مبتور| بين دَفَّتي هجران

_

ما بينَ أشتات الذّاكرة يوجد للهجران معنًى، وحيدة مُتلفة بينَ أقطاب الماضي والحاضر، وبينَ أقطاب الحياة واللامكان، لطالما كانَ الفراغ أسوء المتاهات، وأشدَّها عتمَة، ولطالما كانَ الثُّقب في القلب يكبر في كلّ يوم حتّى أكلني وأماتني.

في اللحظة الّتي وَدِدتُ فيها أمانًا كانَ بقربي، أعطاني ما لم يعطِني إيَّاه والديّ، ذلكَ الحضن الدافئ، لقد شعرتُ وقتها للوهلة الأولى بأن كلّ شيء حتمًا بخيرٍ، يداه حول خصري وأنا منغمسة في صدره، كانَ كالوالِد عندما يحبّ مولودَته، رغم خوفي مّن البشر إلّا إنّي لم أخَفه، بل استميتُ قربه بلطفٍ بالغ!

عجبٌّ مِّن حالي إلى أين وصلت؟! كل ما أريده مِّن الحياة تَجسَّد في رَجلٍّ أتى بِحجَّة علاج، أعلم بأنَّه يَودُّ تركي بعدما يحقق مبتغاه، ولكنّي لا أرغب بتركِ علَّتي ووحدتي هكذا، أرغب بدمعة تُخدِّره وتضفي السّعادة للأبد، لا أن يستمع لأنين جرحي ومّن ثُمَّ يعود مّن حيثَ أتى.

أكره صَفائح الهجران أو أن أتركَ بينها، هي أكبر آلامي وأبشعها، هي العذاب الواهن والحرمان الفاحل، بيداءٌ مبترةٌ وفيها لواذعٌ سامَّة لا نَجاة منها. لا أرغب في الضَّياع بينَ صفائحِ الحزن رُغم إنّي كذلك، ذُقتُ منها أشتّى أنواع السّقم، وما أزال في كلِّ لحظة أحاول النَّجاة مّن الصِّراعات أجد فيها نفسي أعمقُ مِّن ذي قبل، أغطس في أعماقِها اللامتناهية وأستشعر برودَتها في جسدي وأنا لا قدرة لي حتّى المقاومة، فقط مستسلمة لها وهي تأكلني وتَخنقني بدون رحمة!

«هل تُريد حقًّا أن أُشفى مِّن دائي؟».

صَوتٌ مرتجف في حلقي، عقلي طائِشٌ ومراهقٌّ، رغم ما قد كَسبه مّن آلامٍ وآثامٍ بليغةٍ تَجعله أكبر ممِّا ينبغي إلّا إنَّه يَبقى عقلُ طفلةً تبلغ سبعة عشر عامًا، ومراهقة فاقدة لشغفِ العيش والتَّجربة.

الواقع هي خاضت تَجربة واحدة ألّا وهي الموت!

«ولمَ لا أفعل؟»

كانَ جالِسًا أمامي في منزلي_شقَّة أخي_ تَحديدًا على الأريكة وهي واسعة بالفعل، مُنذ البارحة وهو بِمسكني لم يُغادر منه ولو إنشًا، وَوجدتُ في وجودِه حلَّة لم أعهدها قبلًا.

«إذًا، كن لي أبًا، أمًّا، أخًا، أختًا، ملجأً وأمانًا، داءً ودواءَه، حياة وسعادة، لا تَتركني ولا تهجرني، لا تَجعل منّي مريضة أوهامٍ أو اشتياق، استمع لي عندما أريد الشّكوى، وخبأني في صدرِكَ عندما أخافُ الظُّلمة، فقط كن معي حتّى أرمق نِهايتي!»

جالِسةٌ بِقربه أحاول كبت رغبتي في البُكاء، أضع كفّاي على ناطقي وأبتلعُ الغصَّة ولكنَّها فقط تَكبر وتكبر عند كلِّ ثانية أكتم فيها تلكَ الرّغبة!

ثوانٍ ولم أشعر إلّا بي بينَ أحضانه، يُربتُ على ظهري، يُلقي على مسامعي وعودَه الّتي أردتُ سماعها بينما أنا كلّي أمانًا بينَه وفيه!

أريده بقربي كلّ ثانيةٍ، فأنا لا وقت لي للبوح، فقط عندما تنحشر الآلام كلّها في أوجاعي، وربَّما في منتصف الليل حتّى، أرغب أن يَدَّسّني فيه عند لحظات وهني وخوفي لأعيش، بدلَ أن أستسلم فقط لصوت الموت وأنقادُ له بكلِّ طواعية، للحظة فقط، أرغب في العيش!

كَلَيلةٍ لم أرغب في وجودِها، رَغبتُ لأولِ مرَّة أن لا تَنتهي، لقد وافقت على عيشِه معي، أرغب فيه بجانبي دائمًا، أعلم بأنّ له أشغال الحياة، وإنّي لستُ الوحيدة في العالم، لكنّي لا أهتم إذا كنتُ الأولى أو الأخيرة المهم أن أحظى بأمانه في صدري، فليسَ لي أحدًا يُعطيني ما أعطاني إيّاه.

أتَت الليلة وغَفوتُ تحت أكنافه، داخل صدره، شعرتُ بحضنِ أبٍ مستوحشٍ يخافُ على ابنته من وحوش الدّنيا. غَفوت في تلكَ الليلة لأول مرّة بدون خوف، مّن دون كوابيس الماضي، مّن دون ذنبٍ يُرافق روحي الباهتة. كنتُ دومًا كشخصٍ يبحثُ عن السّعادة في السّابق، أبحثُ عن شتّى أمورٍ قد تَجعلني أشعر بِّما الفرح، بِّما يجعلني أحلق في السَّماء الوعرة، وأبتعد عن ظُّلمة الأرض وبَشاعتها المستعرة، لقد وجدتُها بعد أن استسلمتُ للموت، بعدما حاولت بكلِّ قطعةٍ مِن روحي أن تموت، أن تستسلم بكلِّ ألمٍ في أخادِجِها، أتَت في هيئةٍ بشرية ولكم أكره البشر فمَا بالها الحياة جعلت مبتغاي فيه؟!

صَحوتُ مِّن غفوتي في مرفق ابتسامة، رغبة فاضحة على ثغري للابتسام، كانت حياة لم استشعرها سابقًا، فيه نكهة من الذّوبان الحلوة، نَكهة مّن اللذة الحلوة، رُغم إنها مُرَّة بالفعل، كالنّبيذ عندما تَتذوقه، رُغم أنَّه مرٌّ لكنَّه حلو.

جلسنا سويًّا على كرسي الاعتراف، مُطالَبَةٌ أنا في البوحِ لكنّي لا أرغب، لا أريد أن أتكلم عن رغبةٍ قد ماتت، ورَغبةٍ قد ولدت، أريد العيشَ وأنا مُغمضة العينَين عن الواقع، عن الماضي، غير آبهةٍ للمستقبل وما فيه. أريد العيش كحاضرٍ لا كماضٍ، فهل سَتحقق هذه الرّغبة يومًا، هل سَتعطف عليّ الحياة يومًا وتَجعلني آمنة مِّن البؤس والصّراع؟!

جعلني كدمية يجب أن تُجيب على كلّ سؤال تَحت أيّ ظرفٍ كان، أصمت عندما تَجتاحني تلكَ الغصَّة وبعضُ الآخر أتكلَّم؛ لكي لا تَتفاقم وتُقطع أشلائي الصّوتية!

«لقد رميتُ ذاتي مّن أعلى الجسر.».

في ذلكَ الوقت، عانيتُ بصمتٍ أحمق، كانَ بامكاني الصّراخُ في الليالي الباردةِ، كانَ بامكاني المُقاومة تحتَ أي لعنةٍ قد لمستني وحطَّمتني، وأنا كقطٍ مهجورٍ، في شّوارع ديسمبر ولياليهِ الباردة، بلا دفئ منزل أو صاحبٍ، فقط في زُقاقٍ سوداويٍّ لوحده، يُحاول البقاء على قيد الحيّاة لكنَّه لم يفعل، وجدَ أمامه طريقٌ لِلرّاحة فاختاره بكلِّ رحابةِ صدرٍ؛ لأنَّه جزعَ مِن الحيّاة وظّلمتها.

«كانَ عمقُ الماء كعمق دواخلي، مظلمٌ وباردٌ، يخنقكَ ويجعل مِّن رئتيكَ أوصالٌ ممزَّقة، يَغلي دمكَ داخل جسدك وأنت في آخر لحظة تودُّ النّجاة، لا راحة في الموت ولا راحة في الحيّاة، فقط آلامٌ مختزنة بين أطلال الماضي ودفتي ذكريات!».

كانَ يستمع لشكواي بحرصٍ تام، يصمتُّ تارةً وأخرى يتكلَّم، لكنَّه كانَ كصندوق المفاجآت عندما ينفجر، لا تعلم ما قد يحتويه مِّن الداخل.

«وهل كنتِ تظنِّين الموت سهلًا، الموت ليسَ بلعبةٍ تَلعبينها وقتَما شِئتِ، الموتُ اخراج الرّوح مِّن الجسد، تَنسلُّ مِّن أطرافك بكلِّ ألمٍ وَوجعٍ، لن يُريحَكِ اخراجُ روحك ونفسَكِ مِّن الدّاخل بالعكس، هي سَتعاقب حتّى ما بعدَ الموت، وستكونين المُلام على حرمان ذاتك مِّن العيش عندئذ!».

أتجرَّع مِّن سهمِ كلامه ما بحلوٍ ومرٍّ، ما بعذابٍ وراحة، يَقول كلّ كلمة مع تدقيق مبهم، كأنَّه يخبرني لا يوجد أيّ راحة في هذا الوقت، ويجب فقط أن نعيش كما هو مُقرَّرٌ لنا تَحت أيّ خدرٍ وأيّ ألمٍ!

أيعجبُه أمرُ أنّي أستحضرُ الدّموع في حضرته؟ أيحبُّ رؤيتي ضعيفة لا حولَ ولا قوَّة لها؟!

أم يشعر بالشَّفقة عليَّ لأنّي طريحةُ الألم ومشتقاته؟

هل يرثى لحالي المؤلمة كما يفعل أي شخصٍ؟

أرغب في جعله يندم على كلِّ دمعة ولكنّي في حضرة جلالته مجرد واهنة تستمع فقط لكلامه!

«ابكِ ودعِ الدموع تَنفذ، الألم يتحرّر مّن الدّاخل مّن خلالها؛ فلا تَكتميها! كوني قوّية وَواجهي ، لا تَفعلي ما تُريده منك الحيّاة ألّا وهو الاستسلام.»

«لكنَّه مؤلم، لقد تَخطيتُ جميع مراحل الألم وأشعر بالخدرِ، عندما تُسكب تلك الدموع وتشقُّ اخاديجي بحرقتها، أشعر بأني في مصارعٍ أكبر وأشعر بأن تلكَ الغصَّة الّتي تخرج تكبر!».

صوتٌ مبتورٌ مِّن دموعٍ قد سُكِبت، عيونٌ رطبة ولكنّها تَحترقُ لسعة،  أشعرُ بأنَّ حبالي قد تمزَّقت ألف مرَّةٍ وما أزال صامتة، تلكَ الغصَّة تبقى في الجّوف دون حياء تُغدقُ بي فتيل آلامٍ بدون رهفةٍ بي وأنا أحاول النَّجاة منها!

«تَكلمي، أصرخي، أنا هنا لأسمع، لأستنجدكِ، لا تقلقي بعد الآن ولا تكتمي، أنا هنا بجوارك ولنَ أغادركِ.».

أنهيتُ جملته بنحيبٍ وعويلٍ، أنا الَّتي صمدت لأعوامٍ مِّن دون بكاء، وأنا الَّتي استمدَّت بالقوة في كلِّ يومٍ، تَقع عند منتصف الليل على رُكبيتها تَصرخ، لا أحد يسمعها ولا يستشعر بها!

فقط تُعاني مِّن الأرقِّ بسبب ضيوف الليل، مجبرةٌّ أنا على مسامرتهم في أسوء لحظاتِها خوفًا، خوفًا مِّن فقدانِها لعقلِها بسببهم، ولا تعلم ماذا تفعل، فقط تواصل بقطعِ أملِ حياتها.

ضمَّني بينَ ذراعيه بكلِّ دفئٍ ودَدت أن لا يختفي، أنتحبُ بينَ ذراعيه كلّ مساءٍ وصباحٍ، كما اليوم والأمس، ومِّن دون الاهتمام  لمَ قد يكون قادم!

أبعدني عنه بمسح آثارِ الدموع الّتي كانت تسقط سُجامًا بلا توقف، يداه قد دفأت وجنتي المحترقة وأرختني، كالمعجزة في حياتي سأشبهه فَمن يهتم لأمري كما يفعل هو؟!

«سأخرجُ قليلًا وآتي لك، انتظري فقط.»

قالها بعد أن حلَّ الصَّمت بيننا، استقام يغادر وأنا فقط أراقبه، وددت لو لم يغادر، فقط يبقى حيث أنا، ولو ضاقَ بيننا الصّمتّ، فقط لأشعر بأنّي لستُ وحيدة.

لا يوجد في عالمي ما بجديدٍ، فقط الأشياء ذاتها وصراعاتي كلّ يوم، ألمٌ طاغٍ، عينانِ داكنتان، جسدٌ سقيم، تنفسٌ ضعيف، وقلبٌ يكادُ أن يموت! لا يوجد شيء بداخلي سوى ليلةٍ باردة وضبابية، ضبابُها الدُّموع، بُكاءُها صراخي، بُرودتها جفافي، قمرها عتمتي، كلُّ شيءٍ فيَّ سَلبيٌّ بطريقة مقرفة.

النَّهار في هذه الأرض مشرقة، البشر هنا مشرقون، لا أعلم كيفَ ما زالوا، لكنّي أنا المظلمة بينهم هنا، هم يرتدون هذه الملابس الملونة وأنا أرتدي الأسود على ذاتي المنطفئة، وكأنَّ الحياة قد ماتت فيَّ، وهي بالفعل ميِّتة.

«ما سبب ما أعانيه؟».

السّؤال الَّذي لا أعلم اجابته، لمَ أنا حزينة؟ لم أشعر بأنّي شيءٌ ثقيل ولا أودُّ العيش أكثر؟ لم أشعر بأن لا فائدة مِّن هذه الحيّاة وإن غيابي ووجودي واحدٌ لا ثاني لهما؟!

هناكَ الكثير مِّن الأشياء أجهلها داخلي لكنّي لا أجدُّ لها اجابة، كلّ شيء معتمٌ داخلي بالغبار وأنا أعاني مِّن كلّ شيءِ بسبب هذا!

شعرتُ فيه قد أتى مع أكياسٍ عدَّة، أعتقد بأنَّه قد ذهبَ للتسوق عندَ هذه الدقائق، نظرَ إليَّ باسمًا ثغره وهو يقول:

«ستكون جلستنا اليوم خارجًا.».

نظرتُ له بخفوتٍ وهو أمامي، النّاس في الخارج تزاول نشاطها الاعتيادي بكلّ راحةٍ، هناكَ مَن يُحبّ العمل الَّذي يزاوله وهناكَ من يضجر، لكنهم جميعًا يحبون أن يزهرو في هذه الأيام؛ لأنَّها أيام اشراقة أشجار الكرز. أما أنا فقط أودُّ النّوم بدون الاستيقاظ أبدًا.

«ارتدي هذه الملابس.».

مدَّ لي الأكياس الّتي جلبها لأنظر داخلها، فستان مشعٌّ ببريقٍ يعاكسني، لونٌ وردي كزهور، فيه أوراق الكرز متناثرة ببياضها، رفعته لأرى أكمامه اللطيفة، وكيف إنَّه ذو طولٍ متوسط وعريض مِّن الأسفل، لكنَّه يخصر لي خصري بشكلٍ فاضح، لم أرتدِ يومًا هكذا فستان!

غيرتُ ملابسي ولكم بدوت شخصًا غير نفسي، شخصًا لا يشبهني، التأقلم مع الآخرين أمر لا أستطيع فعله، هو صعبٌّ لامرءٍ  مثلي، دائمًا ما أعاني بينَ أشلائي المبعثرة في داخلي، ومع صراعاتها الّتي لا تنتهي، أخرجُ مِّن جرحٍ أطال النَّزيف لألقَ جرحًا بالغًا وأسخطُ مِّن قبله بعمقه ونزيفه!

غريبة، منفردة عن الجميع، لستُ مميزة باشراقتي لكنّي مظلمة لا ابتسم، لا أنظر إلى الحياة بكلِّ ودٍّ وإنَّما بكلّ خفوت، حتّى صرتُ أكره خروجي مّن هذه الرّقعة!

الثّالث مّن أبريل، بعض أشجار الكرز جميلة، زهرية كالفستان الّذي أرتديه ولكنَّه حتمًا ليس كداخلي، أيامه دافئة جدًّا، سماءه صافية مِّن أي شائبة.

«عمقي يبكي بصمتٍ بالغ، والدُّنيا تضحك بكلِّ صخبٍ!»

نبستُ مستهزئة مِّن لعبة الدُّنيا وأنا أجلس على كرسي في الحديقة، لم تزهر الأشجار جميعها؛ فنحنُ في بداية الرّبيع، والشّتاء ذهبَ مع خسائر كبيرة، أتساءل فقط، متّى سيذهبُ الشّتاء داخلي ويزهر الربيع كما يحصل على هذه الأرض.

الشّجن لتلكَ الابتسامات قائم في الدّاخل، لن أكذب لو قلتُ بأنّي أحسد مَن يشعر بها، أحسد المرء الّذي لم يعانِ ما أعانيه، وأشفقُ على مَن عانى مآسٍ أسوء منّي، أعلم بأنَّ للألم مستوياتٍ، تزورك في كلّ فترةٍ حتّى تسكنك، ويجب عليكَ آداء واجب الضيافة، فتبكي ألمًا، وتنتحبُ بُهتًا، فقط لتبقى على قيد الحياة، لتشعر مرَّة واحد بها، لكنَّك بطريقةٍ ما تعلم بأنّ كلّ شيء مجرد وهمٍ تمرُّ به!

«أودُّ سؤالكِ عن شيء؟».

التَّردّد في محياه هو ما لمحته عندما نظرت له، هو كان يسأل لين أطراف الذّكريات دائمًا بكلِّ حرية وبدون تردد، فلمَ الآن يودّ الآن حتّى يفعله.

«هل جرَّبتِ أن تقعي في الحبّ مرّة؟!».

عقدت حاجبيّ وأنا أسمعه يطرح سؤاله لأنفجر ضاحكة مستهزئة في سؤاله، الحبّ؟ هل يمزح معي الآن؟!

الوقوع فيه أشبه في الإنجراف نحو هاوية أخرى، عمقها أكبر مّن كلّ ما قد مرِرت به، الحبُّ متاهةٌ عظمى لا تستطيع الخروج  منها؛ فكيفَ يفكر أن أقع فيه؟!

«أعتذر عن وقاحتي، لكنّه حقًّا مضحك!».

قلتها بعدما أحكمتُ ضحكتي لأعيد تلكَ النّظرة له، أراهن بأنّه يلعنني وشتم نفسه، لأنَّه قد سألني هذا السؤال، لا ألومه للحظة، فمعظم مَن عانوا كانوا يعانون منه!

«لقد أخبرتك سابقًا، عشتُ كمنبوذةٍ في الواقع، وحيدة لا صحبة لي، مجرد شخص يحاول أن يعيش قدر الإمكان!».

لم يكن لدي وقت لأقع فيه، لم أجد شخصًا يمكن أن أعطيه هذا الشّعور.

«لكن أتعلم، كنتُ أنا مَن تحتاج للحبِّ لا أن أقع فيه، كنتُ أحتاج إلى حنان أمٍّ، إلى خوفِ أبٍّ، حبِّ صديق، أحتاج لكلّ شيء!».

«ماذا عن الآن؟».

«فقدتُ تلكَ الرّغبات عندما فقدت شغف الحياة.».

ما الأسوء مّن أنَّكَ فاقدٌ لذلك الشغف؟

الأمر أسوء ممّا قد تظنُّه بالفعل، أن تفقد شعورك بالحياة أشبه بأنَّكَ دمية لا تعلم لماذا هي تتحرك للآن، بلا روح في جسدِكَ، تنظر لكلِّ شيء، تحاول جاهدًا أن تعيش كما يعفل غيرك لكنَّك لا تستطيع، مهما حاولت وجاهدت فستبقى في قاع الهاوية لوحدك بينما الآخرين قد نجو منها بعد صراعٍ عنفٍ كذلك، فقط تُدرك بأنَّك لا تودُّ العيش بعد الّذي حصل معك وإنّكَ محاصرٌ بين أصداف الماضي!

«إن فقدان تلكَ الرّغبات صعبة، لكنّها حتمًا في عمقك، ما تزال في داخلك ولكنّك لا تعلمين أين تكمن، فقط أريحي عقلك الباطن، انظري للحياة بمفاهيم عدّة، لا تيأسي؛ فحتّى الحيّاة على هذه الأرض لم تفعل، هي تتماشى مع ألمها وتكون بخير!».

صمتُّ فقط أراجع كلامه، يبقى أمر صبري مجرد عذرٍ، أنا فعلًا نظرتُ للحياة، ورأيتُ ما بداخلها وخارجها، أعلم ما تريده وما لا تريده، ولكنّي فقط متعبة، أودُّ فقط الرّاحة رغم علمي بأنَّها ليست موجودة.

«انظري جيدًا، في السّنةِ أربعة فصول، الأول شتاءٌ فيه الأشجار تتحمل العواصفه وأمطاره ورياحه، وكل شيء فقط لأنَّها تعلم بعد الشّتاء يأتي الرّبيع، فيأتي بالفعل فتُزهر، تُزهر بأوراقِها وثمارِها، وزهورِها وعطورها، ثُمَّ يأتي الصيف، فتقاوم، تحاول أن لا تنتهي بحرارته ولا للسعته، فيأتي الخريف بمزاجِه المتقلب، يومًا يكون معها ويومًا آخرًا ضدَّها، لا تعلمين متّى ولماذا وكيف، فتتساقط كل ورقةٍ وتضحى جذعًا يابِسًا، لكنّها لا تستسلم وتبقى منتظرة حلول رَبيع آخرٍ لتزهر مرّة أخرى كلّ سنة!».

تزهر ثُمَّ تموت أوراقها فتزهر مرَّة أهرى وأخرى بدون مللٍ من العيش!

هو يطلب منّي أن أزهر في كلّ مرّة تبتسم معي الحيّاة وأقاوم عواصفها، ألا يفهم بأنّي متعبة من الأمر بأكمله؟ لقد قلتها مرارًا وتكرارًا بأنّ لا طاقة لي لأعيش في هذا الكون الغير آبهٍ، وبأنّي جازِعةٌ مِّن العيش تحت أيّ عذرٍ، فلمَ يصرُّ على موضوع أن أقاوم أوجاعها الّتي ترميني بها؟!

«لِنُنهِ جلستنا عند هذا الحد لليوم.».

وبالفعل قد أنهيناها، أصرَّ على البقاء قليلًا نستمتِع بمشاهدة أوراق الكرزِ وهي تسقط، ولم يخلُ الأمر بالفعل مّن نصائحِه في زرع الأمل داخلي، لكنَّنا نحنُ الاثنان تعاهدنا على أن لا نلتقي تحت أيّ ظرف!

في متاهةٍ سوداء لا جدران لها، أرضٌ سوداء جرداءٌ مّن كلِّ حياة، فيها نفسي فقط!

أرتدي ذلكَ الفستان الزّهري الّذي اشتراه لي لكنّه كانَ مُمزَّقًا، أنفاسي تلهثُ خوفًا، أرى ذلكَ الرّماد وهو يتحول إلى ظِلالٍ، أحلامي وهي تحترقُ بكلِّ ما فيها ثُمَّ تضحى تُعذبني كما الآن، أهربُ، أبقى أهربُ مّنها لكن لا نفع!

هي سَريعة جدًّا ولا يُمكنني الفرار منها، مهما حاولتُ الصراخ والرّكض بعيدًا أجدها حولي، أحدها تلاحقني في كلّ أمسياتي الباهتة، مهما حاولتُ درعها، هي تكبر وتقيدني!

صرختُ باسمه مرارًا وتكرارًا، حاولتُ أن أراه في عالمي المظلم ولكنّي لم أفعل! حاولتُ ولو بأملٍ قليلٍ أن ألمحه ولكنّه ليسَ موجود، هو قد غادرني كما فعل الجَّميع، لا أحد معي في عُتمتي البالية لينقذني منها، تلكَ المتاهة الّتي لا طريقَ لها، ولا بابَ لها، خائفة رغم إنَّها واسعة وبشدَّةٍ، أشعر بأنَّ نفسي قد تقطَّعَ ولا يمكنني أن أستشعر به قط!

كحبلٍ يلتفُّ حولَ عنقي بكلِّ قوَّة وأنا أكاد أن أغادر جسدي، لا يمكنني ومهما حاولتُ أن أعيشَ، مصيري الموت في هذه المتاهة المؤلمة والفارغة، مصيري أن أتعذب في مسيرتي، وأن ألقى حتفي بألمٍ!

لا يُمكنني العيش تحتَ أكناف الصّراع وهو يقود بي للتهلكة، ولا أعلم حتّى كيفَ سأنتهي مَع هذا الألم، أقاتلةٌ أم مقتولة مِّن قبله؟!

كلّما حلَّ نجوى الليل أكون فيه ضحية لجرائمه الصّامتة، يقتلني في أحلامي بصمتٍ بالغٍ، حتّى تبدأ بالشكِّ إذا كانَ موجودًا أصلًا، أبقى أعاني مّن تلابيبه الَّتي تُقيدني مِّن أطرافي ونبثُّ فيَّ سُمَّها لجعلي أختنق!

يُلاحقني في أحلامي لجعلها كوابيسًا، حتّى الأحلام لم تعد بأمانٍ في حياتي، فكلَّ شيء هنا يقسم بوعيدٍ على جعلي أنهار كلّ ليلة وأتدمَّر، على أن أكفر بالابتسامات وبالضّحكات، وأن أنكر بالأمل وبالأحلام!

أستمرُّ في كلّ ليلة مع صراعٍ لأبقى، ومع صراعٍ لأموت، في هذه الكوابيس الدّاكنة تجتاحني رغبة كبيرة لأعيش، أما في واقعي فأنا أنتظر لحظة موتي على مضضٍّ!

حاولتُ التَّمسك بالحياة بعدما قد قُطِعَ نَفسي، امسكتُ رقبتي المتصلبة وحاولتُ فكَّ الحبل الوهمي الّذي أشعر به، ولكنّه لم يكن يحيط رقبتي، وكأنَّه أمرًا لا أستطيع أن أبصره، وهذا كانَ قاتلٌ لي بشدَّة.

فتحتُ عينيَّ مِّن الظّلمة لأستقيم في لحظتها ألهثُ بكلِّ قوّة، نظرتُ حولي أبحثُ عنه بهلعٍ كطفلٍ استيقظ مّن نومٍ ولم يجد أمه بجانبه، والّتي وعدته بأنَّها لن تُغادره أبدًا، لكنَّها فعلت وتركته بمفرده يواجه خوفه وهو ضعيف!

كنتُ كمن يهلع مّن فراشه خائفًا أن يترك بينَ دفتي هجرانٍ بالية فلا يقوى على حملها، أو يقوى الألم الّذي يتآكله لأنَّه بين دفتي صراع!

كنتُ أنحبُ كطفلةٍ فقدت أمها، بحثت عنه في كلِّ إنشٍ في المنزل لإيجادها، كانَ منصدمًا عندما رآى هيئتي المبعثرة لينطق باسمي، لم أعطِّه مجالًا حتّى قفزتُ لأحضانه وهو واقفٌ ليزداد علوَّ بكائي بينما أشدُّ مّن احتضاني له.

«لقد أخبرتك لا تُغادرني!».

لقد أخبرته بأنّي أخاف الوحدة، أخاف الهجران وأخاف البقاء، وجوده هنا بالنِّسبة لي هو منبع أمانٍ أحاول أن أغرق فيه، فهو ليسَ ببارِدٍ ولا بعميق، هو دافئ لي، يُدَّثرني في حنانه وأمانه، فأشعر بِّما قد فقدته مُذ زمنٍ.

بقى يُردِّد أسفه عليّ ويُربتُ على ظهري كطفلة، حاولَ جعلي أهدأ تحتَ أيّ عذرٍ ولكنَّ الأمر لم ينفع، لا أريد أن أهدأ، أخاف أن يغادرني ثانيةً بينما أنا في غفوةِ كابوسٍ ولا أجد احتضانه!

أخذني إلى السّرير وأنا ما زلتُ متمسكة به بكلِّ قوّة تملكها أطرافي حتّى لا يرحل، انسدلنا على السّرير بينما يُهدِّأُ فيِّ بوعودِه وكلماته، أخذَ الغطاء بينما أنا متمسِّكةٌ بخصره أعدِّل مِّن طريقة نومي وأغرس رأسي في صدره، جسده دافئ، وعطره آسِر، يجعلني أهدأ بسهولة وأغفو بسرعة لم أكن مخطئة عندما قلت بأنَّه رغبتي الّتي فقدتها، كل شيء كنتُ قد أضعته في داخلي تَجسَّدَ فيه وأنا الآن أتمسك به، لن أجعله يُغادرني حتّى بعدما أشفى، فأما أن يكون الموت فُراقنا أو الموت!

__

آسفة، لأنَّني كنتُ أنانية.

__

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon