كَفن | كذبة أبريل

_

كَفن| كذبة أبريل

_

I Know, I'm bleeding!

تُطوى صَفحات الحيّاة دائمًا وتَدَّعي بأنَّها صارت ماضيًا، تُحاول كتابَةَ أسطرٍ جديدة في الصَّفحات التّالية، لكن لا يوجد بها سوى كلمتي العذاب والأمل، لا أعلم كيفَ تَجتمعُ هاتان الكلمتان معًا، هما بكلِّ حروفِهما متناقِضتان، لا أعلم ما بِها جُهمة الحياة معنا، في لحظة تَكتبُ لَنا كلمة التَّعاسة وإن حاولنا العيشَ وتَجاهلَ هذه الكلمة، فَسوف تَغضبُ علينا بكلِّ ما تَملكه مِن فجور.

كم كانَت لطيفة وهي تَبتسم، وكم كانَت مشرِقة بِقدرِ بُهوتِها الدائم، أشعر بالذَّنبِ لأنَّني لَم أستَطع إنقاذها، وأشعرُ بالذَّنب لأنَّني معها وقت حضورِ موتِها، لَم أستطع فهم إيحاءاتها المتكرِّرة، كانت واضحة وبشدَّةٍ بأنَّها تُفكُّر في الموت، هذا غير رسالتها لي ولأخيها، حيثُ كانت فقط اعتذارًا مبهما جَعل مّن قلوبِنا تَتوقَّف خوفًا!

مَن كانَ يتوقَّع أنَّ بعدَ هذا الاعتذار ستحدثُ فاجِعة تهزُّ أشلاء قلوبنا؟ أفهمُ اللحظة حينَ تَصفعنا الحيَّاة دائمًا بِمفاجآتها، ولكنّني لا أتقبّل هذ المرَّ.

وقعتُ بالحبِّ سابقًا، وتذوَّقتُ مرارته بَعد فقدانها، يَئستُ وتَحطمتُ بكلِّ معنى الكلمة، وددت لو تَنتهي هذه الحيّاة فقط لكن الأمر كانَ صعبًا. بِصعوبةٍ خرجتُ مِن وقع صدمةٍ لأقع بأخرى، أدركتُ حبّي لها بشكلٍ متأخر، لَم أفهم اللمعة بينَ شَدقتيها إلَّا مؤخرًا، أدركتُ كم من المَشاعر أملك نَحوها ولكم كنتُ أعمى بِها، أحسدُ مَن ملك طفلةً مثلها، ولَم يَقم بإغداقِها بالحيّاة!

هي كَورَقةِ زهرةٍ رَقيقة وشَفّافة، فيها رِقَّة ريشة وخفَّة هندباء طائرة، ولكنَّها مِّن الداخل مجرد كُتلة مِن المَشاعر حيث تُغرَسُ الأشواك من كلِّ جانب. كيفَ أُفهمُها بأنَّ الموت لا يَليقُ بِها؟  كيفَ أخبرها بأنَّ الحياة موجودة بينَ أطرافِ عينيها فقط؛ حتى لا تَستسلم؟

لَم قَرَّرت تَركي بَعدما عَلمت بِحبّي لها؟ وقعتُ لها فأوقعتني فوقَ أرضٍ اسمنتيَّةٍ جافَّةٍ وصَلدة، بها حوافٌّ غُرست بي من كلِّ جزءٍ؛ لذا الآن أنا أنزفُ بِسببها، أنزفُ بكلِّ وهنٍ وأنا أجلسُ بِجانبِها!

مَهما حاولنا أن نَكون أقوياء تَجعلنا الحيّاة ندركُ بأنَّنا مجرد أجسادٍ واهنةٍ وضعيفة، نُدرُكُ بأنَّنا مجرد ضعفاء نَقع منذ أول انكسارة، وبعدَ صراعاتٍ لربّما نجهل أسبابَها، ففي كلِّ مرَّة أُظهِرُ بأنّي جبلٌ بشموخِه وصُلبِه أدركُ بأنَّ الرّياح تَتَّفق مَع ساندي لهزّي وجعلي أنحني. كنتُ أركضُ بهرعٍ بينما أنتِ نائمة، لَم تغادر الروحُ جسدَك بسهولةٍ عند وقوعكِ على الأرض الصَّلبة، لقد صارَ هناكَ أملٌ، ولو كان قليلًا لجعلِكِ بخير، بأن تَفتخي عينيكِ، لا بل عليكِ فتحُها، هناكَ صفحات عِنانٍ بيني وبينَكِ، صفحاتٌ يَجبُ أن نتكلَّم فيها، هناكَ قائمة من الأسئلة الّتي يجب أن أطرحَها عليك، غير اعترافِكِ الَّذي لم يأتِ إلا بَعد قراركِ هذا!

أنا في أشدِّ حالاتي هلعًا، أخافُ أن أخسركِ يا بَريقي كما حصل معي من قبل، لا أودُّ أن أرى الدُّنيا تَحرمني مرَّة أخرى من حبّي، أخائف أن أخسَرك، وأخاف من فقدانِ روحك، رجوتُ الرَّبَّ بتذلُّلٍ فقط لأجلك، فمَ ذنبُ فتاة وروحٍ مثلك حتّى تعذب في هذه الدنيا!

قاموا بنقلِكِ إلى حجرو العلميات بسرعةٍ، حاولوا إخراجَكِ من مرحلةِ الخطر، وبَعد ثلاث ساعاتٍ من الخوفِ والصَّدمة خرجَ الطَّبيب قائلًا بأنَّ دماغكِ قد تضرَّر بسبب سقوطك، بأنَّكِ لم تَتعدِّي مرحلة الخطر، وبأنَّكِ سَتنامين لوقتٍ طويل، وإن لَم تصحي خلال هذه الأيام سَنفقد القدرة على إرجاعكِ للحياة.

عليكِ الاستيقاظ يا فتاة، لقد اخترتي الوقت الخطأ لِتموتي، ما تزال أمامكِ أيامٌ عليكِ عيشَها، لديكِ أنا حتّى تضمِّيني وقتَ خوفك، فَمن سيُطَمئنُك عندم تَبدأ الكوابيس بالتَّسلُّل إلى أحلامك؟

أنا أطالبُكِ بالاستيقاظِ الآن، أطالبك بِضمّي هذه المرَّة بدل أن أضمّك أنا، لا أعلم كيفَ وقعتُ لك، فيجب عليكِ أن تفعلي، ففارقُ العمر بيننا كفارق العمرِ بين الأب وابنته، فلِم دقَّ الحبُّ أبواب قلوبنا وهي في أشدِّ حالاتِها تألُّمًا؟

لا أفقهُ شيئًا من الَّذي حصل، فأرجوكِ استيقظي، استيقظي وقولي بأنَّها كذبة أبريل، قولي بأن كلّ هذا وهم وبأنَّكِ تخدعينني، وبأنَّكِ بخيرٍ وليسَ في غيبوبةٍ، ارأَفي بِحالي قليلًا وانهضي فَأعترفَ أنك قد تَمكَّنتِ منِّي.

ألا يَكفيكِ اعترافي؟ ألا يَكفيكِ بكائي ونحيبي؟ ماذا تريدين أكثر حتّى تستقظي؟

بَقيتِ في العناية المرَّكزة بينما أنا بِجواركِ، أخوكِ الَّذي أتى وحاله لا يَختلفُ عن حالي، ما زالَ تحت تَخدير الصَّدمة بينما والِديكِ أدهشاني لحظة مجيئهما بكلِّ برود، وكأنَّ الفتاة الَّتي تَقبعُ على سَرير الموت ليست ابنتَهما، بقيتُ مندهشًا كيفَ تهطلُ الدموع مِّن عيني والدَتكِ بكلِّ برودٍ، ليسَ وكأنَّها أمٌّ!

«أنتُما السَّبب في ما آلت إليه مّن حال، كلُّه بسببكما، ما الَّذي سيكلِّفكما لو أعطيتُماها الحبّ كما تفعلان معي، ما ذَنبُها إن كانت قد ولِدت من رحمٍ غير رحمك أمي؟  لِمَ عاملتِها وكأنَّها عدوتك لا ابنة زوجك؟ ليسَ لكما الحقّ في المجيء إلى هنا، لا حقَّ لكما حتى تَحظيا بفرصةٍ لرؤيتها، وإن ماتَت فلا أحد مسؤول عن موتِها غيركما!»

انهارَ بوجهِ والديكِ بكلِّ غلٍّ، صدحَ صوته المنقهرُ في كلِّ ممرٍّ في المشفى، شاهدتُ فيه انكسارًا لم يمرَّ به سابقًا، غفوتُكِ الَّتي قد طالت كانت لنا أشدَّ خوفًا، هلعًاو مُقتًا لأنفسنا، وأكبرَ ذنبٍ لنا. لم تَمضِ ثانية إلَّا ورجونا فيها الرَّب عدمَ فقدانك، في كلِّ مرَّة تُسمح لي بالزّيارة أمسكُ يدكِ، أحاولُ أن أدفئها فَهما بارِدتان جدًّا، أحاولُ أن أقوم بتأنيبِكِ ولكنَّ لساني يَتجمد، لربَّما بدأتُ أشعرُ بما كنتِ تعانين منه، معنى أن تكون صامتًا وفي منتصفِ جوفكَ تراكماتٌ من الكلام المخبَّأ، حتّى الشِّفاه صارت ثقيلة جدًّا!

مضى يومٌ كاملٌ وأنتِ لم تستيقظي بعد، ما الَّذي يَجعلك تتأخرين هكذا؟ ما الَّذي جعلك تنامين لوقتٍ طويل كهذا؟ ما الحلم الَّذي تحلمين به حتّى يجعلكِ لا تستيقظين؟ أجميلٌ أنّ ما ترينه الظّلمة فقط؟ هل تشعرين بدفئ يدي وهي تَحضنُ خاصَّتكِ؟ هل تسمعين كلماتي عندما تُرتَّل على آذانك؟

أنا أتوسلُ إليكِ، اتستيقظي!

«خذ.»

أعطاني أخوك الماء لأتجرّعه، ومع كلّ جرعةٍ أشعر وكأنَّ سكّينًا تدخل لِمرئي وتجعل منّي أوصالًا، حتّى قلبي لم يعد قادرًا على الوقوف أكثر!

«اذهب حتّى تأكل شيئًا، أنت لم تأكل مُنذ البارحة!»

«لا أريد.»

كيفَ لي أن آكل وأنتِ نائمة هنا، أنتِ أيضًا لم تأكلي شيئًا، فقط راكدة على هذا السّرير بكلِّ هدوء، أنتِ هادئة طوال الوقت، لا يُسمع لك صوتٌ ولا ضجيج.

«اذهب، سأبقى أنا قليلًا حتّى تعود.»

أخشى أن أذهب، لربَّما تستيقطين وأنا لست بجوارك، ماذا لو لم أستطع رؤيتك ثانية؟ أنا فقط رافضٌ لفكرة مغادرتك!

«ماذا عن والديك؟»

سألته ليُحني رأسه نحو طرفٍ آخر، الخيبة على مَحياه واضِحة، للآن هو لم يسامحهُما، بل وطردهما مّن المشفى ومَنعَ عنهما رؤيةَ ها، وهذا جعلني أفتكِرُ لحظة ذَهابها إلى منزلهم قبل مدينة الألعاب، فماذا لو كانا السَّبب فعلًا فيما حصل لها؟

«لقد غادرا، وحتّى بالحلم لَن يراها!»

«لكنّهما يَبقيان والديها.»

«والديها؟»

سخِر منّي فجلس على الكرسي بجواري وصمت، بدا لي فعلًا أنَّه يودُّ التَّكلم عن أمرٍ ما لكنَّه بقي صامتًا، تلى في ذاكرتي حديثُه حول أنّهاا من رحمٍ غير رحمِ أمّه، وهنا نَظرتُ له مُنصدما، كيف لم أفهم كلامه وقتها؟

«هل هي حقًّا من رحمِ امرأة أخرى؟»

«هي أختي من أبي فَقط.»

لَم أعرف بُما أجيب وما عليَّ قوله، كيف لها أن تكون من رحمٍ آخرٍ! وهل تعلم أصلًا؟

«لقد كنتُ فتًى ذكيًّا، دخلتُ المدرسة في سنٍّ مبكِّرة وتخرجتُ في سنٍّ أبكر، استطعتُ الحصول على منحةٍ دراسية من جامعة شهيرة في الخارج، اخترتُ الهندسة دون غيرها لأنّي أحبّها، وأنا بارعٌ فيها، كانَ والدي ذا دخلٍ محدود، لم يعرف كيفَ يدبِّرُ الأموال من أجل السَّفر ودخلي اليومي، كنتُ قد فكرتُ في التَّخلي عن الأمر ولكنَّه أتى في أحد الليالي وأعطاني المبلغ المطلوب، لم نَعرف كيفَ حصل عليه وكلّما سألناه قالَ بأنَّه أخذَ قرضًا مِّن شخصٍ يعرفه، وبعد أن أكملنا إجراءات السّفر وغادرت بشهورٍ قليلة، أتت عاهرة إلى منزِلنا قائلة بأنَّها حاملٌ من أبي، لم أكن أعلم شيئًا عن الأمر، لأنّي كنتُ مشغولًا بالدّراسة، فكلّ ما عرفته أنّي رزقتُ بأختٍ، وبعد أن عدت إلى هنا لاحظتُ كره أمي لأختي، ومحاولاتها في إبعادِها عنّي، كذلكَ شجاراتها الدائمة معها، والَّتي كانت تخَبِّئها عنّي، اعترفَ والدي وهو ثملٌ بإثمه، وبأنَّ ها تُذكره بذنبه؛ لذا شَعرتُ بأنّي أنا السَّبب، أنا السَّبب بكلِّ ما جرى لوالدي ولها، أنا السَّبب!»

انهارَ أمامي بالبُكاء لأضمَّه وأنظرَ نحو بابِ غرفتك، ما الَّذي سَيحدثُ أكثر من هذا؟ كنتِ تعانين فقط لأنَّكِ ولدتِ بهذه الحياة، لأنَّكِ إثمُهم؛ لقَد مَقتوكِ، ولم يَعطوكِ الحنان الَّذي وجب أن تحظى به كل فتاةٍ بسنِّك، لكم قلوبكم قاسية يا أيها البشر، ما يأتي الحقد إلَّا من دواخلكم!

ما حملتِه حتّى هذا الوقت يفوق قدرَتك، جعلكِ تكبرين قبل وقتك، كلَّما انهرتِ أمامي أجدُ بأنَّكِ أضعفُ امرؤٍ قد شاهدتُه، وفي الوقت ذاته أنت جبلٌ شامِخٌ في هذه الحياة، حاولت زَلزلة ذاتكِ بسبب الألم، بسبب البراكين الثائرة داخِلكِ، فكيفَ لكِ أن تتحمَّلي كل هذا الألم فقط؟

مَضى اليومُ الثّاني وأنتِ على حالتِك، الطبيب فقد الأمل فيكِ ولكنّي ما أزالُ كلّي أملًا بأنَّكِ ستستيقظين، سَتفعلين هذا من أجلي أنا، لا أهتم لأمرِ عائلتكِ هذه، ولا أهتم لأنَّكِ ذنبهم، أنا أريدكِ، أريد أخذَ جلساتٍ معكِ كالسّابقِ، واحتضانك قبل النوم، أنا حتّى لم استطع النّوم خلال هاتين الليلتين، كلُّ بالي معك، حيثُ غفوتكِ، أستكون حقًّا طويلة المدى؟

صَحوتُ وأنا على سَريرٍ بينما الأنابيب تغدّي جسدي، لَم أضع شيئا في مَعدتي منذ يومين؛ لذا أغمي عليَّ دون أن أعي بذلكَ، نظرتُ إلى محيطي ورأسي يكادُ ينفجرُ بسبب الصّداع، وبعدما استقرَّت بصيرتي لمحتهما بِجانبي، أتساءل كيفَ بمااءِ وجهِهما أن يأتيا إلى هنا ويُقابِلاني؟

تَجاهلتَهما وحاولتُ الاستقامة فأتت حتّى تساعدني ولكنّي رفضتُ، لَن أقبل أن تلمسني امرأة مثلها، فما تُعانيه الرّاقدة على السَّرير بسببها هي.

«لقد أتينا إلى هنا فقط حتّى نتكلَّم معك حولَ ها؛ لذا أرجوك استمع لنا!»

طلبتُ منهما الخروج ولكنَّهما أصرّا على البقاء، هل تذكَّرا الآن بأنَّ لهما ابنة تبلغ مّن العمر سبعة عشر عامًا؟

لكم أتمنى لو كانا هما الرّاقدين بمكانِها الآن، لِمَ الرّبُّ بهذه القساوة معها؟

«تكلَّما.»

«لَقد أتت ها إلينا قبل أن تحاول القضاء على نَفسها، لم نَفهم قطّ ما كانت ترمي له خلفَ كلماتها، وأقسم لكَ لو كنا نعلم لَأوقَفناها، نَودُّ الاعتذار منها حقّا، نحن أخطأنا بحقِّ طفلةٍ بريئةٍ مثلها، لقد جعلناها تَحملُ ذنبَنا وأنانِيَّتنا!»

«إذا كنتما تودَّان الاعتذار، فاذهبا واعتذِرا لها هي؛ أنا لا دَخل لي.»

أصبح الغَضبُ يقتات عليّ في هذه اللحظة، فمَ فائدةُ الاعتذار بينما هي تُصارعُ الموت وهم على قيد الحياة، لو كانَ هناك من يستحقّ الموت فَهما الأجدَرُ به لا هي، تَربَّت في بيئةٍ لا عدلَ فيها ولا صواب، مهما حاولتُ أن أغفر لهم فلن أفعل، فمَ بالُك بتلكَ الصَّغيرة النائمة الَّتي هي مَن تُعاني لا أنا؟ هي من ذاقَت مرورتهم وأنانيتهم، كيفَ لها أن تُسامحهم بهذه البساطة؟

طلبا منّا مرارًا وتكرارًا أن يروا ابنتهم الرّاقدة على الفراش، لكن أخاها قد رَفضَ وبشدَّةٍ حتّى كادَ موعد الزّيارة ينتهي، كانت أمُّها تَبكي وبشدَّة؛ لذا سَمحَ لها على مضَضٍ عندما أقنعته، لا عجبَ أنها تفعل ما تريد ولو تَلقت ألف اعتراضٍ، حتّى أخوها لا يَفعل إلّا باقتناع، هو حتّى لم يرأف لدموع والدته!

لَم تُطل الكلام معكِ، ولم أستطع سماع ما قالته، فلا يستطيع الدّخول لِقعركِ إلَّا شخصٌ واحدٌ لا أكثر، خرجت وهي منهارة، فأأخذها زوجها وأجلَسها على أحد الكراسي، بَقيتُ فقط أنظر لهما بينما أذكرُ كلامكِ، لقد أحبَبتِهما وبكلِّ صدقٍ، حاولتِ قدرَ الامكان نيلَ حبِّهما ولكنَّهما كانا أنانيين، حمّلاك ذَنبًا حتى هما لم يستطيعا تحمّله، أأرأفُ على حالِها أم حالِمها؟

ذَهبتُ إلى شقتكِ وأخاكِ، كنتِ خائفة قبل ذلكَ من عودةِ أخيكِ إلى الشِّقة لأنَّه سَيحرمني من الولوج إليها ولأحضانك كما كنتُ أفعل، غريبٌ أمرنا، لَم يمضِ حتّى شهرٌ مُذ أن بدأت جلساتُنا الَّتي كانَ الصَّمتُ يغزوها، دخلتُ إلى غرفتِكِ فاستنشقت عبقكِ الخافت، لَطالما كنتِ مُتميِّزة بهدوءكِ وحتّى عطركِ الذي كان هادئا مثلك، صوتكِ وبكواتِكِ الهادئة، حتّى صراخك عليَّ لم يكن بذلكَ الصَّخب، رَميتُ ذاتي على سريركِ أسترجعُ كلّ ليلةٍ مرَّت وأنتِ بينَ أحضاني، وكيفَ تستيقظين فزِعة وترمين ذاتكِ بينَ ذراعيّ إن كنت سأغادر، الآن أودُّ أن أرمي ذاتي بينَ أشلائك، أودُّ أن أبكي بين أحضانكِ، ما بكِ هكذا قلبتِ المعادلة دون رأفةٍ بي، ألَّا تُحبِّيني كما أفعل؟

استقمتُ بغية الخروج لكنِّي لمحتُ جزء صندوقٍ مغلف أسفل السّرير، لم ألحظه سابِقًا قط، لِم الآن ظهر أمامي؟ فَتحته وليتني لَم أفعل، فَفوقَ سراب الألم أضيفَ ضِعفه  وتَحشرجَ صوتُ بكائي بينَ أتلاف عيوني، قرأتُ كلَّ حرفٍ قَد كتبته، كلَّ حرفٍ لم تستطيعي قوله لي، أهذه أنتِ الَّتي أعجزُ عن فهمها؟ كلّ هذا ورغم ذلك ما تزالين صامتة؟ لِمَ أرهقتِ ذاتَكِ في محاولاتٍ لا نَجاة منها، أعلم عنكِ بالفعل ما يَجعلني أتفهم رغبتكِ في الانتحار ولكن هذا لا يُبرر شيئا، أنتِ لَم تكوني وحيدة قط، لقد قُلتِ بأنَّ الرَّبَّ معنا، هو في قلوبنا، فلمَ قرَّرتِ دون سابقِ إنذارٍ أن تُنهي حياتك؟

لا طاقة لي أكثر حتّى أستوعبَ ما تَتكلَّمين عنه، في كلِّ ورقةٍ أقرأها أشعر وكأنّي أستنفذُ طاقتي أجمعها، لدرجة أنّي جلستُ على هذه الأرض الرّطبة وأنا أستنفذُ ما تبقّى منها، فقط أشعر وكأنّي جسدٌ خاوٍ لا روحَ فيه، منهارٌ لأبعد درجةٍ لا يستطيع أحد النَّجاة منها.

أمَضيتُ تلكَ الليلة وأنا في غرفتكِ فقط، لَم أبرحها وإنّٕما جلستُ أشاهدُ الفساتين البرّاقة وأنا أحاولُ كبتَ رغباتي في البكاء، عيوني احمرَّت من داخلها، بل وتَحترقُ بتلكَ الدموع الَّتي تَغزوها، كنتُ أتخيَّلكِ وأنتِ تَرتدين هذه الملابس رفقوَ الابتسامة الأجملِ فيك، عندما لَمحتُ الابتسامة على خدَّيكِ أول مرَّةٍ دُهشتُ لكم تَملكين شفاهًا جميلة، وعندما أخبرتكِ بأنّي أريدُ رؤيتكِ مبتسمة دومًا كنتُ أريد إشباعَ رغبتي في رؤية الابتسامة على وجهكِ، لكنّي لم أرغب في رؤيتِها على ملامحكِ قبل موتك، كانت مؤلمة لقلبي وما تزال كذلك، كلَّما أتذكرُها تَنتفضُ روح قلبي وتبهُت، وحينئذ أرغبُ في الصُّراخ فقط!

حملتُ أطرافي وجررتُ نفسي نَحو مسكنكِ الجديد، شرارة الغضب لا يمكن أن تهدأ بسهولة، أودُّ إنهاء الألم الَّذي تمرِّين به قبل استيقاظك، لكن لا مَسلكَ لكِ ولمتاهتِكِ الفارغة، ما أزال تحتَ آثار البكوات والصَّرخات، وفي كلِّ مرَّة أرى بُكاءكِ يُعتصَرُ قلبي ويُسحَق، ويجعلني أتجرَّعُ ألمًا وأنا صامت.

أريدُ رؤيتكِ تَبتسمين بكلِّ صدقٍّ، فأنا لم أرَ ابتسامتكِ الصّادقة، فقط تلكَ المزيَّفة وبإتقانٍ، هل أخبرتُكِ كيفَ مزَّقت ابتسامتكِ الأخيرة قلبي؟ كيفَ جعلت نفسي مذنبةً لأنَّها طلَبَت منكِ ذلك؟ كلَّما تَوارت أمام باصِريَّ ودَدتُ الصِّرام بكلِّ غلٍّ،لكن هذا لـن ينفع، فما حصل قد حصل!

جَلستُ أمام بوابةٍ تَفصُلك عنّي، أخوكِ الَّذي تَركَ كلَّ شيء ويَجلسُ أمامك، يُصلّي أغلبَ أوقاته حتّى تَستيقظي، لكنَّكِ للآن لَم تفعلي، إنَّه اليوم الثالث وأنتِ نائمة، كل مَن عرفَ حالتكِ يأسَ لأنَّكِ لن تَستيقظي، إلّايَ وأخوكِ، لم نفعل إلى هذه اللحظة، نَحنُ واثقانِ بأنَّكِ ستفعلين، من أجلكِ ومن أجلنا. 

صَوتُ ضرباتِ قلبكِ الضَّعيفة تختَرقُ أذنيَّ، سمحوا لي برؤيتكِ اليوم وأنتِ فقط مستمرَّة بغفوتِكِ، أتساءل إذا كانَ ما تَرينه جميلا جدًّا لدرجة أنَّكِ تستطعين النَّوم ثلاثةَ أيامٍ متتلاية دوني،  أما تزالُ تلكِ الكوابيس بينَ جفونِك أم أنتِ فقط تَتجاهلينها؟

تَذكَّرتُ الدفتر الَّذي وجدته في الصِّندوقِ فابتسمت وأنا أبكي بداخلي، اعذريني فأنا ضَعيفٌ أمامَ ذِكراكِ، واهنٌ في كلماتكِ، مُذنبٌ بقلبكِ.

«ما فَعلتِه لا يُعتبر النَّجاة مّن السقم، ولا مّنَ الحياة، أنتِ قمتِ بالهربِ فقط، هربتِ من واقعكِ الَّذي آذاك، مّن الواقع الَّذي أحاطَ بكِ، هربتِ مّن ألمٍ لَم يُغادرك حتّى بعد موتكِ ومحاولتَكِ السّابعة هذه، لِمَ فعلتِ هذا؟ لَم أكن لأعلم الجواب لو لَم أقرأ ما كَتبته، لكن هذا لا يُبرِّر الغاية، تَحت أيِّ ظرفٍ، لقد ارتكبتِ إثمًا بحقِّ نفسكِ يا ها، هي لَن تُسامحكِ حتّى بَعد الموت؛ لذا عليكِ الاستيقاظ الآن، عليكِ الاستيقاظ حتى تعتذري إلى نفسك!»

لَم أجهش في البُكاء هكذا سابقًا، حتّى عندما ماتَ حبّي الأول، عندما غادرت الحياة كنتُ كحالكِ فقط فوقَ السَّرير؛ لم أحضر جنازتها، لذا بقيتُ فقط أنظر إلى الفراغ وأنا في صدمة، وفي بعض الأحيان أنسى أنَّها غادرت، فأبقى أناديها، أناديها كمجنونٍ، ثُمَّ أنهار بالبُكاء وأنا مُلتف حول نفسي.

احتجتُ وقتًا عصيبًا حتّى أُخرجَ نفسي من هذه الصَّدمة، وبعدما استعدتُ رشدي وَجدت ذاتي معكِ يا ها، لقد جعلتني أفكِّر في أمورٍ لم أدركها، أسئلة لَم أفكّر في إجابة لها، باختصارٍ جعلتِ منّي امرؤًا لا أعرفه.

الضّعف الَّذي مَررتُ به خلال هذه الأيام هو الأسوَأ حتمًا، الانهيار الَّذي أنا فيه أكبر مّن سابقِهِ، لستُ مستعدّا بعد لخسارةٍ أخرى، لأنَّني حتمًا سأفقدُ وعيي ولَن أكونَ عاقِلًا، لأنَّ عقلي سَيغيبُ عن الواقع. لستُ مستعدًّا لأخسر نفسي ثانيَةً؛ لذا أنا الآن أترجاكِ بكلِّ دمعةٍ قد خرجت من جَفنيَّ، وبكلّ صرخةٍ تَولَّدَت وكتُمت، وبكلِّ قطعةٍ تمزّقت من قلبي حتّى صارَ أوصالًا، أن تعودي إليّ، فلستُ أنا من دونِك، أنا كَضالٍّ في شوارع الدّنيا بلاكِ، أنا كصادٍ يَحوم حول العشق لكن لا عشقَ في حياته، فأنتِ راكدة على هذا السّرير ورغبة الموت وحدها فيكِ، رغبةٌ آثمة لَن تُمحى بحبّي!

«هي لَن تعيش أكثر من يومين!»

أنبأنا الطبيب بِعجزِه عن إيقاظكِ فانهار الجَميع، من يحكمُ دموعَه يَحكمها، ومَن بكى قَد بكى، أما أنا فَبالكاد أشعرُ بقدميَّ وبأنّي واقِفٌ عليهما، أنظرُ إليك من النافِذة قرب ذلكَ الباب وأنتِ في أعمقِ سكونكِ، أعتذرُ عمّا قلته لكِ من كلامٍ جارحٍ وقاسٍ، لكن لا تَحرميني منكِ أرجوكِ!

لا تُعاقِبني بموتكِ ولا ببعدكِ، أنا كلّي وما فيَّ لك، لا حياة بعدكِ ستكون بحياةٍ، لأنَّني سأظلُّ مساري ولَن أبصر أمامي بعدكِ سوى الموت. لستُ أنا فقط مَن يودُّ أن يراكِ فاتحَةَ العينينِ، كلُّ من في هذه القاعة يَدعو ويتلو الصَّلوات المَمزوجة مَع صِبابِ الدموع الحارقة على الخدّين، فقط لأجلكِ يا ها، فأنا أرجوكِ أن تستيقظي! 

من غرفتِكِ دوى صريرٌ جعلَ الجميع يَهرعُ نحوها، ما به جهازُ القلبِ لا يعمل، لِماذا لا يستشعر نَبضاتكِ؟ وما بالُ أخيكِ يصرخ وهو يُنادي الطَّبيب؟ ما بالهم وهم فقدوا الأمل هكذا؟ أنتِ لم تَموتي، فقط الجهاز اللعين هو الَّذي توقَّف عن العمل!

شَعرتُ بقلبي وهو ينقبض بكلِّ قوَّةٍ، شَعرتُ وكأنَّ حياتي انتهت لحظة إعلان ما لَم أرِده، ليتَ أذنيَّ صمّاء حتّى لا أسمع كلماته، وليتَ عينيَّ عمياء حتًى لا أبصركِ وأنتِ بكلِّ هذا الهدوء، وليتني لم أرَ كيفَ يقومون بتسليط تلكَ الشُّحنات القاتلة على جَسدِك، لقد تَفطَّرَ قلبي كالمرَّة السابقة بل وأسوأ منها، لقد انتَهت حياتي فقط بلحظةٍ تكونُ لحظة موتك!

«تاريخ الوفاة: العاشِرُ من أبريل، ليلة السّبت الساعة الثامنة وسبعُ دقائق.».

تلاها الطَّبيب وهو يُغطّي وجهكِ، وأنا فقط أسدلتُ جفوني أصرخُ باسمكِ راجيًا أن تستيقظي، ما بكِ وأنتِ تتركيني هكذا؟ تتركيني بينَ ظلماتِ عِشتِ فيها، عذَّبتِني وجعلتِ من روحي آثمة، كل ذكرى تتلو اِسمَكِ تُصيبني بنوبةٍ هستيريَّةٍ، بالكادِ يَخرجُ منها عقلي سَليما، تركتني مع كلِّ عِلَلِكِ السّابقة، أتجرَّعها وأنا صامتٌ، هل حقًّا غادرتِ العالم وتركتني دونَ تصريحٍ! أخبرتُكِ أنَّ عليكِ الاستيقاظ؛ لأنَّ الكثير من الأسئلة لَم تُوَضّح حتّى الآن!

صَدقتِ عندما قلتِ بأنَّ البشر أنانيون جدًّا، لأنَّني لَم أرَ أحدًا بأنانيتهم قط، أولهم حبّي الأول الَّذي غادرني دون كلمة وداعٍ، وثانيهم أنتِ الَّتي ابتسمتِ عندما قرَّرتِ الرَّحيل دون التَّفكير بِما قد يحصل لي، وبكلاهُما لَم أحضر جنازَتكما، ولَم أودعكما وداعًا لائقًا!

______

لكانَ نسيانُكِ سهلًا!

______

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon