تصدح زقزقة العصافير التي تَدل على قدوم الصباح، وأشعة الشمس التي تُزين الأشجار والزرع الأخضر تُنِير المكان.
يتمشى بعض الطُلاب معًا مُتجهين لمكان المُحاضرات الخاصة بهم، بينما البعض الآخر يتواجدون بالفِعل منتظرين كي تبدأ المحاضرة.
تجلِس رنيم في المُدرج تنتظر أن يأتي دكتور المادة، فعندما استيقظت عادت سريعًا للسكن المُشترك، لكنها لم تجد بيان هُناك، مما جعلها تستحم وتأخذ موادها الدراسية لتنزل للمحاضرة.
وأثناء جلُوسها أقبلت عليها فاطمة لتجلس بجانبها، لَكِن فاطمة الخاصة بهذا اليوم، ليست فاطمة التي رأتها أمس.
جلست فاطمة بجانب رنيم صاحبة الملامح المُندهشة، ففاطمة تضع الكثير والكثير من المكياج!
اختفت ملامحها البريئة التي كانت تُزينها وأصبحت نُسخة ثالثة من شهد ومريم! حتى مريم وشهد لا يضعون المكياج بهذه الطريقة المقززة.
إنها تضع ذلك المكياج الفاقع الذي يُؤذي العين، ذلك المكياج الذي يضعه المُهرج ويُخيف الأطفال!
حاولت رنيم كبت شعورها بالاشمئزاز ونظرت للأمام في صمتٍ تام، حينها كسرت فاطمة ذلك الصمت قائلة بتردد:
«ما رأيكِ بشكلي اليوم؟»
لم تُجِب رنيم على سُؤالها لكنها سألت سؤالًا واحدًا فقط
«لمَاذا؟»
«لماذا ماذا؟»
فَهمت فاطمة مقصدها ثم نبست:
«آه..تقصدين المكياج؟ أعطتني شهد قبل أمس علبة مكياج لم تعد تستعملها وعرفتني كيف أضعها..لمَ؟ ألستُ جميلة به؟ اتصلت على شهد ومريم كي يروني ولقد صُدموا من جمالي وفرحوا أنني سأتخذ هذه الخطوة»
«متى تعرفتي عليهم يا فاطمة ؟»
«بأول يوم دراسي..أي ما يُقارب الأسبوعين أو الثلاثة، التقيت بهم في محاضرة للفرقة الأولى»
تَذكرت فاطمة شيئًا ثم تابعت حديثها بحماس:
«تحدثنا أمس عن الارتباط صحيح؟ شهد أرسلت لي صورة شاب رآني ويريد أن نكون معًا! شهد سريعة للغاية!»
لم تتلفظ رنِيم بشيء آخر اكتفت فقط بوضع رأسها على طاولة مقعدها، أي هي تربت مُنذ صغرها على أن هنالك حدودًا في الدين..مثل هذا الارتباط الذي تتحدث عنه فاطمة بكل جرأة وكأنه شيء طبيعي! كما أنا شهدت بعينيها حوادث تربت على مثل هذا الارتباط.
استقامت رنيم من مكانها ثم أردفت بنبرة باردة:
«سأعود لغرفتي»
لم تنتظر إلى أن تجيب فاطمة وذهبت بعيدًا عنها مُتجهة لغرفتها.
هي لا تُحب أن تبقى بمكان تشعر فيه بالضيق! للوهلة الأولى بدت لها فاطمة شخص خجول وضعيف الشخصية عندما امتثلت لأوامر شهد ولم تُعارضها، لكن فاطمة الآن تتشكل من جديد بطريقة ليست لطيفة بتاتًا.
دَخلت رنيم غُرفتها وعندما دخلت وجدت بيان تجلس على سريرها تدرس.
نَوت رنيم أن تتجاهلها إلى أن تُرتب أفكارها قليلًا..لكن بيان استقبلتها بابتسامة مُردفة:
«أنرتِ»
أومأت رنيم بهدوء ثم جلست على سريرها بينما تبعها صوت بيان:
«لم تحضري مُحاضرتك؟»
نَفت رنيم نابسة:
«لم أشعر بالراحة، أردت العودة للغرفة»
هَمهمت بيان وتحدثت بنبرة هادئة:
«لا يجب أن تأخذي قرارات بسبب عاطفتك فقط، المحاضرات مهمة، وعليكِ الدراسة جيدًا، ألم يجلبكِ أبوكِ إلى هنا بسبب ذلك؟»
تنهدت رنيم ثم اقتربت من بيان وجلست مقابلة لها وتحدثت:
«بيان، أرغب بالحديث معكِ..أنا مُشوشة، لم أتوقع أن تكون الجامعة بها هذه الأشياء، لستُ مرتاحة أبدًا..»
تركت بيان الكُتب من يدها ثم اقتربت منها وربتت على ظهرها تحثها على إكمال حديثها.
تابعت رنيم حديثها بارتجال:
«بيان هل فعلتِ شيئًا سيئًا لتلك الفتاة التي تم طردها من الجامعة؟ أي..الفتاة التي كانت شريكتكِ بالسكن..بيان أنا..لا أعلم، لكن أنا حقًا لا أعلم من المُحق ومن السيئ!»
صمتت بيان تستمع لها إلى أن تُنهي حديثها ثم تابعت رنيم بنبرة تائهة:
«أخبروني أنكِ سيئة..لكن من ذلك الأسبوع الذي تعرفت عليكِ به لم تكُوني كذلك..ربما أجل مُتشددة قليلًا، لكنكِ شخص جيد وبشوش! لا أعلم كيف أقنعوني، بذلك الأسبوع لم أكن تائهة هكذا! حدث لي هذا فقط عندما قابلتهم..رغم أنني لم أقابلهم سُوى أمس! هذا غير طبيعي أليس كذلك؟»
تنهدت ثم أكملت:
«بفترة الثانوية كنت أحاول الإلتزام بالصلاة، عندما جلست هذا الأسبوع معكِ كنتِ تشجعينني على الصلاة ولم أفوت أغلب الصلوات كما كنت قبلًا..أمس عندما كُنت معهم، لم أستطع اخبارهم بأن الفجر يُوذن هيا لنصلي قد ييدو غباء كوني وثقت بهن بتلك السرعة وذهبت معهن لغرفتهن..لكن عندما قالوا ما حدث بتلك الفتاة وكيف أنها تم طردها..وكذلك عندما قالوا أنكِ متشددة! هذا شيء أنا رأيته بكِ وكان يشعرني بالضيق أحيانًا، لذا؛ صدقتهن وقُلت أن نظرتهن صحيحة! أي..تفهمين؟»
أخذت رنيم نفسًا عميقًا ثم أردفت:
«أي..أنا أسير تبعًا لعواطفي ومخاوفي، لذا؛ وثقت بهن بعد ذلك الحديث..لكن الجلوس معهن لم يكن مريحًا أبدًا..كنت أشعر بالضيق، رغم أنني فكرت أمس مثلهن! قُلت مازلت صغيرة فسأعيش حياتي! ماذا الآن؟ ماذا أفعل؟ هل إن بقيّت معهن سأصبح مثل فاطمة! أتخلى عن مبادئي التي كانت معي مُنذ صغري؟ بالطبع الإجابة أجل..»
استمعت بيان لكل حرف خَرج من رنيم باهتمام بالغ، ثم بعد انتهائها ربتت على ظهرها وأردفت بهدوء:
«انظري عزيزتي رنيم، أولًا حادثة تلك الفتاة لم يكن لي دخل بها، بل أنا رأيت منها تصرفات ليست جيدة، مما دفعني ذلك لنصحها كثيرًا..وبعد أن تعبت من ذلك ولم أستطع التحمل طَلبت أن أنتقل من الغرفة، هذا كُل شيء حدث بيني وبينها، لكن أنا لم أخبر عميد الجامعة بأي شيء حدث، لستُ أنا من فعل ذلك..»
تابعت بيان ونبست ناصحة:
«وأنتِ يا رنيم لا يجب عليكِ أن تصدقي أي شيء على أي شخص بهذه السرعة، لا يجب أن تصدقي أبدًا! عليكِ السماع منه أولًا قبل الحكم عليه..»
«وثالثًا أنا لستُ متشددة، رأيت مقولة أعجبتني تقول: (دين اللّٰه ليْس فيهِ تشدد؛ إنَّما النَّاس غرقوا في ملذات الدنيا فأصبح شرع اللّٰـه ثقيلًا على قلوبهم)، لذا أنا لستُ متشددة أبدًا وستفهمين هذا مستقبلًا..»
«رابعًا.. عليكِ الإبتعاد عن صُحبة السوء يا رنيم، لا أعلم من أخبركِ بهذا عني، ولستُ مهتمة لأعرف، لكن ابتعدي عنهم، ويا رنيم فلتعيشي حياتك مثلما تريدين، لكن في طاعة الله ..الموت لا يفرق بين شاب أو كبير في السن أو طِفل! كما أنكِ قُلتِ بنفسكِ خشيتِ أن يسخروا منك عندما أردتِ إخبارهم عن صلاة الفجر..إذًا برأيك هل هذه صحبة جيدة لكِ بعد كل هذا؟ هنالك آية في القرآن، يقول الله -عز وجل- : {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}
فاختاري صُحبتكِ جيدًا يا رنيم، وكذلك أجل، صُحبة السوء ستجعلكِ تتخلين عن جميع مبادئك،لا تفقدي وجهتكِ يا رنيم؛ نحن هنا بالدنيا لنعبد الله ونذهب للجنة»
ارتاحت رنيم كثيرًا بعد حديث بيان، ولم تشعر بنفسها إلا وهي تُعانقها وتنهال عليها بعبارات الشُكر والإمتنان..كانت تحتاج لأرضٍ صلبة كي تثبت عليها، كانت تحتاج لأحد يُذكرها ويُعرفها الحق من الباطل..من اليوم هي قررت بمن يجب أن تتمسك، ومن يُجب أن تُصاحب، بعد هذه المنافشة..قررت أن تُناقشها فيما بعد بكل الأمور التي تجول بخاطرها وتُزعجها، يا ليت للجميع صاحبة كبيان.
Comments