«تَمزح؟!».

«أيون ها!».

صَدحَ صوته مِّن بعيد لأنظر حيث كان يتقدم نحونا، إذًا لن نكون لوحدِنا هذه المرَّة وسَيرافقنا أخي. 

«لا أرغب في الدّخول، لنعد للمنزل.».

قلتُها بصوتٍ مقتضبٍ فأنا لا أحبُّ هذه الأماكن، إنَّها للأطفال والشّخوص الَّتي تُرافقها السَّعادة، ليسَ أنا ذات طلَّةٍ كئيبة ومُظلمة.

«أختي، لنستمتع اليوم فهو ميلادي!».

قَطبتُ حاجبيّ أراجع ذاكِرة عقلي، ميلادَه في أبريل، هل هو اليوم بالفعل؟!

«لا تقولي بأنَّكِ نسيتِ ميلاد أخيكِ الوحيد، أنتِ قاسية جدًّا!».

«تَوقف عن التَّصرف كالأطفال، اليوم هو الرّابع مِّن أبريل، ميلادك غدًا أيَّها الوغد!».

تناسيتُ الَّذي معنا، وكذلكَ فرقُ العمر بيننا، في النِّهاية دائمّا ما أشعر بأنّي أكبره، فهو حقًّا يتصرَّف كالأطفال، والدّليل هو أنَّه يحتفل في مدينة الألعاب.

«وغد؟! لا تنسِ فرق العمر بيننا يا صغيرة!».

«لا يهم.».

نَهرته بصوتي أسير بغضبٍّ وأنا أسمع قهقهات الآخر على شِجارنا، لحقانَني وهما يتكلَّمان مع بعضٍ، وعلى ما يبدو بأنَّ أخي لا يعلم إنَّه يعيش معي في الوقت الرّاهن، وهذا أفضل مِّن أجلي فقط.

«أختي، تبدين جميلة جدًّا مع هذا الفستان، ذوق بيك جيد بالفعل.».

بيك؟! نظرتُ لهما لأرى أخي يمسك خاصِرته ويئنُّ بألمٍ، خمنتُ بأنَّه قد تمَّ ضربه عندما نطق اختصار اسمه لابتسم عليهما، لا يبدوان وكأنَّهما كَبيران في السِّنِّ، مَن يُصدق فقط إنَّهما مقربان جدًّا في السّنِ، أنا ذاتي لا أستطيع أن أحزرَ فارِق أعمارهما بسبب تصرُّفاتِها، في كلِّ دقيقة يُلقي واحد منها ضربة للآخر، وأنا أبتسم بخفة عنهما وعليهما.

«تَملكين ابتسامة جميلة.».

قالها الطَّبيب ليرد عليه أخي فاهرًا ثَغرهُ باتساعٍ وهو يتفاخر.

«أيون ها جميلة جدًّا، هي فقط تظلم جمالها خلف كآبتها، وكوني أخٌ مراعي لم أشأ أن يذهب جمالها سدًّى!».

هذه المرَّة لم يتلقَ الضَّربة مِّن الطبيب وإنَّما منّي أنا، صرخَ بصوتٍ عالي جدًّا وهو يتذمَّر منِّي لأني ضربته، الواقع بأنَّه يستحقُّ حقًّا.

«ضربتك أقوى مّن بيك، لقد شكَكتُ لوهلة إنَّكِ أنثى!».

أردتُ أن أُهينَ رجولتَه ولكنِّي لستُ غبية حتّى أجرح مشاعره؛ لذا صمتُ فقط وأكملتُ السَّير حيث يمكنني أن أحظى بِبعض الرّاحة والسّكون؛ فالمكان مكْتَضٌّ بالفعل وهناكَ الكثير مِّن الأطفال.

ماذا سَيحصل لو كنتُ مثلهم، أنا أحسدهم حقًّا، لم أكن أطلب مِّن والِديّ حتمًا المجيئ إلى هنا، لم أطلب منهم هكذا أمر، لكنِّي كنتُ أرغب بأن يصطَحباني في ميلادي على الأقلِّ حتَّى أشعر بأنِّي كغيري، كنتُ أشاهد فقط كيفَ الأطفال الَّذين بسنِّي يمسكون بأيدي آباءهم باسمين بثغرِهم وبوسعٍ يدخلون هذه البوابة، أكره أمرَ أنّي لم ألعب بها أو لم أجرب أيَّ لعبةٍ طفولية، ما الَّذي سيحصل لو رُزقت بطفولةٍ مشابهَةٍ لطفولة الجَّميع؟!

«البَشر أنانيون جدًّا.».

هُم المعنى للأنانية، يقولون هذا لمصلحتك ولكنَّهم يفكرون بماءِ وِجوهِهم الزّائل فقط، منعوني مِّن كلِّ شيء لأجل رغبتهم، كانوا يودُّون الاهتمام بأخي والتَّفاخر باسمه وها هم قد نجحوا، والآن التفتوا لابنتهم البالغة سبعة عشرَ عامًا وحيدة، حتّى رفيفة دربٍ صادقة تسمع لها كلّ شكوى لم تَملك، لم تكن تملكُ في داخلها سوى دوّامةٍ مِّن وَهمٍ ذّاتي وصراعٍ صامتٍ لكنَّه صاخب مِّن الدَّاخل.

«أخي، أنا أكرهك حقًّا!».

أعلم بأنّي جرَحته، وربَّما قد حطَّمته، ولكنِّي أُشفي غليلي بهذه الكلمة، الدّموع تَتجمع حول مُقلتي، لا أودُّ البكاء الآن في هذا المكان تَحديدًا؛ لذا دَعكتُ عينيَّ بقوَّةٍ وأستقيم لأخرج مِّن هذا المكان، هم لا يعلمون كيفَ آلت الأمور لقلبي هكذا، رُبَّما يعتقدون بأنَّ هذا الأمر لصالحي ولكن هو لا يزيد الطِّين إلَّا بلَّة!

تَحقُّق الأمنيات الَّتي ماتت أمر صَعب تَقبله بالنِّسبة لي، فلقد ماتت، فقدت أملها في التَّحقُّق، يأست في أن تكون حقيقة في الوقت الَّذي يجب أن تكون فيه، تأخر كلّ شيءٍ أريده، لم أحظَ بعناقٍ إلِّا بعد أربع محاولاتٍ للموت، لم أذهب لمدينة الألعاب حتّى عندما حاولتُ أن أموت للمرّة السّادسة، وإنَّما زُرتها وأنا نصف ميتة، بل ميتة كليًّا!

أَتَظنُّ بأنّي سأتقبل الحيّاة برحابة صدر؟  لا، لن أفعل ولن أفكر، أنا قد غادرَت منّي روح انتهت طوافات الحيّاة لتُنقذني واستسلمَت كلِّ أطرافي إلى الصِّراعات الدَّاخلية اليائسة بكلِّ خشوعٍ، ويَظنّون بأنَّ الأمر سَهلٌ تقبله؟!

حاولتُ تَفجيرَ رأسي، حاولتُ الغرقَ في أبرَدِ الأعماق وظلمَةً، قطعتُ حبل وَصلي الّذي يتصل بالقلبِ كلُّه في سَبيلِ التِفاتةٍ واحدة مِمَّن أحبَبت، لمَ الأمر صعبٌ هكذا؟ كانَ سيكون جميلًا جدًّا لو والِدتي قَد ضَمَّتني بِعناقٍ دافئ، ووالدي بابتسامة لطيفة؛ فأنا مُجرد طفلةٍ وحيدة في كلِّ زوايا الحيّاة، وكنتُ أحتاج لهم كثيرًا في حياتي ولكنَّهم غادروها.

لَحقوا بي أين تَوقفت، حيثُ مسكني المهجور، الَّذي بَثَّت فيه الحياة بعدما خطى فيه لبِضعِ أيامٍ لا تَتجاوز أصابعَ كفّي الواحد. دخلتُ بخشوعٍ أرتمي على الأريكة أراجع ما فعلته، جَلسَ بجانبي وتمنيتُ لو يُغادر الآن للحظاتٍ ولكنّي أودّه بقربي.

«أيون ها...».

«لِمَ الحيّاة خبيثة معنا؟!».

قاطَعته بِسؤالي وصوتي الباكي، كلُّ شيءٍ هنا يدل على خبثِ الحيّاة معي وأنانيتها، كلّ شخص في هذا الكون يُتِيحُ لنفسه التَّفكير عمَّا يشاء، لكنَّه لا يُفكر بي، لا يُفكر بما قد يجلبُ لي تَصرفه هذا مِّن دمارٍ، لا يعلم بأنَّه يُغذي صراعاتي فَيَزداد خرابي، أكره الطَّريق الّذي أسير فيه، لكن الجميع أناني هنا، وسأكون كذلك.

«لم تَكن رغبتي في الموت أنانية قط، كنتُ أنانية بحقِّ نفسي فقط، كنتُ أحاول أن أريح الجَّميع مِّن علَّتي، أنا ليسَ منّي سوى الشُّؤم، الخراب، سوء الحظ، لَم جعلتم منّي على قيد الحياة لهذه اللحظة؟!

في تلكَ الليلة كان عليكَ تركي أموت، عندما ابتلعتُ تلكَ الأقراص المخدَّرة، الجَّميع كانَ حولي وقتها، لم يهتم أحد لسبب فعلتي وقتَئذ، والِدتي التي منَ المفترضِ أن تَضمَّني بعدما استقظت من النَّوم استقبلتني بتوبيخٍ يتَعذبُ القلب لسماعه، أبي لم يكلف ذاته ليسألني لو أشعر بأنّي جيدة، أو إذا كنتُ بخير، فقط لمَ؟  لمَ لَم تَتركني أنهي حياتي وأجعلكم تَرتاحون؟!».

إن لم يكن لدي مكانٌ للعيش فيه فَلمَ لا أستطيع الموت بسهولة، لمَ يجعلني الآخرين أعيش بينما هم لا يطيقون رؤيت تَنَفُّسي؟  لا يحاولون التَّودُّد لي بكلمةٍ لطيفة، يمقتُ الجميع حضوري وسط تَجمعاتهم، ولكنَّهم في وقت موتي يُوقِفونَني، وكأنّي دمية تَمشي على هواهم!

تَبقى قلوب البَشر أنانية، تَحت أيِّ تصرفٍ هي أنانية، تُفكرُ بنفسها فقط، تُفكر بما تودُّ فقط، تَحت كلمة «هذا لمصلحتك.»  هم يجعلوننا نسير كما يرغبون، لقد كرهت الأمر بأكمله، لا يمكن أن تعيش وسط ضوضاء كونهم، ولا يُمكنكَ الموتُ براحةٍ لتَّخلص مّن ضوضاءهم، وفي كلّ شيء يَقع اللوم عليكَ؛ لأنَّ عقولهم ضغيرة.

البشر تُخطأ، تَرتكب الخطيئة لأن هذا طبعها، إلامَ جعل الرّب المغفرة والتّوبة لمن آمن به لو كانَ البشر معصومًا  مِّن الخطأ؟ لا يحقّ لهم التَّستُّر عليه، أو عدم الاعتراف به، وكأنَّهم ولدوا معصومين ولكنّ لا أحد في هذا الكون يولد معصومًا من الخطأ، كل شيء مقترنًا به حتّى يمكنك النَّضج!

لكنّي أنا، كنتُ أحاول دائمًا أن لا أقع فيه، كنتُ خائفة مّنَ الزَّلة ومن ما قد يلحفها، أكره أمرَ رؤيتي واهنة أمام الجَّميع ولكنَّهم يحبون ذلك، رؤيتي أبكي، أقع في الأخطاء، أخطأ بحقِّ أحدهم فأجرحه، كما فعلتُ مع أخي الآن.

الإمرُ بأكمله هو بأنّي أشعر بالضيق، لا أرغب في تَذوقِ العذاب الَّذي ذِقته مرَّة أخرى، لكم أرغبُ في بقائي وحيدة في بيئة خالية مِّن البشر، لا أضطرُّ للخروج إلَّا نادرًا ولا أتظاهر بأنّي طبيعية مثل الجَّميع، أتكلم مَع الجدران وأي شيء أمامي حتّى الحيوانات أو أصابعي؛ لكي لا أشعى بالوحدة، وبالتّالي لا أقلق مّن زَلَّة لساني وجرحهم لأنَّهم مجرد جمادٍ لا يعون ما أقوله، رغم إيماني الكبير في إنَّهم يفعلون!

في هذه اللحظة أنا منهارة، منهارة لأقصى درجة، أشعر بأنَّ أطرافي مُخدَّرة ولساني ينطق من دون فكر، هو فقط يتحرك ناطِقًا بكلِّ غلٍّ عمَّا عاناه في داخله، للحظة فقط، شعرتُ بأنَّ روحي غير مُقيدة، وبأنّ كل أبوابٍ قد أُغلقت قد فُتحت الآن، ولربَّما سأبوح بما أخفته النّوايا قبلًا.

ولأنَّني أعلم مُسبقًا، أعلم بأنَّ روحي تُعاني، وأعلم بأنّي أخطأتُ بحقِّ مَن سمعني، لفظتُ أسوء ما لفظَه لساني، وصرختُ بأعلى صوتٍ صنعته حبالي، لا بأس بالخطأ طالما أعرفه وأستطيع اصلاحه، لكن لا يمكن للجرح الَّذي خَلَّفته في قلب امرءٍ أن يُشفى، لقد كنتُ قاسية معه، رُغم إن كل محاولاته كانَت لأجلي فقط، لرؤيتِ ابتسامتي الميتة، وسماع صوت ضحكتي الشَحيحة، ولأجل رغبةٍ مفقودة في الحيّاة، لا أعلم كيفَ أشفي قلبه الآن مِّن كلامي، لكنّي أتمنى أن يُسامحني!

«التّقلب بينَ أطراف الحياة يجعل الرّوح تَشهقُ ألف مرّة للموت ثُمَّ تَحيى، لا تَعلم إلى أيِّ مدى يمكنك أن تعيش، ولا تعلم إلى أيِّ حالٍ قد وصلت بالفعل، جعلَت منّي الحياة شخصًا لا أعرفه، جرحتُ وهِنتُ من أحببته بكلامي، نطقتُ بما لا يجبُ عليَّ ذلكَ في لحظة يأس، فأرجو المسامحة مِّن قلبك وأريد اعلامك بأنَّ الانسان يخطؤ دائمًا، وأنا لستُ بمعصومةٍ عنه؛ لذا يرجى أن تفهمني!».

كانَت الشّهقات تخرج مّن بين حرفٍ وآخرٍ، أنفاسٌّ مُتَقطِّة في دواخلي ومُتنفسيّ، خافقي الَّذي يُصارع في أَذينه وبُطينه ينبضُ بقوَّةٍ، وروحي الّتي تَنتقل ما بينَ كل ألمهم بكلِّ وهنٍ مبعثر، طلبُ السَّماح من كان سببًا فيما أنا أعيشه، أنا حقًّا لا أَصلح لشيءٍ سوى الدَّمار وسوء الحظ، فالحظّ لدي صديقٌ وفيٌّ لا يتركني إلَّا وسوءهُ معي ويُرافقني، يدمِّر لي حياتي وعلاقتي، حتّى نَفسِي بدأتُ أفقدها، بَل فقدتها أساسًا بسببه!

شعرتُ بذراعيه حولي ودفئه يَضمني، لقد عانقني وسط بكائي المشوؤم، يُربِّتُ على ظهري بحنوٍّ لم أعهده حتّى مِّن أمي، عندما لم يزِد سوى صراخي وبكائي وأنا أشدُّ قميصه مِّن الخلف بكلِّ قوَّة، يُردِّدِ كلماتٍ لطيفة على المسمع ودافئة للروح، تسكنُ في عنقها ويُشرع في مُداواتِ جراحها، سَقِمتُ بيأسي وداوني بِحبِّه، عناقه كانَ لي جرعة دواءٍ للحزن الَّذي أنا فيه؛ لذا شهقتُ له بضعفٍ عمَّا يحصل معي مِّن عذابٍ قاتل.

«أنا مُتعبة، متعبة وبشدَّة، متعبة مِّنَ الوحدة، متعبة من المراقبة، سماع الكلمات كل يومٍ، البُكاء تَحت وِسادةٍ في الظلمة، لا أريد العيش في هذا العالم أكثر يا أخي، أرجوك أنقذني منه فأنا أموت تَعبًا!».

«لا تَقلقي سيكون كل شيء على ما يُرام، لا تقلقي فقط!».

أخشى ذلكَ، أخشى إنَّ الأمور لَن تكون بخير، أنا أمرُّ في مرحلةٍ لَن ينجو أحدًا منها عند الوصول، لقد تمَّ قتل روحي بالفعل وانتهى الأمر، لَن يتمَّ إعادة الحياة لي إلَّا إذا خرجتُ مّن هذا الجسد، أودُّ فقط لو تنتهي هذه السّطور من الحكاية الآن لأنَّني متعبة، ولا أودُّ العيش!

____

اليأس هو الحاكم والقاتل!

____

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon