أزال نوح الخيمة الصغيرة وطواها بعناية، ثم ربطها مع الأمتعة على ظهر جمله الأسود، وانطلق من جديد فوق الرمال الحارقة، عائدًا من مدينة "عين"، متجهًا نحو الغرب، بلا خريطة ولا دليل. الشمس كانت قاسية، تسكب جحيمها على الأرض، ورمال الصحراء تمتد بلا نهاية، كأنها تحاول ابتلاع خطواته.
كان التعب يسري في عظامه، حتى لمح ظلًا في الأفق... شجرة وحيدة تقف صامدة وسط هذا الموت الذهبي. ضحك بمرارة، فقد كانت نفس الشجرة التي استراح تحتها من قبل، عندما عبر هذا الطريق في الاتجاه المعاكس. تلك المرة، كان يتبع الحلم... أما الآن، فهو يعود وفي داخله ألف سؤال.
جلس تحت ظلها المهترئ، أغمض عينيه لحظة، وتنفس الهواء الحار ببطء. لكنه لم يلبث أن قام، فالصحراء لا تُمهل أحدًا.
ومع مرور الوقت، ارتفعت الشمس أكثر، وتحوّل العرق على جبينه إلى لهيب. فجأة، في الأفق المتماوج بالحرارة، ظهرت خيول تقترب بسرعة. حدّق فيها بقلق. في البداية ظنّهم صيادين، لكن شيئًا ما في طريقة تقدمهم، في وجوههم المغطاة، أيقظ فيه شعورًا خبيثًا.
"قطاع طرق..." همس لنفسه، يده تتجه ببطء نحو السلاح الذي حصل عليه من المعبد. ترددت فكرة إطلاق النار في رأسه، لكنه تذكر كلمات الحاج خليل عنهم: جبناء يفرّون عند أول ذكر للجمال التابعة للقبيلة.
اقتربت الخيول، وظهر منهم عشرة رجال، أشبه بأشباح الرمال. أجساد ضخمة، وملابس ممزقة، وأعين كالجمر تلمع خلف لثام أسود. الأسلحة على أكتافهم كانت ثقيلة، لكن قلوبهم، كما بدا، كانت أضعف من الرمال نفسها.
توقفوا فجأة عند رؤية الجمل الأسود، وبدت على وجوههم علامات الحذر. ترجل أحدهم، الأضخم، وتقدّم نحو نوح بخطى مترددة. كان القائد، ويداه تضغطان على مقبض بندقيته كأنها تحميه لا تهدده.
"لمن هذا الجمل؟" سأل، ونبرة صوته مليئة بالشك.
رد نوح، بثقة لا يملكها تمامًا:
"من جمال الحاج خليل... أي خدش عليه، وسيلاحقكم رجال القبيلة حتى آخر حفنة رمل."
شحب وجه الرجل، وانكمشت ملامحه خلف اللثام. تراجع خطوة، ثم قال بصوت منكسر:
"لم نكن نعلم، أقسم أننا لم نكن نعلم... أرجوك، لا تخبره، لدينا أطفال نعيش من أجلهم!"
وافق نوح، بعد أن شعر بالخوف في أعينهم، بشرط أن يرشده أحدهم إلى طريق القبيلة. فوافقوا، لكنهم توقفوا على بعد مسافة، رافضين الاقتراب أكثر.
"من هنا، بعد الكثبان الثلاثة، ستراهم. إن اقتربنا أكثر، لن يتركونا نعيش"، قال القائد.
شكرهم نوح، لكنه لم يُخفِ احتقاره، ثم واصل المسير وحده، والشمس تودّع الأفق، تاركة وراءها ظلالًا قاتمة وسكونًا مخيفًا. وعندما بدأت نيران البدو تلمع في الأفق، أسرع نوح بجمله نحوها، حتى بدت ملامح المخيم واضحة.
استُقبل نوح مجددًا بابتسامة، ووجوه ترحّب به كما لو كان واحدًا منهم. جاء الحاج خليل، صافحه بحرارة، واستعاد جمله قائلاً:
"عاد بك سالمًا، يا ولدي... هذا يعني أنك كنت رجلًا صالحًا."
ذهب نوح بعدها إلى خيمته، واستلقى قليلًا، ليمنح جسده استراحةً طال انتظارها.
لكن الليل... لم يكن كريمًا بالسكينة.
استفاق نوح على برد الليل، خرج من الخيمة، يتنفس الصمت. المخيم نائم، إلا من نيران خافتة تتراقص كأرواح ضائعة. وبين الخيام، سمع أنينًا ضعيفًا، أنينًا يشق السكون كجرح لم يندمل.
اقترب ببطء... كان هو. نفس الرجل الذي رآه في المرة الأولى. يجلس وحيدًا قرب الشعلة، كأنها كل ما بقي له من حياة.
اقترب نوح وجلس بجانبه. لم يكن يريد أن يسكت هذه المرة.
"انا نوح، اتمنى انني لم ازعجك. "
كانت الليلة ساكنة كما لو أن العالم توقف عن الدوران، والنجوم نثرت نفسها على صفحة السماء كما تنثر الأرواح الحائرة دموعها. لم يرد الرجل عليه،بل اكتفى بهز رأسه وكأنه يعرفه بالفعل. جلس نوح إلى جوار النار المشتعلة، والنار ترقص ببطء أمامه كأنها تهمس بأسرارٍ دفينة. على الطرف الآخر، جلس الرجل ، ينظر إلى اللهب، لا كأنه يراه، بل كأنه ينظر من خلاله إلى زمن بعيد... زمنٍ مات فيه كل شيء، إلا الندم.
قال بصوت خافت، كأنه ينتزع الكلمات من جرح لم يُشفَ:
"أتعلم، يا نوح... كنت أملك كل شيء. امرأة أحببتها حتى آخر حدود القلب، وطفل رأيت فيه روحي تمشي على الأرض. ثم... ثم أخذتهم الحياة مني في غمضة عين."
كان صوته هشًا كأنفاس عجوز يحتضر. نظر نحو اللهب من جديد، وقال:
"أنا والد بدر... ربما قابلته، وربما رأيت ابتسامته التي أخذت من أمه جمالها. أما أنا، فأصبحت مجرد ظلٍ محترق يجلس كل ليلة قرب نارٍ لا تُدفئ."
صمت. الهواء كان بارداً، لكن وجهه كان يتصبب عرقًا. كانت ذاكرته تتقاتل مع حنجرته.
"منذ سبع سنوات، قررت أن أُعلِّم بدر الصيد. كان صغيرًا... بريئًا... بعينين تلمعان كأنهما لا تعرفان أن هذا العالم يعضّ من يحبك أكثر. زوجتي توسّلت إليّ ألا آخذه... قالت إنها تشعر بشيء، شيء غريب، لكنني كنت أحمقًا، ظننتُ أنها مبالغة أمٍّ خائفة."
ابتلع ريقه بمرارة، ثم تابع:
"ذهبنا ثلاثتنا. كنت أظنها رحلة قصيرة، يومًا جميلًا في الطبيعة. لكن الذئب... الذئب كان هناك. لم أره، لم أسمعه، لم أتوقعه. كان يراقب، ينتظر فقط تلك اللحظة... اللحظة التي غفلت فيها عن ابني."
عيناه تحجرتا، وصوته انكسر:
"قفز الذئب فجأة. رأيته يتجه نحو بدر. أردت أن أركض، أن أصرخ، أن أطلق النار... لكن زوجتي كانت أسرع. ألقت نفسها أمامه، كأنها وُجدت فقط لتفديه. الذئب انقض على عنقها... أطلقت النار وقتلت الوحش... لكن بعد فوات الأوان."
رفع رأسه إلى السماء، وكأن النجوم تعرف القصة:
"كانت تنزف بين يدي... لا تبكي، لا تصرخ، فقط تنظر إليَّ وتهمس: اعتنِ به... لا تتركه... ثم رحلت. رحلت وهي تبتسم، كأنها مرتاحة... وأنا؟ أنا متُّ معها، وبقي مني هذا الجسد المكسور فقط."
نوح كان يحدق فيه، فاغر الفم، والدموع تتجمّع خلف عينيه.
قال الرجل بصوتٍ أشبه بالنحيب:
"منذ ذلك اليوم، أجلس هنا كل ليلة. لا أستطيع أن أدخل الخيمة، فهي كانت تنام هناك. لا أستطيع أن أنام، فكلما أغمضت عيني، أراها تموت من جديد. أراها تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأسمع وصيتها تتردد بداخلي. لكنّي... خنتها، نوح. لم أحمِها. تركتها تموت أمامي، وأنا الأبله الذي كان يشرح لبدر كيف يُصوِّب السهم."
صمت، ثم تمتم:
"أنا لا أستحق أن أكون بين الناس. النار وحدها تطيقني، لأنها لا تحكم، لا تسأل، فقط تحترق بصمت."
مرّت لحظة ثقيلة، ثقيلة بما يكفي لتكسر صدر نوح. وعندما أراد أن يتكلم، لم يخرج صوته إلا بعد أن خنقته الذكرى.
"أفهمك، أفهمك يا سيدي..." قال نوح بصوت مبحوح.
"فقدت أمي وأنا في السابعة. كنتُ طفلًا، عاجزًا، أشاهد الموت يأخذها ولا أملك سوى البكاء. لم أكن أفهم معنى الحياة أو الفقد، لكنني شعرت بأن العالم الذي أعرفه قد تحطم. ماتت أمي، الطبيب قالها بجفاء: (انتهى الأمر... من سيدفع؟)."
ارتعشت يده وهو يتابع:
"ماتت بسبب طبيب لا يرى فينا سوى أوراق نقد. أغلق عينيها، وأغلق عالمي معها. بعدها جاء عمي... الرجل الذي اعتقدت أنه عوضٌ عن والدي، فإذا به ذلٌّ متواصل. كنت أعيش بينهم كمتسوّل. يلقون لي الفتات وكأنني كلبهم الوفي."
"كنت أنام على الأرض، أتحمّل الجوع، الشتاء، الوحدة. حتى بلغت الثامنة عشرة، أرسلني بعيدًا، كأنني وصمة. قال لي: (لا أريد رؤية وجهك مجددًا)، ثم ألقى حقيبتي في الشارع."
نوح خفض رأسه، وكأن الألم ثقيل على عنقه:
"كنت وحيدًا في مدينة غريبة، لا أعرف أحدًا، أواجه الحياة بسكين الذكريات... لكنني وقفت. عملت، تعبت، ونجحت، وها أنا الآن. ليس لدي أصدقاء، لا عائلة، لا من يعتني بي إن مرضت، أو من يودعني إن متُّ."
رفع نظره إلى الرجل الذي جلس كتمثالٍ مكسور، وقال:
"لكن رغم كل شيء، لم أمت. لم أفقد إنسانيتي. وما دمتَ تبكي على من رحلت، فأنتَ لم تمت أيضًا، يا والد بدر. ربما فقدنا من نحب، لكنهم ما زالوا يعيشون فينا، في ذاكرتنا، في ما تبقى من أرواحنا."
لمعت دمعة في عين الرجل لأول مرة دون حزن... كانت امتنانًا.
قال نوح برقة:
"أنت لم تكن سبب موتها. لقد أنقذت ابنكما، وهي اختارت أن تفديه... ذلك ليس فشلاً، بل بطولةٌ صامتة."
وقف نوح بعدها، وربت على كتف الرجل، ثم همس:
"سامح نفسك، قبل أن تحترق أنت أيضًا."
ومضى في صمت الليل، عائدًا إلى خيمته، يجر وراءه سكونًا ممتزجًا بحزن عميق. أما الرجل، فقد بقي جالسًا أمام النار، لكنها لم تعد بنفس القسوة، وكأن كلمات نوح أطفأت شيئًا من جمره.
وفي صباح اليوم التالي، ودع نوح الحاج خليل ووالد بدر، الذي كان وجهه أكثر إشراقًا من الليلة الماضية.
ركب سيارته القديمة، وبرفقته أحد الصيادين، حتى أوصله إلى الطريق الرئيسي. وبعد رحلة طويلة، وأميال من التعب، وصل نوح أخيرًا إلى استراحة السيد سامح.
أعاده سامح بابتسامة، واستعاد سيارته، ثم دلّه على محطة الحافلات. ساعات طويلة مرت، ما بين الانتظار والتنقل، قبل أن يقف نوح أمام منزله النائي، يملأه الصمت بعد الرحلة.
لكن هذه المرة، لم يكن نوح نفسه.
كانت عيناه مشتعلة...
بل لأجل الحقيقة.
وقرر:
أن يذهب فورًا إلى السيد ماجد،
ولكن ليس قبل أن يعرف من هو...
لايارد كارتر.
~يُــــــــــــــتــــــــــبَع
ــــــــ.ــــــــ.ـــــــــــ.ــــــــــ.ــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــ
أهلا بك عزيزي القارئ 🫡❤
حاولت ان يكون هذا الفصل تعريفا اكثر لشخصية نوح، والمعاناة التي عاشها 😔💔
ما رأيك في الفصل عزيزي القارئ 🥹💕
وما توقعاتك للأحداث القادمة 🔥💜
وأعتذر اذا كان الفصل ليس بالمستوى المطلوب 😄🤦🏻♂️
وتأكد دائما عزيزي القارئ ان القادم افضل بإذن الله 🔥🫡
أراك لاحـــــقاً عـزيــزي القــــــــــارئ 🫶🏻👋🏽
Comments