مُواساة|سُحق الضمير

__

تُتلى علينا كلماتُ الرّبّ وعلى أسامِعِنا، أتَساءل لِكثير مّن الأحيان ما الغرض مِّن ذلك؟

قال إلهنا بأنَّنا لَسنا لِوحدنا، وإنَّه معنا في كلِّ خطوةٍ، نُبتلى ونعاني مِّن الدّنيا، لكنَّه سيكون دائمًا وأبدًا لِجوارِنا، مُذ اللحظة الَّتي ولدنا فيها.

والآن أتساءل هل هو حقًّا بجانبي؟ أيرى ما أمرُّ به مِّن عذابٍ ومِّن ضيقٍ في صدري؟ أيرى البَكوات والصرخاتِ في ظُّلمة الليل؛ فيلُفَّني بغطاء رحمته؟! كثيرٌ ما أتساءل حول وجوده في هذا الكون، أيا تُرى أستطيع الحصول ولو قليلًا مّن صبره ورحمته؟! أتمنى فقط لو أتمكن مِّن امتلاك بعضٍ مِّن صبرِه وعزَّتِه في الدّنيا، أتمنى لو أُحاطُ بمغفرتِه وأكون بجوارِه في الجَّنَّة، أتمنى لو يُريحَ قلبي مِّن الصِّراعات والعذاب في عِناقِه، هل سأتمكن يومًا أن أحضى بكلِّ هذه الأمنيات؟

ولأنّي أعلم بأنَّها أمنياتٌ فهي لن تَتحقَّقَ؛ فالأمنيات ذات مرادٍ صعبٌّ لا يتحقَّق.

رُبَّما كلام الرّبّ جعلني أشعر بِبعضِ الأحيان بأنَّنا حقًّا لسنا وحيدين، وبأنَّني مهما عانيتُ فهو شاهدٌ على كلِّ جرعةِ ألمٍ قد ذُقتُها بطعمِها المرُّ والعذب.

البشر كائناتٌ ضَعيفة تُخطأ وتُعصي ولكنَّها في النِّهاية تعود إلى الرّبِّ بكلِّ اذلالٍ لتطلب المغفرة والتَّوبة، بَعضهم يتوبون والآخرون ينسون بأنَّهم قد طَلبوها مرارًا وتكرارًا، والمشكلة في إنَّ تَوبتهم لم تُقبل بالفعل، ولم يغفر الرَّب لهم خطاياهم، وإنَّه قَد سُحقَ الضمير فيهم فارتكبوا جَميع الأخطاء بحقِّ الإنسانية المُدمرة!

لطالما آمنتُ بأنَّ الإنسان لو سَحقَ ضميره مرَّة واحد فقط، سيبقى يسحقُ عليه طوال حياته، دون ادراكٍ منه، هو لَن يعلم ما الضمير، كيفَ يمكنه الإلتباسُ بأفعالنا؟ فقط سيفعل ما يَعتقدُه الصّواب مِّن دون تَفكيرٍ بأنَّه خاطئ؛ لأنَّه سَيُلحق الضرر بالآخرين لربَّما، أو حتّى نَفسه!

بقيتُ في حضن أخي لوقتٍ طويل، حاولَ تهدأتي عَن البكاء ولكنّي أشعر بالذَّنب لأنَّني جرحته، لم أعِ ما أنا فاعلةٌ ولكنّي آذيته، جرحتُ قلبه كما جَرحتني الحياة وهذا يَجعلني أشعر بالثِّقل، أودُّ الهروب مِّن بُقع هذا الكون وأكون وحيدة دائمًا، أجبَرني الطبيب على شُربِ الأدوية حتّى استسلمتُ للنوم، جفوني الَّتي أُثقلت بسبب الدواء الّذي أعطاني إيَّاه، وشَهقاتي الَّتي كُتمت كذلك، وبينَ أحضان أخي أحتَلَّت الظُّلمة ناظريَّ فما عِدتُ أدركُ شيئًا سواها، تلكَ الظُّلمة الّتي تبغاها ليسَ لِحلكَتِها وإنَّما لأنَّها راحةٌ لنا، تلكَ الظُّلمة المُسمّاة بالنوم، كنتُ أعتقد بأنَّه ملجأ للراحة والهناء في الليل؛ لذا أُكثر منه في أوقات حياتي، لكنّي في وقتٍ متأخرٍ أدركتُ بأنَّه استنفاذٌ للطاقة لا أكثر!

عندما أَستقظُ أجدُ نفسي لا تقوى على فعل شيء، أشعر بقدميَّ مخدَّرين، وعندما أقف عليها أدرك بأنَّه لا يمكنهما حملي بسبب الألم في أصابعي، وكأنّي كنتُ في صراعٍ وأنا نائمة، حتّى بَعضُ الأحيان استيقظُ وجسدي فيه جُروح لا أعلم كيف خُلِّقت، لا أعلم كيف تأذى جسدي وأنا نائمة، استيقظتُ بعد سُباتي لأرى الظُّلمة حولي، استقمتُ بكسلٍ وجسدي أشعر بعظامه تتكسَّر وتُصدر أصواتِ تكسرها حتّى أخرج مِّن الغرفة، رأيتهما يجلسان في المطبخ وبيدهما كوبٌ وكانت أطرافُ حديثَهما بالكادِ تُسمع.

لم يستغرقا وقتًا حتّى انتبها عليّ، جلستُ على كرسي بينما أخي قامَ وسكبَ لي قهوة قد أعدَّها مسبقًا، بقى الصَّمتُ بيننا لفترة قبل أن يكسره أخي، فلقد كانَ مشحونًا بتوترٍ وأنا لا أزال أستوعب ما فعلته قبل أن أستسلم لمفعول الدَّوام.

«سأنتقل للعيش معكِ.».

قطبتُ حاجبي وأنا مستغربة، لمَ عساه يعود للعيش معي بعد مضيِّ سنتين بالفعل؟!

«متّى؟».

«يومين على الأقل.».

أجابني بسرعةٍ لأفهم إن نقله بالعيش في الشَّقة أمرٌ مستعجل، أومأتُ برأسي بإماءةٍ صغيرةٍ وعادَ الصَّمتُ، لم يمضِ إلَّا برهةً حتّى استذكرتُ بأنَّ الطبيب يَعيش معي مُذ يومين، نَظرتُ له لأجده ينظر للكوب بِشرود وكأنَّه لا يعلم ما جرى بيننا مِّن حديث، أو ربَّما يُفكر بما قد جرى من حديثٍ بيني وبينَ أخي، أكملتُ كوب قهوتي لأغسله وأعود لغرفتي، الشَّعور بأنَّك وحيدٌ في هذا العالم مخيفٌ ومؤلم، وتجد ذاتك دائمًا ما تكون حزينة، لا تعلم سبب هذه الوحدة رغم عدد البشر الَّذين يُحيطونك، هل أنتَ حقًّا تسكن معهم؟ تُزاول حياتك معهم؟ أو تحتاج لهم؟!

تسأل ذاتكَ كثيرًا، هل يمكنكَ أن تكونَ مثلهم؟ ذو حَيَوية ونشاطٍ لو استيقظتَ باكرًا، سأعيشُ حياةً كحياتهم بحرية مثلهم؟ أن يكون لي أصدقاء يعرفونني ويَعرفون ما خطبي، أن يفرِجو صدري وأن يحملو ثُقلي وأن يُخَفِّفو همّي وأن يُحاولون اسعادي!

لا أعلم طعم الصَّداقة بينَ أطراف الحياة؛ فأرصِفتَها دائمًا ما تكون غامضة، تَقودُنا لمحطَّاتٍ مجهولة، نُحاول استِباق الأحداث ولكنَّنا دائمًا ما نعود ونحمل معنا حقائب فشلٍ، فنعاني مِّن وَعرَتِها ومِّن تَقعراتِها الَّتي تُهلكنا، تُنهِنا بينَ محطَّاتِها وتحاول جعلنا نكرة، وفي كلِّ مرَّةٍ هي مَن تختار لنا محطَّةِ الوقوف، فلا تَستطيع العيش كما تَحبُّ الأنفس أو كما يَطيبُ الخاطر، وكلُّ ضَيفٍ فيها أما أن ينالَ مُرادَه ويمرُّ على مَحطَّته أو يستسلم قبل أن يصل.

أما عَن محطَّتي فأنا لا أعلم كيفَ ستَستقيم أو متّى سَتتوقف رُغم أنَّي قد أعلنتُ استسلامي مُسبقًا إلّا إنَّها لا تزال تَقذفني بِحجارِها القاسي دون رحمة، دائمًا ما تقود الرّياح السُّفن، والحياة هي مَن تقودُنا، لطالما آمنتُ بأنَّ الوقت لن يَتغيرَّ، بأنّ لا علاقة له فيما نَمرُّ، لكن هذه الفكرة تَتلاشى مَع مروره.

دَخلَ أخي غرفَتي فَتلقّاني باحتِضانٍ جانِبيٍّ، عندما عانَقتني يَداه جَعلتني أشعرُ بالغصَّةِ وثِقلِها في جَوفي، لَقد أسأتُ له حقًّا عندما اتَّهمته بأنَّه سبب ما أعانيه، والواقع بأنَّ لا ذَنبَ له فيما أنا أجازيه، بل كانَ ذَنبُ والِديَّ، والواقعُ أشعر دائمًا بأنَّه ذَنبي، لا أعلم لمَ أَستمرُّ حتمًا في جلبِ المشاكل والأسى لقلبي وللجميع، لا أعلم ما موقِعي بينَ كلِّ هذه الأحداث ولمَ يحصل معي كل شيء للآن؟ أنا فقط أمتلكُ سبعة عشر عامًا، فلمَ أشعرُ وكأنّي بِعمرِ السَّبعين عامًا؟!

الأمرُ صعبٌ عندما تكون أكبر مِّن سنِّكَ الَّذي أنتَ فيه، تَشعر وكأنَّكَ في كلِّ يومٍ تَكبر عامًا؛ لذا بَدَأتُ أشكُّ فيما إذا يتغيَّر الوقت أم لا؟!

«أنا آسفة.».

«عَن ماذا؟».

ابتعدَ عنِّي قليلًا ليجعلني أواجِهَه بِعينيَّ، بدى لي مُرهقًا مِمَّا قد مرَّ به اليوم وهو في الأصل يوم ميلاده، حقًّا شعرتُ بالذَّنبِ لأنَّني لم أُصلِح له كأختٍ صغيرة وَواعيةٍ، لكنَّه رُغم تركي إيَّاه كانَ يَفعل كلَّ شيءٍ حتّى يُعوِّضَ النَّقص الَّذي تَسبَّبه هذا العالم لي، ولقد كان الأمر مرهقًا له.

«على كلِّ شيء، على صُراخي عليكَ، واتهامي لكَ بأنَّكَ سَبب ما أمرُّ بِه و...».

أصمَتَني بعناقِه وضمَّه لي لِصدره لِيتكلَّم مَكاني، كانَ يُربِّتُ على ظَهري بِنعومةٍ وَوِدٍّ لطيف، شَعرتُ حقًّا لَحظتَها بأنَّ العالم ليسَ بِمظلمٍ، وبأنَّ هناكَ نافِذةٌ مَفتوحة ما تَجعلكَ تَتخلص مِّن كلِّ آلامك.

«أنا الَّذي يَعتذر؛ لأنَّني لم أكن أخًا جيدًا لكِ، لَم أعِ بأنَّكِ تُعانين بينَما أنا أبتسم، لَم أكن بأخٍ جيدٍ؛ لأنَّني كنتُ أسهرُ مَع أصدقائي فَرِحًا وأنتِ تَسهرين مَع آلامك بُكاء، أعتذر عَن كلِّ دمعة قَد ذَرفَتها عيناكِ الجميلة بينما أنا غائبٌ ولستُ موجودًا لاحتضانكِ، بل لأنَّني جاهلٌ فيما تُقاسين، أعتذر عن تَصرُّفاتِ والديَّ المُخزية باتجاهكِ بينما كانا يَقومان بِتَدلِيلي، أعتذر عَن كلِّ جرحٍ وعن كلِّ ألمٍ لم أكن أستطيع مواساتكِ عندما مَرِرتِ به!».

في تلكَ اللحظة حاولتُ التَّمسك قَدر الإمكان أن لا أبكي، لا أريدُ اكمال ما قد بدأَ في مَدينة الألعاب رُغم أنَّي مَن بدأته، فكلِّ ما أجيد، هو الهروب وها أنا أهرب الآن.

تَمسكتُ به بِقوَّةٍ لأفجر تلكَ العِبارات، كلانا عاشَ حياتَه الخاصَّة بطريقةٍ مختلفة وأنانية، لا أعلمُ عَن أخي سوى أنَّه عاشَ حياةّ قد تَمناها، مِهنة مهمة وأصدقاء، والِدين يَهتمان به وَيُلبِّيان له كلَّ متطلباته، أما أنا فَلا أمتلكُ كل هذا، لا أصدقاء أو ابتساماتٍ أو حتّي والِدين يُحبَّانَني.

«سَأُغادِرُ الآن، الطبيب بيون سيبقى مشرِفًا على حالتِكِ حتّى عودَتي غدًا، ثُمَّ سأدبِّرُ أمر انتقالي للشَّقة.».

«أخي، أودُّ أخباركَ شيء!».

فكَّرتُ بِمصارَحته عمَّا حصل بيني والطَّبيب، سأخبره بأنَّه يَعيش معي مِّن أجل الجلسات وسماعي كلّ الأوقات، وكذلكَ مِّن أجل مُراقبتي خلال الليل؛ فأنا أعاني مّن كوابِيسٍ لا تُفارقني إلَّا باحضانه.

«ماذا؟».

«بخصوص الطَّبيب، لقد اتفقنا أنا وهو على العيش معًا.».

