شكر نوح بدر بكلمات مقتضبة وهو يدخل خيمته، يحني رأسه كمن يحاول الفرار من ثقل العالم. وضع حقيبته بجانبه وألقى بجسده على الفراش الصوفي، كأنما استسلم أخيرًا لهذا التعب المتراكم منذ زمن بعيد، ليس فقط من الطريق... بل من كل شيء.
لكن النوم جافاه.
لم يكن السبب مجرد برد الصحراء القارس، الذي تسلل إلى عظامه كأصابع خفية، بل لأن عقله ظل يردد ذات السؤال: هل أنا وحدي؟
تقلّب على فراشه، محاولًا تجاهل تلك الرجفة التي جمّدت أطرافه، لكنها لم تكن من البرد فقط، بل من خواءٍ داخلي. وبعد ترددٍ طويل، نهض واقفًا، وسحب باب الخيمة ببطء.
هبّت نسائم الليل الجافة على وجهه. أمامه، تمددت الخيام كأنها زهور خجولة نبتت وسط الرمال، تضيئها نار بعيدة تتراقص ألسنتها كما لو كانت تهمس بنداء خفي.
كان يكره الجلوس مع الغرباء. يهرب من نظرات البشر ومن أسئلتهم الفضولية. ومع ذلك، شعر بحاجة غريبة... نار واحدة قد تمنحه بعض الدفء، أو على الأقل، تُشعره أنه لا يذوب وحده في هذا الصقيع.
اقترب بتردد. وجد رجلًا يجلس بجانب النار، رأسه مدفون بين كفيه، كأنه يحاول حجب نفسه عن الوجود.
تردد نوح للحظة، تراجع خطوة، ثم قال بصوت مرتجف:
"هل أستطيع الانضمام إليك؟"
رفع الرجل رأسه ببطء. عينان باهتتان، نظرة خالية من أي رد فعل. أومأ دون أن ينطق. جلس نوح بصمت، يحاول ألا يبدو غريبًا أو ثقيلًا، مد يديه نحو النار، وأحس بحرارتها تذيب شيئًا في داخله.
حاول فتح حديث، جملة أو اثنتين، فقط ليُظهر أنه ليس شبحًا صامتًا. لكن الرجل لم يرد. كانت نظراته غارقة في مكان بعيد، كأنه فقد أحد أحبائه للتو. أحس نوح بثقل وجوده، فقام بهدوء وقال بصوت منخفض:
"أرجو أن تجد السلام."
عاد أدراجه إلى الخيمة، شعر فجأة أن الوحدة أكثر راحة من صحبة غارقة في الحزن.
استيقظ بعد ظهر اليوم التالي، والشمس قد تخطّت منتصف السماء. خرج من خيمته متثاقلاً، كأن جسده ما زال يرفض تصديق أنه نام أخيرًا. توجه للبحث عن الحاج خليل ليسأله عن سيارته. بعد عدة أسئلة من بعض رجال القبيلة، دلّه أحدهم على خيمة يجتمع فيها الشباب حول شيخ يرمقهم بعين الخبير.
كانت خيمة كبيرة، تعجّ بأصوات الشعر والمنافسات، كلمات تتطاير في الهواء كنصالٍ ناعمة، تصف الأرض والكرامة والعشق والخسارات. جلس نوح بهدوء قرب باب الخيمة، عيناه تنصتان بانبهار رغم أنه لا يظهر شيئًا. تلك الأشعار بدت كأنها تُترجم له ما فشل طيلة حياته في التعبير عنه.
بعد انتهاء المسابقة، أعلن الحاج خليل الفائز، وخرج الشبان واحدًا تلو الآخر. فدخل نوح، وألقى التحية ثم قال:
"هل أستطيع أخذ سيارتي؟ أريد متابعة طريقي إلى مدينة عين."
نظر إليه خليل للحظة، ثم هزّ رأسه وقال:
"تعال معي."
سارا معًا حتى وصلا إلى السيارة. وقبل أن يمد نوح يده إلى الباب، وضع خليل كفه على ذراعه.
"توقف."
التفت نوح بدهشة، "هل فعلت شيئًا خاطئًا؟"
هزّ خليل رأسه.
"لا... لكنك ترتكب خطأً كبيرًا الآن. سيارتك هذه ليست لطرق الصحراء، لا عجلاتها ولا محركها يتحمّلان. ستعلق في الرمال بعد ساعة. وإن لم تعلق، فهناك قطاع طرق، لن ترحمك وحدتك."
سكت لحظة، ثم أضاف بنبرة جادة:
"لن تدرك كم يمكن أن تكون الصحراء قاسية إلا حين تقف وحيدًا وسطها... وتدرك أن لا أحد قادم."
نظر إليه نوح لحظة ثم قال:
"ما العمل إذن؟"
ابتسم خليل لأول مرة منذ لقائهما.
"ستأخذ أحد أقوى جمالي. وستعود لتأخذ سيارتك بعد عودتك سالمًا. أما الخريطة... فستكون دليلك."
اختار خليل جملاً أسود اللون، شامخ القامة، بعينين ذكيتين تلمعان كأنه يعرف وجهته مسبقًا. بدا كمحارب نبيل، فتن نوح بجماله.
وقبل أن يقوده، أوقفه خليل من جديد.
قال نوح مازحًا: "لا تقل إنك ندمت على إعطائي الجمل."
ضحك خليل وقال:
"نسيت شيئًا أغلى من الجمل... الخريطة!"
أخرج ورقة قديمة، متهالكة، كأنها تنتمي لقرن مضى. استلمها نوح بشغف، وشعر بملمسها الخشن كما لو كان جلدًا جافًا، وشم رائحة الوقت والضياع منها. شيء في داخله قال إن هذه الورقة ستحمله إلى قدره.
جهّز الطعام والماء، وذهب إلى "بشير" حيث اشترى خيمة صغيرة. صعد على الجمل، وبدأ رحلته إلى المجهول.
امتدّ الطريق أمامه كسراب، والشمس تصفع جسده من الأعلى. مرّت ساعات وهو يمشي، الرمال تدخل حذاءه، العرق يتصبب من جبينه، لكنه لم يتوقف. عيناه تتفحصان الأفق بلا توقف، كأنه يبحث عن شبح حلمٍ ظل يطارده لسنوات.
ثم لمحها. شجرة وحيدة، وارفة الظلال، تقف كمعجزة وسط الصحراء.
اقترب منها، وجلس تحتها، شرب من قربته وأغمض عينيه، ثم نهض مجددًا، بقلب أكثر إصرارًا.
مع غروب الشمس، بدا له شيء غريب في الأفق. اقترب ببطء، حتى اتّضح الشكل: عمود حجري ضخم، يبرز من قلب الأرض. نقوشه... كانت مألوفة!
مدّ يده عليه، أزال الرمال، وظهرت الرموز التي رآها من قبل. لم يكن حلمًا. لم يكن وهمًا.
عين... كانت حقيقية.
ارتجف قلبه وهو ينظر إلى الأفق، وتابع السير حتى ظهرت المدينة أمامه فجأة، كأنها انبثقت من العدم.
مبانيها نصفها مدفون في الرمال، جدرانها متآكلة، وأعمدتها تصارع الوقت، لكنها كانت تنطق بعظمة. مدينة مهجورة، لكن أنفاسها القديمة ما زالت تنبض في الهواء.
وقف نوح عند مدخلها، لا يصدق ما يراه.
"كنت على حق... لم أكن مجنونًا... لم أكن وحدي."
لم يتمالك دموعه. ليس لأنه وجد المدينة، بل لأنه وجد نفسه.
لكن الظلام بدأ يسدل ستائره، فتذكر تحذير خليل من الذئاب. نصب خيمته، أشعل نارًا صغيرة، وقيّد جمله، ثم جلس داخل خيمته.
ولأول مرة منذ أيام، شعر بشيء يشبه السلام.
لكن هذا السلام لم يدم.
صرخة... عنيفة... مدوية، شقّت ليل الصحراء.
قفز نوح من مكانه، خرج من الخيمة، وقلبه يخفق كطبول الحرب.
تجمّد في مكانه.
جمله يصرخ بجنون، يتلوّى ويجذب الحبل، وعيناه تتسعان كأنهما رأت كابوسًا.
ثم رأى نوح ما لم يكن مستعدًا لرؤيته.
شيء ما... يتحرك هناك، خلف الجمل، في الظلال.
صوت... أنفاس ثقيلة، مخالب تخدش الرمال، وعيون... تتوهج في الظلام.
اقترب شيء من الجمل.
نوح لم يستطع الحركة.
وكانت هذه... بداية الليل الذي لا يُنسى.
~يُــــــــــــــــــتـبَـع
ــــــــ.ــــــــ.ـــــــــــ.ــــــــــ.ــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــ
كان هذا الفصل قصيراً، وانا اعتذر عن ذلك 🫡
اتمنى ان ينال اعجابكم، سأنتظر آرائكم 🥹🔥
اعدكم ان الفصل القادم سيكون طويلاً ومليئاً بالأحداث 🫢💥
وبالطبع سأنتظر رأيك يا عزيزي القارئ 💜✨
وفي النهاية اقول لك:
تأكد ان القادم افضل بإذن الله ❤️🔥💕
أراك لاحـــــقاً عـزيــزي القــــــــــارئ 🫶🏻👋🏽
Comments