غابت شمس سانت بطرسبرغ خلف الأفق، تاركة السماء تتوهج بألوان برتقالية وذهبية، كأنها تتردد قبل أن تستسلم للظلام. المدينة بدأت تتنفس ببطء الليل، والضوء الخافت من المصابيح القديمة في الشوارع يعكس شبحية المشهد.
داخل شقة ديمتري، ساد الهدوء الذي يتخلله صوت أنفاس إيرينا المضطربة. جلست على الأريكة الجلدية، تشد الغطاء حول جسدها النحيل، بينما كانت عيناها تراقبان كل زاوية في المكان كأنها تبحث عن منفذ للهرب.
الغرفة كانت واسعة لكنها خانقة. جدران مغطاة بورق داكن وأثاث ثقيل بلمسة كلاسيكية تفرض وجودها. الموقد في الزاوية ينثر حرارة ناعمة، لكن إيرينا شعرت ببرودة في أعماقها لا يمكن لأي نار أن تزيلها. الطاولة أمامها تحمل بقايا عشاء لم تمسسه؛ كأس نبيذ ممتلئ إلى النصف وزجاجة فارغة بجانبه.
عقلها كان في سباق دائم، يعيد ترتيب الأحداث التي أوصلتها إلى هذا المكان، إلى هذا الرجل. "كيف وصلت إلى هنا؟ كيف أصبحت أسيرة كلماته ونظراته؟"
إيرينا (في داخلها): "كل كلمة منه تبدو كالوعد، لكن خلفها يختبئ تهديد. كيف أواجه شخصًا يجعلني أشعر أنني أتنفس وأختنق في الوقت ذاته؟"
كسر الصمت صوت خطوات ديمتري الثقيلة وهو يدخل الغرفة. كان يرتدي قميصًا أبيض مفتوح الزر العلوي، وسروالًا داكنًا يُبرز قامته الطويلة وعيناه تحملان بريقًا غريبًا. جلس على الكرسي المقابل لها، وسكب لنفسه كأسًا من النبيذ دون أن يرفع عينيه عنها.
ديمتري (بصوت هادئ): "تبدين مشوشة، إيرينا. هل أنتِ بخير؟"
نبرة صوته كانت ناعمة، لكنها تحمل شيئًا أقرب إلى التهديد.
إيرينا (بصوت متردد): "أنا فقط... أحتاج إلى وقت للتفكير."
ابتسم ديمتري، لكنه لم يكن ابتسامة مريحة؛ كانت أقرب إلى ابتسامة ذئب يراقب فريسته.
ديمتري: "التفكير أحيانًا قد يكون عدوًا لكِ. أحيانًا، يجب أن تثقي بالأشياء كما هي. لماذا تحاولين دائمًا البحث عن إجابات؟"
كان الجو بينهما مشحونًا بشيء لا يمكن تسميته. عينا ديمتري كانتا تخترقانها، كأنهما تبحثان عن أي أثر للهرب أو التردد في داخلها. شعرت وكأنها تحت المجهر، لا يمكنها إخفاء أي شيء.
إيرينا (بنبرة جريئة): "لأنني أحتاج إلى أن أفهم. أفهمك. أفهم ما تريده مني."
وقف ديمتري فجأة، اقترب منها بخطوات بطيئة لكنها واثقة. جلس بجانبها على الأريكة، وأمسك بيدها برفق، لكن قبضته كانت قوية بما يكفي لتشعر بثقله.
ديمتري (بصوت منخفض): "ما أريده بسيط جدًا، إيرينا. أريدكِ أنتِ. فقط أنتِ."
شعرت برعشة في جسدها. كلماته كانت مثل سيف ذي حدين، تمنحها شعورًا بالأمان وتزرع الخوف في نفس الوقت. حاولت أن تسحب يدها، لكنه شدها بلطف، مما جعلها تشعر بعجزها أمامه.
ديمتري: "أنتِ لا تفهمين بعد، أليس كذلك؟ أنا لا أطلب منكِ أن تكوني هنا. أنا أضمن أنكِ ستبقين هنا."
إيرينا (بصوت مرتجف): "وهل هذا هو الحب بالنسبة لك؟ حب يمتلك، ولا يعطي حرية؟"
ابتسم ديمتري، لكنه لم يُجب. فقط نظر إليها طويلًا، ثم قال بهدوء:
ديمتري: "الحب يا عزيزتي ليس حرية. الحب هو القيد الأكثر جمالًا."
صوت النار المشتعلة في الموقد كان يملأ الغرفة بصوت خافت، بينما انعكاس اللهب أضاف بعدًا آخر لوجه ديمتري الذي بدا وكأنه منحوت من الظلال والنور. كان كل شيء حولهما يصرخ بالدفء، لكن قلبها كان يرتجف من البرد الذي يزرعه وجوده.
"أحبك، أحبك، أحبك
أحبك، أحبك، أحبك
أحبك، أحبك، أحبك...
أنت ملاكي
أتيت من السماء البعيدة
أحبك، أحبك، أحبك
أحبك، أحبك، أحبك
أحبك، أحبك، أحبك..."
كانت الكلمات تتردد في عقلها، كما لو أنها خلفية موسيقية لهذه اللحظة الغريبة. شعرت بأنها تتردد في أعماقها، كأنها حقيقة لا يمكن الهروب منها.
قام ديمتري من مكانه فجأة، ووقف أمامها مباشرة. مد يده إليها، كأنما يدعوها للقيام.
ديمتري: "تعالي. هناك شيء أريدكِ أن تريه."
إيرينا (بشك): "إلى أين؟"
ديمتري (بنبرة غامضة): "ستعرفين عندما نصل."
ترددت قليلًا، لكن نظراته كانت كافية لجعلها تقف وتتبعه.
خرجت معه إلى المجهول، شعورها كان مزيجًا من الخوف والإثارة. كانت تعرف أن ما ينتظرها قد يغير كل شيء، لكنها لم تستطع التراجع.
"هل هو الحب؟ أم الجنون؟ أم ربما كلاهما؟"
19تم تحديث
Comments