قُلتها مُتلَكئةً بينما هو كانَ منصدِمًا، لقد كنتُ محقَّة عندما خَمنتُ بأنَّه لم يخبره حول أيِّ شيء، بِما إنَّه لم يَفعل، وبأن أخي سينتقل لا بدَ له معرفة الأمر، على الأقل يَجب أن أقنعه ليقبل أمر بقاءِه معي؛ فأنا بِحاجة له.

«ماذا؟ أتمزحين معي يا ها؟!».

«لا أفعل، أرجوكَ أخي، أودُّ مِّن الطَّبيب أن يَبقى مَّعي دائمًا فأنتَ تعلم ما أعانيه في منتَصفِ الليل!».

«لَقد وَثِقتُ بِكِ ها!».

«أعلم، لَيسَ وكأنَّ شيء ما قد حصل أو سَيَحصل بيننا، ولكنَّ الأمر مُفيدٌ لي، حتّى تلكَ الكوابيس قَد خفَّت بِوجودِه حولي أرجوك أنا، هو الشَّخص الوحيد الَّذي يَنفعني!».

«لكن...!».

«أرجوك!».

تَمسكتُ بيده بينما أتوسَّله، كنتُ أتكلمُ بلا نفسٍ أحاول أن أقنعه، فهو ذو عَقلٍ جَسيمٍ لا يَقبل مُخالَطتي مَع الجنس الآخر، وحتمًا هذه أول مرَّة لي وأنا أتمسَّكُ بِبقاء شخصٍ ما معي في مكانٍ واحد، فأنا دائمًا ما أكون وحيدة ولا أهتم لبقاءِ هذا الشَّخص معي أو لا، حتمًا لا أفعل!

«لا بأس لكن...!».

«شُكرًا أخي!».

عانَقته مُقاطعةً حديثه لِيُبادِلني هو الآخر بَعد لَحظاتٍ، شَعرتُ بِطيفِ ابتسامته مِّن الوراء لأَبتعد عنه أُبصرها، كنَّا جالِسين فوقَ السَّرير وكِلانا كنَّا مُقربين. أخي تَميَّزَ بهدوءِه دائمًا، غير عقله الحذِق والذكي بشدَّة، ولَقد لاحظَ فرحتي بِسرعةٍ ليبتسم يَعبثُ بِشعري.

«هذِه المرَّة الأولى الَّتي أشهدُ فيها فرحتكِ مِّن أجل شخص.».

أدركتُ معنى جُملته بسرعةٍ لأُحمَرَّ، لَم ألحظ تَصرفاتي أو انفعالاتي مُذ اللحظة الَّتي بدأتُ فِيها بالبَوح عَن ماضٍ، شَعرتُ وكأنّي بدأتُ أستعيد أجراءً مُبعثرة ومفقودة مُذ زَمن، في كلِّ مرَّة أبوح فيها عَن ألمٍ قَد طغى في قلبي كنتُ أرتاح قليلا، حتّى عِند تلكَ الَّحظة في مدينة الألعاب، لقد كنتُ أشعر بَعدما صَحَيتُ بِثقلٍ قَد خَفَّ داخلي، رُغم إنَّ ما فعلته أناني جدًّا بحقِّ أخي.

صَمِتُّ مُفضَّلةً عدم الجواب، لا أودُّ لعقلي أن يسرح أكثر مِمَّا ينبغي له، أعلم بأنَّ ميولًا صَغيرًا قَد بَرِزَ نحوه لكن هو رَجلٌ في مُقتبلِ العمر، ولا بُدَّ بأنَّه يَمتلكُ زوجة ما وربَّما حتّى أطفالًا، وفي التَّفكير في الموضوع، فأنا لا أعلم أيَّ شيءٍ عنه أو حتّى عَن حياته.

غَادَر أخي بَعد لحظاتٍ لأستلقي على السَّرير وأنا بِتفكيري مَشغولة، مُذ اللحظة الَّتي وُلِدتُ فيها إلى الآن، كلُّ يومٍ ودَقيقة وثانية تَمرُّ، كانت بداخِلي تَمرُّ بِلحظةِ خوفٍ، الخوف الَّذي كانَ يُجارِني، التَّفكير حولَ ما قَد يجري ويَحصل لي في المُستقبل، الخوفُ مِّن الذّاكرة الَّتي نَبتَت داخلي وأنا وحيدة، الخوفُ مِّن لحظة فقدان الحياة بوقتٍ خاطئ، كل شيء كانَ يُثِيرُ الخوف داخلي وبينَ أشلاء الماضي وأطراف الوحدة.

دَخل الآخر للغرفة بِهدوءٍ لأقطبَ حاجِبيَّ، ظَننتُ بأنَّه قَد غادَر مَع أخي أو ربَّما قبله، لم أتصور بَقاءه هنا معي، جلسَ بِقربي على السَّرير بينما نَبسَ بصوته.

«لَم أتصوَّر بأنَّكِ سَتُخبرين أخاكِ حول مَبيتي معك.».

«لَقد فعلتُ هذا لأجل نَفسي فقط، هو سَيعودُ للعيش في الشِّقة؛ لذا وَجب عليَّ اخباره بأنَّني أحتاجك في جميع الأوقات.».

«تَحتاجيني؟».

«أجل.».

شَعرتُ بِنبرةِ سؤاله الغريبة كنتُ أعطيه ظهري بَدل وجهي أخفي شِكلي ومَظهرَي عنه، كما أنّي لا أودُّ النَّظر له واحراج نفسي، فما أقوله عسر الفهم على عقلي نَفسه، فكيفَ هو؟!

وَضع يده على كَتفي وأمالني له لِتلقى عيونه مَع خاصَّته، لقد كانتَ ذاتَها تلكَ النظرات، رُغم الأمان الَّذي أشعر بِه فيها إلّا أنَّني ومَهما حاولت لا أستطيع إيجاد النَّظرة الَّتي أبحثُ عنها.

«لِمَ؟».

سألَني مرَّة أخرى لأجيب بِصمتٍّ، هل سَيتقبل الأمر لو قلتُ بأنَّني أودُّكَ بِجانِبي لأنَّني أشعر بالأمان معك؟ أو لأنَّني أحببتُ احتضاناتُكَ في الليل وعند النَّوم؟ أم لأنَّني أودُّ اكتشاف الشَّعور الَّذي أنا فيه الآن؟ أيَّ حجَّةٍ سَيَتَقبل وأيَّ فكرةٍ سَيُصدِّق؟

هَل أخبره بأنَّ الكوابيس قَد انعدمت مَع وجودِه أو أبواب مَتاهَتي ظهرت بِعيونه؟ كيفَ لي مواجهة تلكَ المشاعر وأنا لا أريد أنباتَها داخلي، فهي لَن تُزيدَني إلَّا ألمًا وهمًّا فوقَ الَّذي أنا فيه، أنا لا أرغب أن أقع في هذا الوَهم رُغم الجَّمال والأمان الَّذي يَسكنه.

«فلتَستقيمي الآن.».

أمرني بِصِغتِه لأتجاهله وأخفي وَجهي عنه، حاولَ كتيرًا أن يَجعلني أجلس وأُكلِّمه وَجهًا لِوجهٍ لكن كل محاولاتِه تَلقَّت المقامة منّي، إلى أن انتهى بنا بِوضعٍ لا نُحسد عليه، حيثُ ذراعاه كلاهما يِحيطانَني بينَما أنا نِصفي نَائمًا فَوقَه والآخر على السَّرير. تَكدَّست بي المشاعر الفاجِرة والحيرة، كانَ قريبًا لي ولكنَّه في الوقت ذاته بعيد، الأمر أشبه بعمليتي المدِّ والجزر، أشبه بتلاشي الكويكِبات في الكون وموتُ النُّجوم في الفضاء، أشبه باقتراب الشمس مَع القمر لدقائقٍ ثمَّ فُراقِهما، الأمر لَن يدومَ معنا نَحنُ الاثنان أيضًا، فَمهما نُحاول لَن نلتقي على سَريرٍ عنوانه واحد، حاولتُ التّجاهل قَدرِ الامكان أن لا أنظر لعينيه، فَهما المحيطُ لا عمقَ له، مُجرد مياهٍ داكنة السَّواد وفارِغة، لا حياة فيها كَعينيَّ، ما أزال أشعر بالفضول حول ذلكَ الفراغ الَّذي يَسكُنها، وهل يمتلكُ ظلًّا للفرار منه؟!

«إذا، كانَت تلكَ محاولتَكِ الرّابعة؟».

تساءلَ فَذهبَ عقلي يستذكر، ما الَّذي يَقصده بمحاولتي الرّابعة، لم تَمضِ ثوانٍ حتّي أَفهمني ما يَقصده فهو مُحاولة انتحاري؛ لذا شَعرتُ بالبوحِ له بِّما أنَّني لا أجدُ صعوبة في ذلِك أمامَه بعد الآن، لكن تَبقى في الحنجَرةِ غِصَّة لا تُغادِر.

«لِنعقد اتفاق!».

صَدحتُ بها بَعدما أتَت بِبالي فِكرةٍ أستطيع مِّن خلالِها مَعرفة ما هو، لا بأس بالقليل مِّن التّٕهور لطالما يَصبُّ في مَصلحتي؟!

«سَأخبرك عَن ماضٍ وأنتِ بالمقابل سَتفعل كذلك!».

حاولَ الاعتراض ولكنّي مدِدتُ اصبعي السَّبّابة أمامه لتَفصل القرب الّذي بيننا ونَحنُ مستلقيَين مَع بعض.

«لا اعتراض، لَن أقول شيء حينها!».

«عليكِ وقتئذ اخباري عَن محاولَتكِ الخامسة!».

أردَفَ لأُعلنَ موافقتي ولأُعيد يدي حيثُ كانت ولِيضمَّني بذراعيه لصدره، لَسنا مُقربين جِدًّا ولسنا بَعيدين جدًّا، لكنّي أحبُّه عندما يَضمَّني لأنَّني أشعر بدفئه رُغم برودَة جسدي.

«أعتقد قَد مضى عليها سَنتين ونصف، كنتُ في حالَةِ غصبٍّ عارِمٍ، لَم أكن أفكرُ وقتها إلَّا بالموت، الخلاص، الرّاحة، رؤيةَ ذاتَك تُنبذ بينما غيركَ يحصل على كلِّ الحبِّ، رؤية ذاتِك وحيدة بينما غيرك لم يُجرب ذلكَ الشَّعور، وقَد مَضى حياته بينَ أصدقاء واحتفالاتٍ، إنَّ هذه الأمور مؤلمة، والِدَتي تُسمعُ أخي أجمل الكلام، تُفضِّله دائمًا علي، وما تزال، مُذ سَنتين تَركتُ المنزل وهي لم تأتِ لتُطمئن ولو مرَّة واحدة، أو حتّى ما قد أحتاج.

في تلكَ الليلة كنتُ قَد صرختُ في وَجهِها قائلة بأنَّني قد مَلِلتُ هذه العيشة، لا أودُّ رؤية ذاتي تُنبذُ بعد الآن، مَضى خمسة عشر عامًا وأنتم مَشغولين فقط بأنفسكم وبأخي، ما الَّذي يَحتاجه؟ ما الَّذي يُريده؟ ما الَّذي يُحبَّه؟ كيفَ له أن يكون مُرتاحًا؟ ما الملابس الَّتي تُناسبه أكثر؟ كأنَّ ليسَ لديكم ابنة أخرى، عيونكم لا ترى غيره؛ لذا سأنفي وجودي مِّن حياتكم وأريحكُم!

عندَها أتجهتُ بِغضبٍ نَحو عُلبة أدوية ولقد وَجدت علبة دواءٍ منوِّمة؛ لذا جَرِعتُها كلَّها دِفعة واحدة جَعلتني أسقطُ في المشفى لثلاثة أيام تَقريبًا لا حياة بجسدي.».

عِندما يَتوقف منسوب صَبرك فإنَّك تَفعل ما ودِدت فعله مُذ قرنٍ، مُذ اللحظة الَّتي قد صبرتَ فيها دونَ فعل شيء أو اصدار ردَّة فعل، في تلكَ الليلة شَعرتُ بأنَّ كؤوس صَبري قَد نفدَ مَنسوبِها وبقَت فارِغة، لا شيء ظاهرٌ سوى فطورِ تَكسُّرِها وآثار أشواك الدُّنيا، لا أعلم ما حلَّ بي ولا ما قَد جرى، كل شيءٍ قد حصل أدركته بعدما استقظتُ، الغيبوبة الَّتي آخَذتُها كلَّفتني الكثير وأعطتني أكثر لَربَّما.

«هل لي بِسؤال؟... لَقد قلتِ سابِقًا بأنَّكِ طمحتِ للمثالية فقط لأجل والِديك، وبأنَّكِ كنتِ تبتسمين فقط لأنَّهما علماكِ ذلكَ، فلمَ كلامك متناقضٌ الآن؟!».

«لأنَّني كنتُ أطمح لِلمثالية، أما الآن فأنا كلُّ ما أودُّه هو الابتعاد عنهم.».

في السّابق كنتُ عمياء، لم أفهم بأنَّني لَن أحصل على مَرتبة في قَلبيهما، لَن أفعل. أَتلقّى الخيبات كلَّ يومٍ مِّن قبلهما، لم يُعاملاني كما يُعامل الآباء أولادَهم، مَهما سَعيتُ لتَّميزِ لأجلِهما، هما لَن يَرياني وسيَنظران لأخي فقط؛ لذا تركتُ كلَّ شيء له وبقيتُ وحيدة وبعيدة عن الجَّميع.

«ألم يُعلماك كَيفية الابتسام؟».

«وهل هو شيء يستَحقُّ التَّفاخر؟».

تساءَلتُ باستهزاء كجوابٍ، علَّماني الابتسام؟

هل بشيءٍ يُفتخر حقًّ؟ أن أبتسم في كلِّ الأوقاتِ بينما أجد صعوبة في البكاء؟ أن أبقى صامتة وأتظاهر بأنَّ لا شيء قَد حصل وبأنْ أخفي الأمر خلفَ ابتسامةٍ عريضة؟ كلُّ انكساراتي وصراعاتي، آلامي وَوحدتي كانت تَختبأ خلفُ هذا القناع الباسم، فمَ الشيء الَّذي أفخرُ به حولهما؟ ما هذا الشيء بحقِّ الجحيم؟!

رأيتُ الصَّمت قَد زارَه؛ لذا قرَّرتُ أن أغير الموضوع، فالبقاء على هكذا أمورٍ لَن تُسبب إلًَا بفتح النِّدوب بعدما حاولنا شِفاءها، وأنا لا أتحمل أيَّ ندبٍ آخر.

«ماذا عنكَ؟».

«ماذا؟».

لَم يفهم سؤالي؛ لذا طَرحته مُجدَّدًا بصيغةٍ أخرى ليفهمه، سأجعله يَبوح عَن الماضي الَّذي يُغطي كونَ عينيه وسأعرفُ سرَّهما، لَن يَسمع هو فقط لحكايا ماضيِّ وإنَّما أنا كذلكَ سأسمع ماضيه وأعلم ما علَّته.

«كَما أخبرتك عَن ماضٍ جاوَرني، أخبرني عَن ماضيكَ.».

«ماضيَّ؟».

«أجل، أخبرني كل شيء عنه.».

«حسنٌ، فقط كما أنتِ تَمتلكين نُدبًا مِّن ماضٍ غيرك أيضًا قد فعل، فأنا أمتلكُ ندبًا قَد زَيَّنَ لي دواخلي مُذ زَمنٍ، ولكنّي استَطعتُ النَّجاة منه.».

لَمِعت في عينيَّ وأنا أستمع له، هل استطاعَ النَّجاة مِّن تلكَ الآلام، وهل يَحزن مِّن ذكرى ماضٍ؟ أودُّ سؤاله عن الكثير ولكنّي فقط صَمتُّ أرجو بداخلي أن يكمل ما بدأه.

«قبل ثلاث سنوات، تَعرضنا لحادثٍ، أنا وزوجتي الحامل، كانت في شهرها السادس، كنَّا سَنصير عائلة جميلة، عائلة بُنيت على حبٍّ، زوحتي كانَت امرءة بسيطة ومُبهجة، كانَت مصدر سَعادتي في الدُّنيا، حادثُ فُقدانها مع ابنتي كانَ العذاب بالنَّسبة لي، تلكَ الصدمة الَّتي لَم تُغادرني بِسهولة، بَقيتُ أسيرها لمدَّة سنة كاملة، لكنّ هذا الأمر لم يدم، لأن أخي كانَ بِجواري، وقَد ساعدني كثيرًا حتّى عدتُ إلى عملي وحياتي بِدونِها.».

الفقدان هو أسوء الآلام، الاشتياقُ أشدُّها، جميع تلكَ المشاعر تَمتلكُ آلامًا داخلها للمرء، لَن تستطيع الابتسامة دون ألمٍ، لَن تَستطيعَ الرَّاحة بدون ألمٍ، لَن تَنام بدونَ ألمٍ، الجَّميع يَرجع أصله للألم، ولأنَّها عذابُ الدُّنيا وفي الوقت ذاته جنَّة، فَقدَ سَعادَتينِ في حياته بيومٍ واحد؛ لذا التَّعرض للصَّدمة كانَ أمرًا مُحتومًا، بالتَّفكير في الأمر، ما زالَ الأمر مُرهقًا له عندَ تذكرها؛ فأنا نَظرتُ لعينيه وليتني لَم أفعل، فلقد شَهدتُ مَلحمةِ حزنٍ داخِلهما.

«أما تزال تُحبّها؟!».

«كثيرًا.».

رَدَّ استفهامي بِسهمٍ مسمومٍ في قَلبي، شَعرتُ بِجوابهِ ثِقل قلبي أضحى أكبرَ مِّن السّابق، بدأتُ أشعر بأنَّ ضرباته المسرعة صارت بطيئة جدًّا وَضَعيفة، مِمَّا يَجعلها تُؤلمني وبِشدَّة.

«يُقال بأنَّ لكلِّ شخصٍ رَغيفًا في الدُّنيا، وعندَ انتهاء ذلكَ الرَّغيف تَنتهي حياة المرء، لكنَّني لا أؤمنُ بهذا القول، بَل وأنِّي أعارِضه وبشدَّة، فبالنَّسبة لي أعتقد بأنَّ لكلِّ امرءٍ أمرٌ عليه فعله قبل الموت، هناكَ دائمًا سبب لحياة امرء في الدُّنيا، البشرُ أجمَعهم لهم سَببَ وِجود في الدُّنيا، بل وإن خَلقُ الإنسَ سببه الخاص عند الرَّب؛ لذا فإن أكمل الشّخص واجبه وعلمَ سبب وجودَه، عندها يكون قَد حانَ لمغادَرته الدُّنيا، فلا نَفع له بَعد الآن فيها، وإنَّ حياةً أخرى تَنتظره في عالمٍ آخر لربَّما.»»

رُبَّما إنَّها المرَّة الأولى الَّتي نَتكلم فيها عَن أمورٍ تعنيه، بل فَلسفته الدَّقيقة في مواضيع تواجِدنا في الدُّنيا، لقد جَعلني أتساءل يا ترى، وما سَبب بقائي على قَيد الحياة؟ ما السَّبب الَّذي جَعل منِّي أُبعث على هذه الأرض ولأعاني؟ أودُّ سؤاله لكنّ كيفَ يعلم الجواب وهو لا يعرفني حتّى، فلا يَجمعنا سوى جلساتٍ علاجية بينَ طبيبٍ ومراهقة.

أغمضتُ عينيَّ أمتثِلُ النَّوم حتّى استقبله بينَ أطراف الجنون، حاولَ مغادَرت السَّرير ولكنّي امسكته طالبة منه عدم المغادرة، أودُّ البقاء بينَ أحضانه وأن أحظى بأمانه، هو يَتعامل معي وكأنَّه والِدي، وأنا أراه مُجرد طَبيبٍ بدأتُ أملكُ ميولًا اتجاه؛ لذا يَجبُ عليَّ هدم ذلكَ الوهم الَّذي أنا فيه والنَّظر لأمرٍ واحد، هو بأنَّه مجرد طبيب يقوم بعلاجي لكسبِ مصدر عيشٍ وأُضافُ إلى قائمةِ مرضاه الَّذين قد تشافوا، لكنّي لا أرجو ذلك، بل أودُّ أن أبقى مريضة طوال العمر لأحظى على الأقل بِرؤيته.

«ألم تَقولي سَتُخبريني عَن مُحاولتِكِ الخامسة؟».

تَساءلَ بينما يلعبُ بشعري لأستذكر ما قلته، رُبَّما وَعدته بأنَّني سأخبره لكن ليسَ اليوم، ألا يَكفيه الَّذي قُلته قبل ساعة؟!

بينما شَرَّعت في فتح فمي تَذكرتُ ما حصل وقتها، كانَ الأمر عسرًا عليَّ وما زال، لا أعلم ما الذَّنب الَّذي ارتَكبته ولكنّي مجرمة بِحقِّ نفسي وأكثر.

«أعتَقدُ بأنَّ الأنانية شيءٌ أساسي في الدُّنيا، لقد قَتلتُ نفسي في المرَّة الخامسة مِّن خلال استنشاق غازِ أحادي أوكسيد الكاربون، لقد وصلتُ للموت، بَل لذروَته حتمًا، لولا أخي مرَّة أخرى لكنتُ قد متُّ تحت رَحمة والِدي، وَقتئذ علمَ أخي بِمصيبتي وحاولَ معي لأخبره عَن كل شيء، كذلكَ هدَّدَ والديَّ حول موضوع اهمالهم ولم أفهم مغزى تَصرفه حتّى الآن، رَفضتُ البوح له عن كلِّ شيء، أخبرني بأن أنتقل لشقَّته وأسكن فيها وهو سَوفَ يأتي بين ليلةٍ وأخرى ليبيت مَعي، لا أعلم كيفَ صَبر على ذلكَ، لكنَّي أحببت فكرَة العيش لوحدي في سنٍّ صغيرة.»

خَمسُ مُحاولاتٍ لقتل نَفسٍ ضَعيفة ولكن بلا فائدة، في كلِّ مرَّة أفشل وتُرَدُّ روحي للدُّنيا، بل والشُّرطة شَكَّت بوضعي وطالبت بِمجلسِ تَحقِيقٍ ولكنّي أخبرتهم بأنَّني فقط حاولتُ الانتحار، أخبروا أهلي عليَّ زِيارة طبيبٍ مُختصٍّ ولم يَنفع مَعي أيَّ أحدٍ، مهما حاولوا لم يَكونوا يَعرفون كيفية علاجي.

والآن بعدما لقيتُ المرء الَّذي يمكنه علاجي وَقعت له، والمصيبةُ ألمي قَد زادَ فوق مُعاناتي، فمَ بالي المضطربُ وكيفية عيشه؟ أسيستسلم للموت كَكلِّ مرَّة؟!

___

للمرَّة السابعة، هي النِّهاية فقط

____

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon