الكــتاب

ما إن خرج نوح من الخيمة، حتى تجمّد مكانه من هول ما رأى.

قطيع من الذئاب... عشرات العيون المتوهجة، تتسلل عبر الظلام بخطى صامتة، تحيط بالجمل من كل جهة، تقترب ببطء وثبات، كأنها تمارس طقسًا قديماً من طقوس الموت.

ارتج قلب نوح. لكنه في لحظة التوتر تلك، تذكّر كلمات خليل التي رسخت في ذهنه منذ الأمس:

"إذا هاجمتك الذئاب، عليك أن تنقض عليها قبل أن تنقض عليك... وإياك أن تظهر ذرة خوف أو تردد!"

كان جسده يريد الفرار، لكن روحه أبت. التقط عصًا ملقاة على الأرض، لفّ حولها قطعة قماش، ووضعها في النار المتقدة، حتى اشتعلت وصارت شعلة تتراقص بنورها البرتقالي.

رفع الشعلة، واقترب. الذئاب زمجرت، أظهرت أنيابها، هدرت بعنف كأنها تحذّره. لكنه لم يتراجع.

ظل يلوّح بالشعلة، عيونه ثابتة، وكتفاه مشدودان. خُيِّل إليه أن الزمن توقّف للحظة، ثم... بدأت الذئاب تتراجع. أولاً واحدة، ثم أخرى، ثم البقية، حتى ذابت في ظلام الصحراء كأنها لم تكن.

اقترب نوح قليلاً ليتأكد من رحيلهم، ثم عاد وهو يتنفس بصعوبة. نزع الشعلة من يده، ووضعها بجانب باب الخيمة. دخل، واستلقى، وغرق في نوم ثقيل، لم يُوقظه منه إلا خيوط الشمس الأولى.

في صباح اليوم التالي، خرج نوح واطمأن على جمله، ثم بدأ يتجول بين أطلال المدينة. الرمال تغطي كل شيء، لكنها لم تطمس العظمة القديمة. الأعمدة، النقوش، بقايا الأبنية، كلها تشهد على حضارة عظيمة طواها الزمان، لكنها لم تمت.

لم يفهم كيف لمكان بمثل هذا الجمال، ان يكون مدفونا وسط الصحراء، ولا يعلم عنه احد.

وبينما كان يسير، لمح مبنى شامخًا، أكبر من كل ما رآه. جدرانه مزخرفة، محاط بأعمدة وتماثيل، وقبة ضخمة تتوسطه كأنها تلامس السماء.

"معبد...!" تمتم في نفسه.

توجه نحوه بسرعة، لكنه لم يجد مدخلًا واضحًا. دار حوله عدة مرات، وقبل أن يفقد الأمل، لمح كتلة صخرية ضخمة تسد فتحة في الجدار. بدا واضحًا أن انهيارًا قديمًا قد أغلق المدخل.

حاول إزاحة الصخور بيديه، لكنها لم تتحرك. عاد إلى جمله، وربط حول خصره حبلًا متينًا، وربط الطرف الآخر بالصخور. وبدأ الجمل يجر.

مرّ الوقت ببطء. الشمس تسير نحو الغروب، والعرق يغرق جسده. وأخيرًا، بعد جهد كبير، انزلقت إحدى الصخور، وظهرت خلفها فتحة ضيقة.

اقترب منها، لكنه وجد خلفها ظلامًا دامسًا، وكانت الشمس قد غربت. ومع حلول الليل، تصاعدت أصوات الصحراء: عواء الذئاب، نباح الكلاب البرية، وصرير الزواحف.

فكّر بدخوله، لكن الحكمة انتصرت. أخذ جمله، وعاد إلى الخيمة.

ربط الجمل بالقرب منها، أطعمَه، أشعل نارًا. جلس أمامها، يأكل قطعة خبز محترقة قليلًا. كان السكون قد عاد، حتى شعر فجأة بحركة خفيفة في الظلام.

استدار سريعًا.

عينان... تلمعان في السواد.

ذئب.

كان أقرب مما توقع. قلبه خفق بقوة، العرق تصبب، لكنه تذكّر ما فعله الليلة الماضية. أمسك الشعلة، ولوّح بها بثبات. الزئير ارتفع، لكن الذئب تراجع... وهرب.

عاد نوح إلى الخيمة، أنهى طعامه، وغرق في نوم عميق وسط الظلام، دون أن يخاف كما في السابق. الذئاب لم تعد تُفزعه... بل أصبح يعرف كيف يواجهها.

استيقظ في صباح اليوم التالي، طهّر جراحه، وأعدّ مؤونة صغيرة تكفيه، ثم حمل شعلة، وتوجه مجددًا إلى مدخل المعبد.

وصل إليه، وجد الفتحة كما تركها. زحف خلالها بحذر، ليجد نفسه داخل نفق ضيّق، مظلم، بالكاد يتسع لجسده.

الهواء ثقيل، والحرارة خانقة. أخرج مصباحه الصغير، بالكاد يضيء، لكنه كان كافيًا. زحف، رغم ألم ركبتيه وجفاف حلقه. كلما تقدم، زاد الاختناق... ثم فجأة انطفأ المصباح.

الظلام ابتلع كل شيء.

لم يعد يرى يده أمام وجهه. فكر بالعودة، لكنه كان قد ابتعد كثيرًا، والنفق لا يسمح له بالاستدارة. فواصل الزحف. قلبه يدق بقوة، والهواء أصبح أبرد.

ثم شعر بنسمة هواء... باردة، خفيفة، تضرب وجهه.

فرحة اجتاحت صدره.

وتحت ضوء القمر الخافت، لمح نهاية النفق... محجوبة بشباك عنكبوتية كثيفة. زحف بأقصى ما لديه من قوة، مزّق الشباك، واندفع إلى الخارج.

تلقفته رائحة غريبة... رائحة عفن قديم.

أشعل شعلة صغيرة، وبدا المكان أكثر اتساعًا. جدران قديمة، نقوش غريبة... ثم رأى الجثة.

كانت جثة متحللة تتكئ على احد جدران المعبد، لم يبق منها الا العظام وملابسها المهدرئة ، الجمجمة غريبة المظهر، لا تشبه كثيراً جمجمة البشر، بل اقرب للحيوانات. لكن بسبب الظلام وتوتر نوح ظن انها أوهام. الجمجمة بها ثقب كبير ولم يتسائل نوح كثيراً عن سبب هذا الثقب، لأن الجثة كانت تمسك مسدسا بيدها اليسرى . زادت دقات قلب نوح وتصبب العرق منه بغزارة؛ لأنه تأكد ان هذا المكان لا يمزح، ويبدو ان هذا الرجل كان متحمساً مثله عندما دخل هذا المكان،وهذه هي نهايته.

ارتجف نوح.

اقترب بحذر، وتفحص الجثة. في جيب المعطف وجد بطاقة كتب عليها بلغة اجنبية لم يراها من قبل لكنه فهمها بشكل غريب :

"لايارد كارتر: عالم آثار"

تجمّد. لم يكن مجرد رجل عادي، بل عالم متخصص، انتهى به المطاف ميتًا هنا. لكن لماذا؟

نظر إلى الثقب في جمجمته. هل أطلق النار على نفسه؟ أم هناك ما دفعه إلى ذلك؟

نظر للجثة طويلاً، ثم ابتعد وهو يهمس:

"لن أكون مثلك."

أخذ المسدس، والبطاقة، وأكمل طريقه داخل المعبد.

ممر طويل، أبواب مسدودة بالأنقاض، صوت غريب يشبه الطرق يتردد من بعيد. تجاهله. اعتبره وهمًا.

واصل السير، حتى انتهى الممر. لا شيء. لا غرف مفتوحة. لا أبواب. جلس يائسًا.

"هل وصلت إلى لا شيء؟"

لكن... نَسمة هواء باردة من إحدى الجدران.

اقترب، فوجد بين الصخور فتحة ضيقة. زحف عبرها، وخرج إلى غرفة مظلمة، يتوسطها كتاب ضخم على حامل خشبي، وحوله تماثيل حجرية صغيرة منحوتة في الأرض.

تقدم ببطء، أضاء الشعلة، واقترب من الكتاب. كان مفتوحًا، والحروف واضحة تحت ضوء القمر. مكتوب بلغات كثيرة... ثم وجد صفحات بالعربية.

اتسعت عيناه.

فتح تلك الصفحات وبدأ يقرأ.

" في إحدى الغابات العميقة، المظلمة بأشجارها الكثيفة، والتي لا يخترقها الضوء إلا بصعوبة، كانت الأصوات الغريبة للطيور والسناجب تملأ المكان، وعلى جذع شجرة ضخمة ملقاة، جلس الراينو الصغير—كائن هجين، نصفه بشري ونصفه من سلالة سحرية قديمة —بجانب ساحرة عجوز، ذات شعر أبيض كثيف وعينين تلمعان بحكمة السنين.

كانا يتبادلان الأحاديث، الصبي ينصت، والعجوز تحكي... وفجأة، سأل الراينو:

"جدتي... ماذا حدث للعالم القديم؟ سمعتُ عن حرب عظيمة و... عن الممرات؟"

تغيرت ملامح العجوز. حدّقت فيه بعينين يكسوهما القلق، ثم سألت:

"ومن أخبرك بذلك؟"

قال الصبي بثقة:

"قرأت عنه في كتاب قديم."

هدأت العجوز، وأجابت بصوت منخفض:

"كنت أخشى أن يأتي هذا اليوم... ما قرأته صحيح، ولكن ليست كل الحقائق مذكورة في الكتب يا صغيري."

ثم أخذت نفسًا عميقًا وبدأت الحديث:

"منذ آلاف السنين، كان عالمنا—آيدان—عامرًا بالحياة، تعيش فيه الكائنات السحرية والسحرة والبشر جنبًا إلى جنب، نبني، نزرع، ونتشارك هذا الكوكب العظيم.

لكن... حدث ما لم يكن في الحسبان.

اندلعت حرب شعواء بين ساحرين من أقوى الكائنات التي عرفها آيدان، كانا يملكان قوى لم يعلم احد من اين حصلوا عليها، لكن ما كان الجميع يعلمه ان قواهما كافية لمحو كواكب ، كلاهما أراد الحكم المطلق، أراد أن يجعل من العالم مملكته وحده، وكان كل منهما يرى نفسه الأحق.

اشتعل القتال بينهما لأشهر طويلة، وكلما استمرت الحرب كلما زادت قوى الساحرين وكأن قواهما تزيد بزيادة الضحايا. كان كل يوم يمر يُسقط فيه آلاف الضحايا. لم ينجُ من الحرب أحد، لا بشر، ولا سحرة، ولا مخلوقات. الأشجار احترقت، الأنهار جفّت، والسماء اسودّت من السحر المتصادم.

كلا الساحرين كان يرى أنه ينقذ العالم... لكن لم يدرك أي منهما أن قتالهما كان يدمر كل شيء.

وفي النهاية، لم ينتصر أحد.

احترقا معًا. فني كلاهما، وبقيت الأرض خاوية، تحكي رمادها قصة الغرور."

صمتت العجوز قليلاً ثم تابعت:

"بعد هذه الحرب، أدرك كبار السحرة أن البشر كانوا الحلقة الأضعف. لا يستطيعون مجاراة السحر، ولا الدفاع عن أنفسهم، وكان وجودهم مهددًا بالانقراض.

فاجتمع حكماء السحرة، واتخذوا القرار الأصعب:

يجب أن نُنقذ البشر… بنفيهم!

بدأ البحث عن كوكب بديل، بعيد عن السحر، آمن، خالٍ من القوى المتصارعة. وبعد بحوث طويلة وتجارب مكثفة، وقع الاختيار على كوكب قديم، يُدعى 'الأرض'.

كوكب يسكنه البشر منذ زمن بعيد، لا يحتوي على أي ذرة من السحر. مكان يمكن أن ينعم فيه الإنسان بالحياة، دون أن يخاف من أن يُسحق في حرب بين الكيانات.

فاجتمع ملوك البشر، ووافقوا على الرحيل... بشرط.

طلبوا أن يُنشئ السحرة 'ممرات كونية' تصل بين آيدان والأرض، ليتمكنوا من التواصل ونقل علومهم وأشيائهم عند الحاجة. وافق السحرة، رغم أن تعويذة الممرات من أعقد ما وُجد في كتب السحر، ولا يستطيع تنفيذها سوى قلة نادرة.

وبعد جهد مرهق، وقرابين من طاقة السحرة، شُيّدت الممرات.

لكن ما لم يكن في الحسبان... أن كوكب الأرض نفسه، حين احتواه البشر، وُضع عليه أقوى تعويذة سوداء عُرفت في التاريخ:

لعنة الأرض.

تعويذة زرعت في نسيج الكوكب، تمنع مرور أي كائن سحري إليه.

ولم تكن لعنة عادية...

بل لُعنة تُفني الكائنات السحرية بمجرد اقترابها من الممرات. لا يمكن تحطيمها، لا يمكن تجاوزها، حتى أعظم الكيانات—بل حتى بقايا الساحرين اللذين خاضا الحرب—لم يستطيعوا الاقتراب منها.

سأل الراينو الصغير:

"وهل مازالت تلك الممرات موجودة؟"

ابتسمت العجوز بأسى:

"نعم، مازالت. منتشرة في أماكن كثيرة على كوكب آيدان... بل وحتى على الأرض.

لكنها اليوم... منسية.

بعد انتهاء الحرب، لم يعد من الضروري ترحيل كل البشر. فاختارت فئة منهم البقاء في آيدان، بينما غادرت مجموعات أخرى إلى الأرض.

مرّت السنين...

وخفّت الزيارات، ثم اختفت، ثم أصبحت مجرد أساطير، تروى قبل النوم، وأي أحد يذكرها يُلقب بالمجنون أو الأحمق.

حتى نسي البشر كل شيء عن آيدان... وظنوا أن الأرض وحدها هي موطنهم."

"لكن… من يحرس الممرات الآن؟" سأل الراينو بفضول.

نظرت إليه العجوز نظرة طويلة وقالت:

"الراينو.

أنتم من تحرسونها.

أنتم الكائنات الوحيدة التي تستطيع الاقتراب منها دون أن تفنيها اللعنة، لأن دمكم يحمل سلالة البشر، وسلالة السحرة معاً. لكن... احذر.

فإن عبر أحد الراينو إلى الأرض، يفقد قدراته السحرية بالكامل، ولا تعود إلا بعد رجوعه إلى آيدان… ولكنها تعود ناقصة بشيء بسيط .

وكل مرة يعبر فيها، تضعف أكثر. حتى تنتهي الطاقة السحرية بالكامل

لهذا لا يستخدم الراينو الممرات، بل يكتفون بحراستها… وتحذير الآخرين من الاقتراب.

فأي كائن سحري... مهما بلغت قوته... إن اقترب من الممرات، فسيهلكه السحر الأسود بلا رحمة."

وضعت يدها على كتف الراينو الصغير وقالت:

"وأنت، يا صغيري... من الراينو.

وقدرك أن تصبح حارسًا لأحد هذه الممرات...

يوماً ما، قد يتغير كل شيء، لكن حتى ذلك الحين...

ابقَ يقظًا، فالممرات... لا تنام."

"

انهى نوح قرائة الصفحات المكتوبة بالعربية وكان غير مصدق لأي شيئ قد قرأه، كان يؤمن انها أسطورة من اساطير الحضارات القديمة، ولكنه كان لا يفهم بعد، كيف إستطاع الأنباط الكتابة بالعربية...؟! ، ومن هو لايارد كارتر..؟! وهل آيدان موجود حقاً ام مجرد خرافات؟  وإن كان خرافات فلمذا يحلم به كل عام؟

لكنه اوقف تفكيره مؤقتاً، ونظر إلى القمر عبر الشقوق. كان في كبد السماء.

"حان وقت الرحيل ."

أطفأ الشعلة، وأخذ الكتاب، وبدأ طريق العودة.

زحف عبر الفتحة، ثم عاد إلى الممر، مرورًا بجثة لايارد، ثم زحف مجددًا في النفق الضيق. ألمه أشد، جراحه مفتوحة، لكنه كان أقوى من أي وقت مضى.

وصل إلى النهاية، تنفّس بعمق، خرج إلى ضوء القمر.

كان جسده مثقلاً بالجراح، لكن قلبه ممتلئ بالإجابات... والأسئلة.

جلس بجانب الجمل، أشعل نارًا، ونام وهو يعانق الكتاب، وعيناه لا تزالان تفكران في ذلك الاسم:

لايارد كارتر.

نظر نوح للسماء، فور استيقاظه. فوجد الشمس في وسطها، فعلم ان هذا الوقت هو الوقت المناسب للرحيل من هذا المكان الكئيب، لأن الطعام والماء بدأ ينفذ منه وبالكاد يكفيه لطريق العودة. ووعد نفسه انه سيعود مره أخرى ليستكشف عين بالكامل

~ يُتـــــــــــــــــــبَع

ــــــــ.ــــــــ.ـــــــــــ.ــــــــــ.ــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــ

ما رأيك في الفصل، عزيزي القارئ 🙂🌹

وما هي توقعاتك للأحداث القادمة...!!؟🔥🫢

من هو لاياراد كارتر..!!؟ ولماذا انتحر برأيكم... ؟!! ❓

وكيف استطاع الأنباط الكتابة بالعربية...؟!! ❓

اعلموني بآرائكم واقتراحاتكم...... 🫡💜

وبالطبع اشكرك لوصولك لهذا الجزء 💚🌺

وتأكد دائماً عزيزي القارئ ان القادم افضل بإذن الله 🔥🫡

في الواقع لا توجد خاتمة...... فلكل نهاية امتداد يبدأ به كل شيئ...... 🥹💝✨

أراك لاحـــــقاً عـزيــزي القــــــــــارئ 🫶🏻👋🏽

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon