مع انبلاج الصباح، بدت سانت بطرسبورغ وكأنها تحتفظ بسحرها الغامض الذي لا يفقد بريقه. السحب الرمادية تغطي السماء، تترك أشعة الشمس تتسلل بخجل لتضيء الأرض المتجمدة. الأصوات كانت خافتة، وكأن المدينة بأكملها تعيش تحت تأثير لحن شبح غير مرئي.
إيرينا استيقظت من نوم مضطرب. عيناها حملتا آثار الليلة الماضية، مزيجًا من الإرهاق والتوتر. لا يزال عقلها عالقًا عند كلمات ديمتري، والطريقة التي غادر بها المقهى، تاركًا خلفه شعورًا بالفراغ والرهبة.
جلست على طرف السرير، تحدق في فراغ غرفتها الصغير. جدران مطلية بلون رمادي باهت، مزينة فقط ببعض الصور القديمة لعائلتها، وشمعة ذائبة بجوار كتاب مفتوح على الطاولة. شعرت وكأن الغرفة تعكس حالتها النفسية—فارغة ولكن مملوءة بالهموم.
"لماذا أشعر وكأنني عالقة في شباكه؟"
تمتمت إيرينا بصوت خافت، بينما كانت تمسك رأسها بين يديها.
كان شعورًا متناقضًا، مزيجًا من الانجذاب والخوف. ديمتري لم يكن شخصًا عاديًا، ولم تكن كلماته مجرد عبارات سطحية. لقد تسلل إلى عقلها، زرع فيه بذورًا من الشكوك والرغبات التي لم تكن تعرف بوجودها.
بينما كانت تحاول تهدئة نفسها بشرب كوب من القهوة، رن هاتفها. الرقم كان مجهولًا. ترددت للحظة، لكن فضولها تغلب على حذرها.
إيرينا (بصوت خافت): "مرحبًا؟"
ديمتري (بصوت هادئ وجذاب): "صباح الخير، إيرينا."
تجمدت في مكانها. كيف حصل على رقمها؟ ولماذا يتصل بها الآن؟
إيرينا (بصوت متوتر): "ديمتري؟ كيف حصلت على رقمي؟"
ديمتري (بابتسامة يمكن سماعها): "لدي طريقتي الخاصة. أردت فقط أن أطمئن أنكِ بخير."
إيرينا: "أنا... بخير. ولكن، لماذا تتصل؟"
ديمتري: "أحيانًا، الكلمات المكتوبة أو اللقاءات القصيرة لا تكفي. أردت أن أسمع صوتك."
صوته كان يحمل نبرة مهدئة، ولكن أيضًا شيئًا مخفيًا. كأن كل كلمة قالها كانت مدروسة بعناية، موجهة لتترك أثرًا عميقًا. إيرينا شعرت وكأنها تقف على حافة هاوية، غير متأكدة مما إذا كانت ترغب في القفز أو الهروب.
إيرينا (محاولة استعادة توازنها): "لقد تركتني بحالة من الحيرة. لا أعرف ماذا تريد مني."
ديمتري: "أحيانًا، لا تحتاج إلى معرفة كل شيء دفعة واحدة. ثقي في اللحظة."
ثم أنهى المكالمة، تاركًا إيرينا تشعر بأنها أصبحت جزءًا من لغز لم تختَر أن تكون فيه.
في محاولة لإبعاد أفكارها، قررت إيرينا الخروج إلى المكتبة التي تعمل فيها. مكتبة صغيرة تقع في زقاق هادئ، مزدحمة بالكتب القديمة والمخطوطات النادرة. كانت تعتبرها ملاذها الآمن، المكان الوحيد الذي تستطيع فيه الهروب من ضجيج الحياة.
دخلت المكتبة وألقت التحية على زميلها الوحيد، أليكسي، شاب في الثلاثينيات ذو شخصية مرحة ونظرات حادة.
أليكسي (بابتسامة): "تبدين شاردة اليوم. هل كل شيء على ما يرام؟"
إيرينا (مترددة): "مجرد ليلة طويلة. لا شيء يدعو للقلق."
الجدران مغطاة بالكامل برفوف الكتب، بعضها يصل إلى السقف. رائحة الورق القديم والمكانس الخشبية تملأ الهواء، بينما الضوء الخافت المنبعث من المصابيح القديمة يضفي جوًا ساحرًا.
إيرينا غاصت في عملها، محاولة تجاهل أي شيء يتعلق بديمتري. لكنها كانت تدرك أن أفكارها ستعود إليه عاجلًا أم آجلًا.
مع حلول المساء، وبينما كانت تستعد لإغلاق المكتبة، سمعت صوت خطوات تقترب. رفعت رأسها لتجد ديمتري واقفًا عند الباب.
إيرينا (مندهشة): "أنت هنا؟ كيف عرفت أنني أعمل هنا؟"
ديمتري (بهدوء): "كما قلت، لدي طريقتي."
جلس ديمتري على أحد الكراسي الخشبية، ينظر إليها نظرات مباشرة لم تستطع تحملها.
ديمتري: "هذه المكتبة... مكان ساحر. يناسبك تمامًا."
إيرينا: "لماذا تشعرني وكأنك تراقبني طوال الوقت؟"
ديمتري (يبتسم): "ربما لأنني مهتم بكِ أكثر مما ينبغي."
في تلك اللحظة، شعرت إيرينا بأن حياتها قد تغيرت بشكل لا يمكن التراجع عنه. كان ديمتري لغزًا، لكنها لم تستطع مقاومة الرغبة في حله. سانت بطرسبورغ، بكل غموضها وسحرها، أصبحت شاهدة على بداية قصة تتشابك فيها الأرواح بطرق لا يمكن التنبؤ بها.
19تم تحديث
Comments