الفصل الثامن: ألغاز في الظلام
ساد الصمت بين الثلاثة للحظات، كأنهم جميعًا يحاولون استيعاب ما قاله إيفان.
كارلا شبكت يديها بإحكام، تحاول السيطرة على أفكارها المتضاربة. شعرت كأن عقلها عالق بين منطقها الذي يرفض تصديق هذه الفوضى، وبين الواقع الذي فرض نفسه عليها بلا رحمة.
أما جوني، فقد كان يحدق في الطفل بعيون ضيقة، وكأن عقله يحاول تحليله كما لو كان لغزًا معقدًا يحتاج إلى حل. رغم مظهره المشاغب، كان ذكاؤه حادًا، ولم يكن يصدق الأشياء بسهولة. لكن الآن؟ كان عليه أن يعترف بأن هناك شيئًا غامضًا يجري، شيء يتجاوز أي منطق مألوف.
أخيرًا، تنهد بعمق، ثم مشى نحو الأريكة المقابلة وجلس بطريقة غير رسمية، واضعًا إحدى ذراعيه على ظهر الأريكة بينما يمرر الأخرى بين خصلات شعره الحمراء.
“إيفان، إذا كان هناك شخص يريد إيقافنا عن معرفة الحقيقة، فكيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ كيف انتهى بنا الأمر في هذه الليلة بالذات، في هذا الحادث؟ هل كان هذا مصادفة؟”
نظر الطفل إليه بعينين جادتين، ثم هز رأسه ببطء.
“لا، لم يكن مصادفة. كل شيء يحدث لسبب.”
شعرت كارلا بقشعريرة خفيفة تسري في جسدها. لقد بدأت تدرك ذلك بالفعل، لكن سماعه بهذه الطريقة جعل الأمر أكثر واقعية.
“حسنًا… لكن لماذا الآن؟ لماذا ظهرت في هذه اللحظة بالذات؟”
إيفان أدار رأسه إليها، نظرته تحمل مزيجًا غريبًا من البراءة والجدية.
“لأن هذا هو الوقت الوحيد الذي أستطيع التدخل فيه. كان لا بد أن يحدث الآن، وإلا سيكون الأوان قد فات.”
الأوان قد فات؟
كررت كارلا الجملة في عقلها، محاولة فهم معناها. هل يعني هذا أن هناك شيء خطير سيحدث قريبًا؟ شيء لا يمكن إصلاحه إذا لم يعرفا الحقيقة؟
جوني شبك أصابعه معًا وهو يميل إلى الأمام قليلاً، موجهًا نظره مباشرة إلى الطفل.
“ما الذي سيحدث إذا لم نعرف الحقيقة، إيفان؟”
تردد الطفل للحظة، ثم قال بصوت خافت:
“ستموتون.”
كأن الهواء في الغرفة تجمد للحظة.
كارلا شعرت وكأن قلبها توقف عن النبض. نظرت إلى جوني بسرعة، لترى ملامحه وقد تجمدت بدورها، لكنه أخفى صدمته خلف قناع بارد.
“ماذا؟” همست بصوت مرتجف.
لكن إيفان لم يكن يمزح. لم تكن في نبرته أي لمحة من اللعب أو المبالغة. لقد قالها وكأنها حقيقة مطلقة، أمر لا يمكن تغييره.
“هذا ليس خيارًا، أمي. إذا لم تعرفوا الحقيقة قريبًا… ستختفيان من هذا العالم.”
كارلا لم تستطع منع نفسها من الوقوف فجأة، تشعر بأن رأسها يدور. هذه الليلة لم تعد مجرد ليلة غريبة، بل تحولت إلى كابوس لا نهاية له.
لكن جوني لم يتحرك من مكانه. بقي ينظر إلى الطفل بعيون حادة، وكأنه يحاول التأكد من أنه لا يكذب.
“كيف نموت؟”
إيفان لم يرد فورًا. نظر إلى الأسفل، كما لو كان يخشى قول المزيد، ثم رفع رأسه ببطء وقال بصوت خافت جدًا:
“حادث. شخص ما… سيتأكد من عدم نجاتكم.”
كارلا وضعت يدها على فمها، بينما مرر جوني يده على وجهه، مغلقًا عينيه للحظة وكأنه يحاول ترتيب أفكاره.
“إذًا، لدينا شخص يحاول قتلنا… ونحن لا نعرف من هو، ولا متى سيحدث ذلك بالضبط؟ رائع.” قالها بسخرية، ثم ضحك ضحكة قصيرة خالية من أي مرح.
كارلا التفتت إلى إيفان بسرعة، عيناها متوسعتان.
“لكن لماذا؟ لماذا يريد أحدهم التخلص منا؟ لا أفهم!”
إيفان نظر إليها بحزن، ثم قال بهدوء:
“لأنكما معًا… ستغيران المستقبل.”
توقفت كارلا عن التنفس.
“ماذا؟”
الطفل لم يكرر كلماته. فقط نظر إليها، ثم إلى جوني، وكأنه ينتظر أن يستوعبا الأمر.
لكن هذه الإجابة لم تكن كافية.
جوني نهض من مكانه فجأة، يمرر يده في شعره بعصبية.
“حسنًا، هذا يكفي! هذا كثير جدًا في ليلة واحدة، ولا أعتقد أنني أستطيع التعامل مع المزيد.”
كارلا لم تلومه. حتى هي كانت تشعر أن عقلها على وشك الانفجار.
لكن إيفان لم ينتهِ بعد.
“أعلم أن هذا صعب، لكن لا يمكننا التراجع الآن. هناك شخص قريب منكم، يراقب كل خطوة. إذا لم تكونوا حذرين… سيحدث الأمر قريبًا جدًا.”
جوني توقف في مكانه، ثم التفت إلى الطفل ببطء، عينيه تضيئان بحدة خطيرة.
“قريب؟ ماذا تقصد؟ هل هو شخص نعرفه؟”
إيفان لم يجب، لكنه لم يكن بحاجة لذلك.
الجواب كان واضحًا في نظرته الصامتة.
كارلا شعرت ببرودة تسري في جسدها. كانت تريد أن تسأل المزيد، لكن فجأة، ارتفع صوت هاتفها المحمول، قاطعًا الصمت المشحون في الغرفة.
نظرت إلى الشاشة، ورأت اسم والدتها “إليزابيث” يضيء عليها.
شعرت بانقباض في معدتها. هل تشعر والدتها بأن هناك خطبًا ما؟
نظرت إلى جوني، الذي كان يراقبها بصمت، ثم استنشقت نفسًا عميقًا وأجابت على المكالمة.
“كارلا، أين أنتِ؟ لماذا لم تعودي للمنزل بعد؟”
كان صوت إليزابيث هادئًا، لكنه حمل نبرة قلق خفية جعلت كارلا تشعر بوخزة في صدرها.
“أنا… كنت مع بعض الأصدقاء.” كذبت بسهولة، رغم أن يديها كانتا ترتجفان قليلاً.
“كارلا، أنتِ تعلمين أنني لا أحب أن تبقي خارجًا لوقت متأخر دون أن تخبريني.”
“أعلم، ماما. سأعود قريبًا، لا تقلقي.”
صمتت إليزابيث لثوانٍ، ثم قالت بصوت منخفض:
“هل كل شيء بخير؟”
كارلا شعرت بشيء غريب في السؤال. وكأن والدتها شعرت بأن هناك شيئًا غير طبيعي.
لكنها أجبرتنا نفسها على الابتسام رغم أن والدتها لا تستطيع رؤيتها.
“نعم، كل شيء بخير، أعدك.”
بعد أن أنهت المكالمة، نظرت إلى جوني، الذي كان لا يزال يراقبها.
“يجب أن أعود للمنزل.”
أومأ جوني برأسه، ثم قال بجدية:
“حسنًا، لكن لا تذهبي وحدك. سأوصلك.”
إيفان نهض من مكانه بسرعة، عيناه متوسعتان.
“لا! لا يجب أن تذهبا منفصلين.”
كارلا وجوني تبادلا النظرات.
“لماذا؟” سألت كارلا.
إيفان تردد للحظة، ثم قال:
“لأن الليلة لم تنتهِ بعد… والخطر أقرب مما تعتقدان.”
كانت كلماته كافية لإرسال قشعريرة في جسديهما.
لم يكن هذا مجرد تحذير.
كان ذلك إعلانًا بأن كل شيء قد بدأ بالفعل.
(يتبع…)
Comments