في تلك الليلة، لم تكن سانت بطرسبورغ مجرد مدينة، بل كانت كائنًا حيًا ينبض بالأسرار. القمر مكتمل، يلقي بضيائه على الثلوج المتراكمة، مما يعطي الشوارع إضاءة خافتة وكأنها مشهد من لوحة زيتية. أصوات الرياح الباردة تعزف سيمفونية حزينة، تتناغم مع أزيز خطوات المارة القليلة التي بالكاد تُسمع.
على جسر مغطى بالثلج، وقف ديمتري مستندًا على حاجز معدني بارد، ينظر إلى النهر المتجمد أسفل منه. الهواء كان يلسع وجهه، لكنه لم يشعر به. كان ذهنه مشغولًا بما حدث في المقهى.
"إيرينا..." تمتم بصوت خافت، وكأن الاسم يحمل معه سحرًا خاصًا.
ديمتري لم يكن مجرد رجل. كان مثل صفحة تمزقت من رواية قديمة مليئة بالغموض والعاطفة. وجهه كان يعكس حياة مليئة بالندوب، بعضها مرئي وبعضها الآخر مخفي في أعماق روحه. لكنه لم يكن ضعيفًا؛ كان يعرف كيف يستخدم ألمه ليصنع منه قوة، وكيف يستخدم غموضه ليجذب الآخرين إليه.
أعاد تشغيل الذكريات الأخيرة: الطريقة التي نظرت بها إيرينا إليه، ذلك التوتر الغريب بينهما، وكلماتها التي بدت بسيطة لكنها تحمل معنى أعمق.
"من تكون؟" سألته، لكنها لم تعرف أن السؤال ذاته كان يطارده طوال حياته.
في الجانب الآخر من المدينة، كانت إيرينا جالسة في غرفة معيشتها الصغيرة. نافذتها تطل على الشارع المظلم، حيث تساقطت الثلوج بلا هوادة. المكان كان دافئًا رغم بساطته، مليئًا بالكتب والمجلات المنتشرة في كل زاوية.
بينما كانت ترتشف كوبًا من الشاي، لم تستطع منع عقلها من العودة إلى الرجل الغريب في المقهى.
"ما الذي يريده مني؟" تساءلت وهي تنظر إلى انعكاسها في النافذة. كانت تعرف أن هناك شيئًا مختلفًا فيه. شيء جعل قلبها ينبض بشكل غير مألوف.
رفعت كوبها وأخذت رشفة أخرى، محاولةً تجاهل الأفكار التي تدفقت بلا توقف. لكنها لم تستطع.
إيرينا (همست لنفسها): "عيناه... كان فيهما شيء لا أستطيع تفسيره."
إيرينا كانت امرأة تعرف ما تريد في حياتها. قوية ومثابرة، لكنها تحمل في داخلها جرحًا قديمًا لا يزال ينزف. كانت تعيش بمفردها منذ سنوات، تختبئ بين صفحات الكتب وتبتعد عن العلاقات التي قد تؤذيها. لكنها لم تكن تتوقع أن يأتي شخص مثل ديمتري ليقلب عالمها رأسًا على عقب.
بينما كانت إيرينا تغرق في أفكارها، رن هاتفها فجأة. الرقم كان مجهولًا. شعرت بتردد، لكنها أجابت.
إيرينا (بصوت متردد): "مرحبًا؟"
ديمتري (بصوت هادئ وعميق): "أنا آسف على الإزعاج. ظننت أنكِ ربما تحتاجين إلى إجابة على سؤالك."
تجمدت في مكانها. كان صوته مألوفًا جدًا، لكن لم تتوقع أن يتصل بها.
إيرينا: "كيف حصلت على رقمي؟"
ديمتري: "لدي طرق. لكن هذا ليس المهم. المهم هو أنكِ أردتِ معرفة من أكون."
إيرينا (بنبرة دفاعية): "لم أقل ذلك بشكل مباشر."
ديمتري (يبتسم من الجانب الآخر): "لكن عينيكِ قالتا ذلك."
كان هناك صمت للحظة. شعرت إيرينا بمزيج من الغضب والفضول.
إيرينا: "ما الذي تريده مني؟"
ديمتري: "ربما أردت فقط أن أراكِ مجددًا. غدًا، في نفس المكان، الساعة السابعة."
وقبل أن تتمكن من الرد، أغلق الخط.
إيرينا وضعت الهاتف ببطء. شعرت بأنفاسها تتسارع، وحرارة غريبة تجتاح جسدها. كان هناك شيء في صوته يجعلها تشعر بالقلق والانجذاب في الوقت نفسه.
أما ديمتري، فقد أغلق الهاتف ووقف في غرفته المظلمة. الجدران مغطاة بصور وأوراق مكتوبة بخط يده، كلها تشير إلى شخص واحد: إيرينا.
ديمتري (لنفسه): "لن أترككِ تبتعدين. أنتِ لي، سواء كنتِ تعرفين ذلك أم لا."
في تلك الليلة، نامت إيرينا وهي تحاول تهدئة أفكارها، لكنها لم تستطع تجاهل أن هناك شيئًا غير عادي ينتظرها. أما ديمتري، فقد كان يقف أمام نافذته، ينظر إلى المدينة تحت القمر، ويخطط لخطوته التالية.
كان اللقاء الأول مجرد بداية. الليل يحمل في طياته أسرارًا كثيرة، وديمتري كان يعرف كيف يستغل كل منها لصالحه.
19تم تحديث
Comments