كانت الرياح الباردة تعصف بشوارع سانت بطرسبرغ، حيث تمايلت الأشجار العارية على جانبي الطريق كأنها تهمس أسرارًا غامضة لا يدركها أحد. سارت إيرينا بجانب ديمتري، خطواتها الثقيلة تكشف ترددها، لكنها لم تستطع مقاومة الإيقاع المغناطيسي لحضوره.
الشارع الذي دخلاه كان مغمورًا بالظلام، إلا من أضواء باهتة لعدة مصابيح قديمة، تلقي ظلالًا على الأرصفة المغطاة بطبقة رقيقة من الثلج. كان الصمت بينهما يثقل الأجواء، لكنها شعرت بأن كل خطوة تأخذها بجانبه تقترب بها نحو شيء مجهول... شيء أكبر من رغبتها في الهرب.
كانت السماء تمطر ندفًا ناعمة من الثلج، تهبط برفق كأنها رسالة سلام لا تصل إلى قلوب البشر. الأنفاس المتجمدة كانت تتصاعد في الهواء وكأنها اعترافات غير مرئية تُقال دون صوت. إيرينا كانت تشعر بكل شيء من حولها؛ صوت الثلج تحت قدميها، صدى خطوات ديمتري، ودفء يده عندما أمسك بها فجأة.
إيرينا (تفكر): "ماذا أفعل هنا؟ لماذا لا أستطيع مقاومته؟ هذا الرجل... إنه يقيدني دون أن يلمسني، يجذبني دون أن ينطق. ما هذا السحر الذي يمارسه عليّ؟"
وصل ديمتري إلى باب حديدي قديم، مغطى بالصدأ ومعلق عليه قفل ضخم. أخرج مفتاحًا صغيرًا من جيب معطفه، وفتحه بحركة سلسة. دفع الباب بصوت صرير ثقيل، وكشف عن مدخل لمبنى مهجور.
إيرينا (بتردد): "ما هذا المكان؟"
ديمتري (بنبرة هادئة): "مكان يعكس الحقيقة، يا إيرينا. الحقيقة التي تحاولين الهروب منها."
دخلت خلفه بخطوات خجولة، وكان الظلام يغلف المكان كأنما يأسرها. شعرت بقشعريرة تجتاح جسدها، لكنها تابعت السير وراءه، مدفوعة بفضول يقتل خوفها.
المبنى كان مهجورًا منذ عقود، الجدران متشققة ومغطاة بالغبار، والسقف يظهر فيه ثقوب صغيرة تسرب الضوء الخافت للقمر. الطابق الأول كان مفتوحًا ومليئًا بالأثاث القديم المكسور، مما أضاف للمكان إحساسًا بأنه كان شاهدًا على حياة ماضية انتهت فجأة.
ديمتري (يشير نحو سلم قديم): "تعالي. الطابق العلوي ينتظرنا."
ترددت للحظة، لكن عينيه كانتا تخترقان ترددها، فتبعته إلى الأعلى.
الطابق العلوي كان غرفة واحدة واسعة، لكنها خالية تمامًا من الأثاث. كانت الأرضية خشبية وتصدر أصواتًا تحت خطواتهما، والجدران خالية إلا من نافذة واحدة تطل على المدينة البعيدة. وسط الغرفة، كان هناك دائرة مرسومة بالطباشير، تحيط بها شموع مشتعلة.
إيرينا (بتوتر): "ما هذا؟ هل هذه... طقوس؟"
ابتسم ديمتري تلك الابتسامة الغامضة التي تزيدها ارتباكًا، ثم اقترب منها ووضع يديه على كتفيها برفق.
ديمتري (بصوت عميق): "إنها ليست طقوسًا، بل كشف. هذه الليلة سأريكِ شيئًا لن تنسيه أبدًا، إيرينا."
كانت كلماته تهمس في أذنها مثل نغمات أغنية لا تستطيع الهروب منها:
ديمتري (بهمس): "أحبك، أحبك، أحبك...
أنتِ ملاكي، أتيتِ من السماء البعيدة..."
شعرت بتلك الكلمات تتردد في أذنيها، كأنها تلامس قلبها مباشرة، وتتركها عارية أمام سحره.
بدأ ديمتري بالسير داخل الدائرة، خطواته هادئة وثابتة، عيناه لا تفارقانها. أضاء شمعة جديدة من الشعلة القريبة، وأخذ ينظر إليها بنظرات حادة كأنما يختبر رد فعلها.
إيرينا (بصوت خافت): "ما الذي تفعله؟"
ديمتري (بابتسامة): "أفتح لكِ نافذة إلى داخلك، يا إيرينا. المكان الذي تخفينه حتى عن نفسك."
كانت تشعر بأنها محاصرة بين قوته وجاذبيته، وبين الغموض الذي يحيط بكل شيء من حولها.
تقدم نحوها ببطء، ثم أمسك بيدها وقادها إلى وسط الدائرة.
ديمتري (بصوت هادئ لكنه آمر): "أغلقي عينيكِ."
فعلت ما طلب، وشعرت بحرارة الشموع المحيطة بها تقترب منها كأنها تعانقها. كانت تسمع فقط صوته، وتلك الكلمات التي تتردد في عقلها كأنها أغنية لا نهاية لها.
ديمتري (بهمس قريب): "أحبك، أحبك، أحبك..."
شعرت وكأنها تسقط في عالم آخر، حيث كل شيء ضبابي ومشوش، لكنها لم تشعر بالخوف؛ بل بشيء أقرب إلى التسليم الكامل.
فتحت عينيها فجأة، لتجد أن ديمتري قد اختفى. كانت وحيدة في الغرفة، والدائرة قد اختفت كأنها لم تكن موجودة أبدًا.
إيرينا (تفكر): "هل كان هذا حقيقيًا؟ أم أنه مجرد وهم آخر من أوهامه؟"
كانت تعرف شيئًا واحدًا فقط: حياتها لم تعد كما كانت.
19تم تحديث
Comments