كـــوكــب آيـــدان

كـــوكــب آيـــدان

اللوحة

أحيانًا، ترى في نومك وجهًا غريبًا لم تُقابله من قبل.

تسمع همسات بلغة لا تعرفها.

تسير في مدينة لم تطأها قدم… لكنك تعرف طريقك فيها جيدًا.

وتستيقظ... بقلبٍ ينبض كما لو كنت هناك فعلاً.

لا تقلق، أنت لست مجنونًا.

لكن ربما، فقط ربما... أحدهم كان يحاول أن يُخبرك بشيء.

نعم، الأحلام ليست دائمًا أوهامًا.

أحيانًا تكون رسائل.

بوابات صغيرة… تُفتح على عوالم لا يراها الجميع.

وهذا بالضبط ما حدث مع "نوح".

كل شيء بدأ عندما بدأ يرى تلك الأحلام.

لم تكن مميزة، لم تكن واضحة… لكنها غيّرت مصيره للأبد.

من مجرّد شخص عادي، إلى عابر بين الأكوان…

إلى كائن، لم يعد يعرف إن كان بشريًا أم شيئًا آخر.

مرحبًا بك في كوكب آيدان.

عالمٌ تمزّق فيه الخط بين الحقيقة والخيال.

تجوّل فيه مخلوقات سحرية لا تعرف الرحمة،

وتتشقق فيه السماء لتُطلّ منها بوابات... لا أحد يعرف إلى أين تؤدي.

هنا، النظريات تنهار، والقوانين تُكسر، والأساطير تنهض من تحت التراب.

لكن قبل أن تُكمل القراءة، دعني أكون صادقًا معك…

⚠️ تحذير بسيط، من النوع الذي لا يُؤخذ باستخفاف:

هذه الرواية تحوي عنفًا، دماء، تمزيقًا للأشلاء، وكوابيس تمشي على قدمين.

ستواجه ظلامًا لا يمكن إطفاؤه، وشخصيات تنكسر، ثم تنهض... لتُكسر من جديد.

إن كنت تحب القصص الرومانسية الناعمة، فهذا ليس مكانك.

لكن إن كنت من الذين يبتسمون في قلب العاصفة…

من الذين يفتحون الباب وهم يعلمون أن خلفه شيءٌ مخيف…

فأنت، بلا شك، في المكان المناسب.

ربما هذه القصة لم تُكتب لتُقرأ…

بل لتوقظك.

لتذكّرك بأن الأحلام أحيانًا… هي الطريقة الوحيدة للهروب من الكذب الذي نعيش فيه.

لكن دعني أخبرك بسرّ صغير…

كل ما تقرأه هنا هو من وحي خيال الكاتب. أو هذا ما يُقال.

هل يمكن أن يكون حقيقيًا؟

لا أحد يعلم.

ربما هذه الحكاية حدثت بالفعل في زاوية مظلمة من هذا الكون...

وربما ستحدث… لكن معك أنت.

فخذ نفسًا عميقًا...

وشدّ صفحاتك كما تُشدّ السيوف.

لأن ما ينتظرك...

أبعد مما تتخيل.

وأقرب مما ينبغي.

مرحبًا بك... في كوكب آيدان.

ولا تلمني إن نسيت نفسك بداخله.

...****************...

كان يقف هناك، على الحافة، حيث لا شيء سوى العتمة والريح. الكهف يبتلع صدى أنفاسه، والهواء المحيط به يشبه لُغزًا لم يُفك بعد. لم يكن الظلام وحده ما يطبق على المكان، بل شعور غريب، كأن الزمن توقف هنا منذ آلاف السنين.

عيناه كانتا مسمّرتين على الجدار الصخري أمامه. أصابعه المرتجفة مرّت على الرموز المنحوتة بدقة بدائية. لم يكن بحاجة إلى ترجمتها... كان يعرفها.

همس كأنما لا يصدق:

"أخيرًا... اللوحة من أحلامي."

قبل يومين...

كان نوح يعيش كأنه لا يعيش.

شاب في التاسعة عشرة من عمره، جسد قوي بفعل تسلق الجبال، لكن داخله... مهجور. يعمل في شركة أدوية منذ أكثر من سنة، لكنه لم يكن يراهم زملاءً، بل مجرد وجوه تمرّ. لا يفتح فمه إلا للضرورة. إن تحدث، اختصر. وإن ابتسم، ندر.

حاول البعض التقرب منه. دعوة على الغداء، مزحة عابرة، حتى نظرة تعاطف... لكنه كان جدارًا لا يُخترق. ليس لأنه متعجرف، بل لأن العالم خذله مبكرًا.

فقد والدته وهو لا يزال طفلًا، ماتت في مشفى بارد، بمرض لم يجدوا له اسمًا. ووالده؟ لم يعرف حتى صوته، فقد مات قبل ولادته.

عاش نوح طفولته بعد وفات والدته مع شخص لم يعرفه قط، لكنه كان يخبره انه عمه، لكن فور بلوغه ارسله لمدينة بعيدة قرب الجبال ليعيش حياته بعيدًا عنه ، ثم عاش بين جدران المدارس الداخلية، ثم اصبح وحده... كما أراد. لم يكن يطلب شيئًا من أحد.

لكن كل عيد ميلاد كان يوقظه شيء لا يمكن تجاهله.

في نهاية كل يوم من أيام ميلاده، يرى حلمًا.

دائمًا نفس الطقوس: ظلال، لوحات، رموز... وأصوات. وأحيانًا، جملة واحدة تتكرر في كل حلم:

"أنت أمل آيدان... عليك العودة قريبًا."

كان صغيرًا حين سمعها أول مرة، لا يعرف ما هو "آيدان"، ولا أين، ولا كيف يعود إليه. لكن الحلم تكرر. سنة بعد سنة، بنفس التوقيت، وكأنه نداء يأتي من عالم آخر لا يراه أحد سواه.

حكى عنه مرة، لأحد من وثق به، لكنه ضحك. ومن يومها، لم يحكِ لأحد.

اقترب عيد ميلاده التاسع عشر. اليوم الذي يفضّله دون البشر. لا احتفالات، لا تهاني. فقط هو، وشقته البعيدة عن صخب المدينة، حيث تتعفن الصحون في الحوض، وتنام الغبار على الأثاث.

لكنه لم يكن مستعدًا لما حدث تلك الليلة.

طرقٌ على الباب. غريب.

تردد لحظة، ثم فتح. كان زملاؤه من العمل، يحملون كعكة صغيرة وبالونات. لم يكن يعرف أسماءهم جميعًا. دخلوا رغمًا عنه، صُدموا من حال المكان، لكنه لم يهتم.

ضحكوا، نظّفوا، غنّوا له "عيد ميلاد سعيد". كان يومًا دافئًا... للكل، إلا هو.

أجمل لحظة عاشها في ذلك اليوم كانت بعد أن رحلوا.

حين أُغلق الباب، وعاد الصمت، جلس نوح في الظلام، وأغمض عينيه.

ثم جاء الحلم.

هذه المرة، لم يكن الحلم كالعادة. لم يكن غامضًا تمامًا. ظهرت اللوحة بوضوح. كان يعرف هذا المكان. سلسلة جبال رآها مرارًا، على بُعد ساعات من مدينته. وكان هناك... داخل كهف مظلم... نفس النقوش، نفس الرموز.

استيقظ ويداه ترتجفان.

لم يعد مجرد حلم.

تسلّق الجبال كان متنفّسه الوحيد. هناك، على القمم العالية، لا ضوضاء، لا بشر، لا أحكام مسبقة. فقط الهواء البارد، والحجر، والفراغ.

وهناك، في صباحٍ رمادي، حمل حقيبته، وبدأ رحلته.

لم يكن يبحث فقط عن لوحةٍ في الجبل.

كان يبحث عن نفسه.

أعلى سفح الجبل ، حيث لا يصل صخب المدينة ولا أنفاس أحد، كان نوح يتسلق بصمت. حبات الرمل كانت تنزلق أسفل قدميه مع كل خطوة، لكن ملامحه لم تتغيّر. لم تكن هذه أول مرة يعتلي فيها الجبال، لكنها كانت أول مرة يتسلّق وفي داخله شعور يشبه اليقين.

كان الجبل هادئًا، أكثر من اللازم. فقط صوت الرياح وهي تصفع الصخور، وصدى خطواته وهو يواصل التسلق دون توقف. وجهه شاحب قليلًا، وملامحه مشدودة كمن يخوض معركة داخلية لا تهدأ. لم يكن يتحدث، ولم ينظر للوراء. حتى حين لاحت له فتحة مظلمة في أحد جوانب الجبل، لم يتوقف ليُفكّر.

الكهف كان هناك، كأنه ينتظره.

أزاح بعض الصخور من المدخل، ودخل.

رطوبة خانقة، ورائحة العفن القديمة كانت أول ما استقبله. قطرات الماء تهبط من السقف بشكل متواتر، وصوت الخفافيش يخترق السكون من أعماق الظلام. رفع مصباحه، وبدأ يخطو ببطء، يده الأخرى تتحسس الجدران الباردة.

مع كل خطوة، كان قلبه ينبض بقوة.

شيء ما في هذا المكان يوقظه.

وفجأة... توقف.

رأى الجدار.

رسومات غريبة، رموز منحوتة بإتقان بدائي... كما حلم بها. حدّق مطولًا. لم يكن بحاجة للتفكير. لقد رآها عشرات المرات من قبل، لكن في منامه.

واصل السير، عيناه مشدودتان إلى الرموز، حتى ارتطمت قدمه بشيء ما.

انحنى ببطء. كان هناك... لوح خشبي، ضخم، مغطى بالرموز ذاتها. أمسكه بيدين مرتجفتين. لعق شفتيه وكأنه يستعد للحديث، لكنه لم ينطق. ظلّ يحدّق.

كان يشعر بشيء يتحرك داخله... ليس خوفًا، بل شيئًا أقدم، وأعمق.

أخيراً بعد كل تلك السنوات، ادرك نوح ان احلامه لم تكن اوهامًا، بل رسائل.

أخذ اللوحة وهو مازال لا يصدق نفسه وخرج.

لم يكن الليل قد حلّ بعد، لكن السماء كانت غائمة، ونسيم الجبل صار أكثر برودة. نزل نوح الجبل بصمت، يداه مشغولتان بحمل اللوحة، وعقله... تائه في رموزها.

عاد إلى شقته النائية، ووضع اللوحة على طاولته الوحيدة، التي لم يوضع فوقها شيء ذي قيمة من قبل.

حاول فهمها.

ليالٍ متواصلة، قضاها في البحث على الإنترنت، يتنقل بين مواقع تاريخية ومقالات مهجورة. دون فائدة. ما من أحد كتب عن رموز تشبه هذه.

كان بإمكانه أن يتوقف. أن يتركها كما ترك العالم من قبل.

لكنه لم يستطع.

أيقن أن هذه اللوحة... ليست مجرد نقش.

حمل اللوحة، وخرج من المنزل.

خمسة مكتبات، ومئات الرفوف، وعشرات الكتب. لا شيء.

وحين أوشك على فقدان الأمل، ساقته قدماه لمكتبة قديمة في أحد الأحياء القديمة.

الخشب يئن تحت قدميه وهو يدخل. الهواء ساكن، مغبرّ، وكأن الزمن هنا لا يتحرك.

توقف أمام رف مكتوب عليه "حضارات منسية".

لم يعرف لماذا جذبه.

قبل أن يمد يده، سمع صوتًا خلفه.

"تبحث عن شيء معين، أم تائه بين الكتب؟"

استدار ببطء. رجل مسن، يرتدي معطفًا رماديًا، وابتسامة غير مزعجة.

رد نوح بتردد، كما يفعل دائمًا مع الغرباء:

"صورة... لوحة قديمة. فيها رموز. لا أعرف ما هي."

"هل يمكنني رؤيتها؟"

أخرج نوح صورة التقطها بهاتفه. ناولها للعجوز بصمت.

تغيرت ملامح الرجل.

"أين وجدت هذا؟" سأل، بعينين فزعتين.

تردد نوح، ثم قال: "في كهف... على الجبل."

هزّ الرجل رأسه ببطء، كأنه يؤكد لنفسه شيئًا ما. "هذه ليست مجرد رموز. إنها لغة قديمة جدًا... رأيت شيئًا مشابهًا مرة، في كتاب نادر."

"هل تعرف معناها؟" سأل نوح، بنبرة تحمل مزيجًا من الأمل والخوف.

"جزئيًا فقط. لكن الأفضل أن تأتي معي. لدي بعض الكتب القديمة في منزلي. قد نجد شيئًا."

تردد نوح. لم يكن معتادًا على الثقة. لكن هذه المرة... تبِعه.

منزل الرجل كان أشبه بمتحف. تماثيل حجرية، مخطوطات، أدوات غريبة. جلس في ركن مكتبه، وبدأ يقلب في كتب مغطاة بالغبار.

نوح جلس بصمت، وعيناه تدوران في المكان.

"اسمي ماجد، بالمناسبة. باحث في اللغات القديمة... سابقًا على الأقل." قالها ماجد دون أن يرفع نظره عن الكتاب.

رد نوح بعد لحظة: "...نوح."

توقف ماجد عند صفحة ما.

"ها هي... هذه اللغة تعود إلى حضارة قديمة تدعى 'الأنباط'. كل ما نعرفه عنهم مجرد فتات. لم نعثر على مدينتهم الأصلية قط. فقط نقوش متفرقة، غير مكتملة."

نظر إلى نوح ببطء: "لوحتك تحتوي على خريطة، يا نوح. إحداثيات تقود إلى مكان قد يكون مركز هذه الحضارة... مدينة اسمها 'عين'."

صمت نوح، وكأن أنفاسه ضاعت للحظة.

ثم قال: "أين تقع؟"

فتح ماجد دفترًا صغيرًا، ورسم بعض الإحداثيات.

"في عمق الصحراء الغربية."

لم ينطق نوح، فقط أخذ الورقة بيده.

كان يعلم من اللحظة التي رآها فيها... أن اللوحة ستقوده إلى شيء كبير.

ربما شيء يُغير كل شيء.

وهذا ما كان ينتظره طوال عمره.

في تلك الليلة، لم يغمض لنوح جفن.

جلس في شقته التي لا تزال تفوح منها رائحة الغرباء، عالقة في الأثاث مثل بقايا زمن لا يخصه. الكعكة البائسة ما زالت على الطاولة، تذوب مع الوقت كما تذوب مشاعره التي لا يجد لها تفسيرًا.

كانت اللوحة مستندة إلى الحائط، والإحداثيات مكتوبة على ورقة بجوارها، لكنه لم يكن ينظر إلى شيء من ذلك.

كان ينظر إلى يديه.

أكان هذا هو النداء الذي انتظره طوال حياته؟

أكان عليه أن يذهب؟ أن يواجه؟ أن يكتشف ما وراء تلك الأحلام المتكررة؟

في داخله، كان صوت صغير يهمس بسخرية:

"لن تجد شيئًا... كل هذا وهم."

لكنه تجاهله.

في الصباح، جهّز حقيبته. بعض الملابس، مؤونة خفيفة، كراسة مهترئة لتدوين أفكاره، وبطارية هاتف إضافية، وسكين قديم من أيام المدرسة الداخلية.

أغلق باب شقته دون أن يلتفت.

المسافة التي تفصله عن "عين" كانت شاهقة، كأنها امتداد رمزي للعزلة التي أحاطت به طوال حياته. توجه أولًا إلى العاصمة، ومنها إلى محطات نقل متعددة، كلما اقترب، زادت نظرات الناس غرابة، وزادت أسئلتهم استنكارًا.

"أإلى الصحراء الغربية؟ وحدك؟"

"ذلك المكان مهجور... لا يعيش فيه أحد."

"لم نسمع قط عن مدينة بهذا الاسم."

كان يكتفي بالصمت، أو بنظرة حادة تكفي لإنهاء الحديث.

وأخيرًا، وجده. سائق حافلة عجوز وافق على إنزاله في استراحة قريبة من الموقع الذي حدّدته اللوحة. دفع دون مساومة، وجلس في المقعد الأخير، كأنما يتهيّأ للعبور من عالم إلى آخر.

الطريق كان طويلاً، موحشًا، والنوافذ تمتلئ بالغبار، لكن عينيه كانتا تتابعان الأفق، وكأن بين التلال سرًّا يوشك أن يُكشف.

وصلوا إلى الاستراحة عند منتصف الليل.

مكان مهترئ، مهجور كأن الزمن نسيه، في أطرافه فندق قديم يتكوّن من خمس غرف تُشبه القبور أكثر مما تُشبه المبيت.

استأجر غرفة دون أن يسأل عن السعر.

دخلها. الغبار يتراكم على الأرض، والهواء خانق، والسرير يئن تحت وزنه.

لكن نوح لم يهتم.

كان هناك شيء في داخله أقوى من القرف، أقوى من الخوف... شيء يشبه التصميم.

في الفجر، نزل إلى صاحب الاستراحة، رجلاً أصلع الوجه، كث الشارب، اسمه سامح.

سأله نوح بصوته الخافت المعتاد:

"هل لديك سيارة يمكنها السير في عمق الصحراء؟"

ضحك الرجل للحظة، ثم نظر إليه نظرة فاحصة:

"لدي سيارة قديمة... لا تصلح إلا للمجانين."

رد نوح، دون أي انفعال:

"هذا كافٍ."

بعد لحظة من الصمت، قال الرجل:

"ثمنها باهظ... وأنت غريب."

"ادفع أولاً."

أخرج نوح نقوده، دون نقاش.

سامح قاده إلى السيارة. عربة متهالكة، يعلوها الغبار، وتبدو كأنها لم تتحرك منذ سنوات.

"لكنها فارغة من الوقود."

قالها ببرود.

أومأ نوح، وتوجّه إلى المحطة القريبة التي دلّه عليها، ثم انطلق.

الطريق في بدايته كان معبّدًا، مستقيمًا، محاطًا بالكثبان على جانبيه.

السيارات تمر مسرعة من حين لآخر، والصمت يقطعه صوت محركه الثقيل.

كل شيء كان يبدو طبيعيًا... حتى أشار هاتفه إلى ضرورة الانعطاف يمينًا، نحو طريق ضيق لا يكاد يُرى.

انحرف بعجلة القيادة.

دخل إلى أرض أخرى.

كل شيء تغيّر. الطريق أصبح رمليًا، الحصى يرتطم أسفل السيارة كالرصاص، الهواء أثقل، والسماء بدأت تفقد زرقتها شيئًا فشيئًا.

ثم... بدأت الشمس تغيب.

الضوء يبهت، وأصوات الحياة تتلاشى.

صار نوح يقود وحده، في طريق غير ممهّد، لا إشارة، لا ضوء... إلا مصابيح السيارة التي تشق العتمة، وضوء القمر الخافت من فوقه.

ثم... دوى صوت.

وقع حوافر.

رفع عينيه إلى المرآة، فرأى رجالاً يمتطون الخيول، يقتربون بسرعة.

لم يكن بحاجة إلى تخمين هويتهم.

ضغط على دواسة البنزين، السيارة اهتزّت، تسارعت، ثم بدأت تتمايل.

الأرض لم تعد ترابية... بل صارت رمالاً ناعمة، تغوص فيها العجلات كأنها تبتلعها.

ثم... توقفت السيارة.

غرقت.

خرج نوح، قلبه يدق كطبول الحرب.

اقترب الخيّالة، أحاطوا به، وجوههم مغطاة، أعينهم قاسية.

قال أحدهم بصوت خشن:

"أعطنا كل ما تملك، أو نعطي جسدك للذئاب."

لم يجب نوح.

حدّق فيهم، نظراته لا تحمل تحدّيًا، بل شيئًا أعمق... كأنه يقيس الاحتمالات.

ثم أدار جسده، بسرعة مفاجئة، وحاول الهروب، أو على الأقل الدفاع عن نفسه.

لكنهم كانوا أكثر عددًا.

طرحوه أرضًا، سرقوا هاتفه، كادوا يدهسونه بأقدامهم...

وفجأة... صوت طلق ناري.

صرخة.

أحد المهاجمين يسقط، ممسكًا ذراعه.

نظر نوح، فرأى رجالًا يظهرون من أعلى التلال، مسلحين ببنادق قديمة، يطلقون الرصاص بدقة مدهشة.

ارتبك اللصوص، وهربوا... واختفوا في الرمال كما ظهروا.

بقي نوح على الأرض، يلهث.

اقترب منه المنقذون.

رجال بأجساد قوية، وجوههم مشققة من الشمس، يحملون في أعينهم حكمة الرمال.

"هل أنت بخير؟"

سأله أحدهم، بصوت خافت.

أومأ نوح، ثم همس:

"أعتقد... أنني ما زلت حيًّا."

أصرّوا على أن يبيت معهم ليلته. لم يكن أمامه خيار، وقد كان يشعر بالامتنان... والتعب.

قاد أحدهم السيارة الغارقة، حتى ظهرت في الأفق عشرات الخيام، مصطفة على شكل نصف دائرة، يتوسّطها موقد ضخم، ونهر من الأصوات.

قبيلة كاملة، تعيش وسط العدم، كما لو كانت تنتمي لعصرٍ آخر.

نزل من السيارة، نظر حوله، لا أحد يعرفه، لا شيء يربطه بهم... لكنه شعر، لأول مرة، أنه ليس غريبًا تمامًا.

ثم، وسط احتفال البدو، اقترب منه شيخٌ مهيب، وجهه كالصخر، صوته كالريح.

"أهلًا بك، يا ضيفنا ... اسمي خليل، شيخ القبيلة. الليلة، أنت واحدٌ منا."

ولم يجب نوح، بل أومأ برأسه، وجلَس.

أخذ رجال القبيلة سيارة نوح واخبروه انهم سيضعونها في مكان آمن، وافق نوح فيهم فقد شعر ببعض الأمان.

جلس نوح مع الرجال حول النار، يستمع إلى قصصهم، يشاهد ضحكاتهم، يتأمل أرواحهم الحرة.

ثم، همس إلى أحد الصيادين الجالسين بجواره:

"مدينة عين... هل تعرفها؟"

أجابه الصياد، بابتسامة غامضة:

"أعرفها أكثر مما تعرف نفسك... لكن، لماذا تسأل؟"

قال نوح، بنبرة شبه هامسة:

"أبحث عنها."

سكت الصياد لحظة، ثم أشار نحو شيخ القبيلة:

"هو من يجب أن تسأله... لكنه لن يحب هذا السؤال."

وبالفعل، جاء صوت الشيخ من الطرف الآخر للنار:

"مدينة عين؟ لا تكن مغفّلًا يا بني... ذاك المكان لم يُخلق للبشر."

وصفها له. مدينة من الحجارة الضخمة، والمباني المنحوتة، محاطة بالكثبان. فارغة منذ آلاف السنين. الآن، تعيش فيها الوحوش، وتتخذها الذئاب أوكارًا.

لكن نوح، رغم الخوف، لم يتراجع.

قال بثبات:

"لن أعود."

نظر إليه الشيخ، ثم قال:

" ان كنت مصراً فستنال خريطتك مع الفجر."

وحين بدأت النار تخبو، اقترب منه صبي صغير، يحمل لوحًا خشبيًّا منقوشًا، ووجهًا يحمل براءةً قديمة وذكاءً غريبًا.

"سيدي... سأرشدك إلى خيمتك."

كان اسمه "بدر".

وما بدا حوارًا بسيطًا تحت ضوء القمر... كان بداية لرحلة تغيّر كل شيء.

تحت ضوء القمر الخافت، كان نوح يسير خلف الصبي بدر، خطواته حذرة، وعيناه تراقبان التفاصيل بصمت. الصحراء حولهما هادئة، والخيام تتمايل مع النسيم، كأنها أسرار نائمة.

بدر، رغم صغر سنّه، كان يمشي بثبات. في يده لوح خشبي صغير، منقوشٌ عليه رموز بدت مألوفة على نحوٍ غريب، لكنه لم يشأ أن يسأل فورًا.

قطع الصمت صوت نوح، مترددًا، لكنه صادق:

"لم أركَ تتحدث كثيرًا في مجلس النار."

التفت بدر نحوه مبتسمًا ابتسامة خفيفة:

"أفضّل الإصغاء على الكلام، يا سيدي... فالحديث يُتعلَّم أولًا من الصمت."

توقف نوح لحظة، ثم قال، بنبرة فيها شيء من الدهشة:

"غريب أن أسمع ذلك من صبيٍّ في مثل عمرك."

رفع بدر حاجبيه قليلًا وقال:

"ربما، لكننا في هذه القبيلة نُربّى على الشعر والحكمة قبل أن نُربّى على الصيد والرعي."

سكت نوح لوهلة، يحدّق في اللوح الخشبي:

"ما هذا الذي تحمله؟"

أجابه بدر، وهو يرفعه بفخر:

"قصيدتي. نقشها والدي لي بيده، وطلب مني أن أحفظها كما تُحفَظ الكنوز."

رمش نوح بعينيه، لم يعلّق، لكن الفضول بدأ ينسج خيوطه في داخله.

فقال أخيرًا، بصوت خافت:

"أيمكنني سماعها؟"

توقّف بدر، نظر إليه بتمعن، ثم قال:

"لم يسمعها أحد من قبل... أخشى أن تُخيب ظنّك."

ردّ نوح، بصوته الجاد المعتاد:

"لا تقلق، لست خبيرًا في الشعر حتى أطلق حكمًا."

ابتسم بدر، ثم رفع اللوح، وأخذ يتلو بصوتٍ عذب، يشبه النسمات:

"صحراء شامخة، كأنها بحر من ذهب،

تتلاطم أمواجها، وتنسج من الرمال سُحب.

في كلّ رملٍ حكاية، وفي كلّ نسمةٍ همس،

تشكو من الزمن، وتبكي على الأطلال.

شمسها سيف، يقطع قلب السحاب،

وقمرها درة، في ليلها الساحر تتلألأ..."

توقّف للحظة، ثم تابع، وعيناه تتوهّجان:

"أرضها قاحلة، إلا من نبتٍ قليل،

يشهد على عظمة الخالق، ويُحيي الأمل.

فيها تجد الصمت، وفيها تجد الصخب،

فالصمت في وسعتها، والصخب في قلبها النابض.

إنها مدرسة الحياة، تعلّمنا الصبر والقوة،

وتُذكّرنا بأننا جزء من هذا الكون."

صمت بدر.

وبقي الصدى يتردد في أذني نوح، كأن الرمال نفسها تُصفق.

قال نوح بعد صمت طويل:

"قصيدة عظيمة... فيها شيء من الحكمة، وشيء منك."

ابتسم بدر، ثم خفف من صوته:

"أتعلم يا سيدي... في كل بيتٍ أنسجُه، أحاول أن أفهم هذا العالم، كما لو أنني أكتبه من جديد."

أجاب نوح بنبرة نادرة، فيها دفء غير مألوف:

"وهذا ما يفعله الكبار الحقيقيّون، بدر."

مرّت لحظة صمت خفيفة، ثم سأله نوح:

"رأيت رجال القبيلة يعودون محمّلين بالصيد... أهي طريقتكم الوحيدة للبقاء؟"

أجاب بدر دون تردّد:

"لا، نحن نعيش بين القرى ونشتري ما نحتاج، نزرع ونربي الأغنام، لكن الصيد جزء من تقاليدنا... رحلةٌ تُجرى كل شهر، وفيها نثبت أن أبناء الرمال لا تروضهم الأيام."

أومأ نوح بصمت.

ثم سأله، مترددًا:

"بدر... هل تعرف شيئًا عن مدينة 'عين'؟"

تبدّل وجه الصبي قليلًا، لكنّه لم يبدُ خائفًا، بل شغوفًا:

"أجل، أعرف ما يكفي لأحذّرك، وما يكفي لأشجّعك..."

أجاب نوح ببطء، وعيناه تحدّقان في النجوم:

"أحتاج إلى أن أذهب هناك... مهما كلّف الأمر."

قال بدر بهدوء:

"إذًا نم الآن... فالطريق طويل، والمكان لا يُفتح أبوابه إلا لمن جاءه مستعدًّا."

توقف أمام إحدى الخيام الكبيرة، ثم أشار:

"هذه خيمتك يا سيدي، استرح فيها، وسأكون هنا مع الفجر، إن رغبت بالحديث مجددًا."

مدّ نوح يده، ليمسك بلوحة بدر، تأمّله لثوانٍ، ثم ناوله إياه دون كلمة.

"شكراً لك... يا بدر."

ابتسم الصبي، وأجاب:

"تصبح على خير، ضيفنا العزيز ."

~يُــــــــــــــــــــتبَع

ـــــــ.ــــــــ.ـــــــــــ.ــــــــــ.ــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــ

شكرا لك عزيزي القارئ على قرائة هذا الجزء 💜😍

من هنا تبدأ مغامراتنا 🔥

أؤكد لك ان كل ما قرأت مقدمة للأحداث القادمة، وكل ما ستراه في المستقبل، سيُبهرك ‼️❤️‍🔥

وأكد لك ان القادم افضل بإذن الله 🙂🤎

أراك لاحـــــقاً عـزيــزي القــــــــــارئ 🫶🏻👋🏽

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon