عاد نوح إلى منزله متعبًا، مثقلًا بأحداث رحلته الطويلة التي تركت بصماتها على جسده وروحه. لم يكن العناء جسديًا فحسب، بل كان شعورًا بالتيه، وكأن روحه عادت محملةً بأسئلة أكثر مما وجدت من أجوبة. فتح باب منزله ببطء، كان الصمت يستقبله مثل صديق قديم، وجدران الغرفة المغبرة بدت له وكأنها تشيخ معه.
رائحة الخشب القديم والأوراق المكدسة اختلطت بنفَسه المتقطع، كأن المنزل تنفّس الصعداء لعودته. لم يُشعل الضوء، بل سار نحو غرفته بخطى ثقيلة، وفتح الباب كما لو كان يكشف قبرًا دفن فيه جزءًا منه. ألقى حقيبته على الأرض، واستلقى على سريره وكأن الأرض جذَبته نحوها، كأن الجاذبية أصبحت أقوى عليه وحده، ثم أغلق عينيه ببطء، وترك نفسه يغوص في صمت دامس.
لكنه لم ينم فورًا. ظل ذهنه مشغولًا باسمٍ واحدٍ فقط: لايارد كارتر. هذا العالِم الغريب الذي بدا وكأنه مفتاحٌ لأسرار أعمق من أن تُفهم. من هو؟ ولماذا قتل نفسه ؟ ولماذا أحسّ وكأنه يعرفه منذ زمنٍ لا يتذكره؟ كان كل شيء في تلك الرحلة يدفعه للبحث أكثر، والغوص في ماضٍ لم يختر أن يتجاهله، بل لم يُمنح حتى فرصة نسيانه.
وما إن أرخى جفنيه، حتى سُحب نحو حلم ... لكن هذه المرة، لم يكن مجرد حلم.
وجد نفسه وسط مدينة أثرية، نعم كانت عين . الرمال تتلألأ تحت قمر منير خلف سُحب رمادية ثقيلة، والهواء مشبع برائحة غريبة كأنها مزيج من الرماد والزئبق. كان طفلًا رضيعًا، لا يملك من قوته شيئًا، محمولًا بين ذراعي امرأة لم يكن عليه أن يجهلها: أمه.
كانت تسير وسط تلك الصحراء بخطى حذرة، وعلى وجهها ملامح خوف مختلط بإصرار، بينما إلى جانبها كائن غريب الشكل. لم يكن آدميًا تمامًا، ولم يكن وحشًا أيضًا. ملامحه مبهمة، وجهه أزرق داكن كلون السماء قبل العاصفة، عيناه السوداوان الواسعتان تلمعان كما لو أنها تعكس كوكبًا بعيدًا.
لم يتحدث، ولم تصدر منه أي حركة تهدد، لكنه كان يبثّ رهبة في الهواء، ومع ذلك، كانت أمه تتحدث إليه كما لو أنه صديق قديم. همساتها كانت مشوشة، كلمات عن "هرب" و"إنقاذ" و"الخطر القادم"، وكلها كلمات لن يدرك معناها إلا لاحقًا، لكنها بقيت محفورة في ذهنه كندبة لا تزول.
سار الثلاثة في صمت. كان نوح يرى كل شيء من جسد الرضيع، لكنه يشعر وكأن روحه تشاهد من الخارج، كأنه حاضر وغائب في آن. عبروا أنفاقًا مهدّمة، نقوشًا على الجدران تتوهج أحيانًا حين تمر أمه بجانبها. رموز تشبه الأبجدية ولكنها... أقدم، أعمق، تشعرك بأنها ليست للقراءة، بل للفهم بالحس.
وفجأة، شقّ سكون الرمال عواء ذئب، تبعه صوت طلق ناري من بعيد. تجمدت الأم في مكانها، احتضنت نوح بشدة، وركضت نحو مبنى متهدم على مقربة، بينما انفصل الكائن الغريب عنهما واتجه نحو مصدر الصوت، كما لو كان يتوقعه.
داخل المبنى، جلسوا في زاوية مظلمة، أنفاس الأم متسارعة، وعيناها تراقبان الباب دون أن ترمشا. مرت دقائق أو ساعات، لا يعلم نوح، لكن فجأة دخل رجلان. أحدهما بدا مألوفًا رغم أنه كان أصغر سنًا بكثير، شعره أسود مموج ووجهه مشوب بقلق قديم: إنه خليل. أما الآخر فكان أكثر غرابة. وجهه شاحب كأن الحياة تركته، عيناه غائمتان، وكان يتكئ على خليل كمن أنهكته الطقوس لا الأيام.
نظر الرجل الشاحب إلى الأم، ثم إلى نوح، وتمتم بصوت خافت، متقطع، لكن كلماته كانت كافية لتخترق الصمت:
"سامحيني يا سيدتي... لقد وعدتُ أن أُضحي من أجل أيدان، وأن اخدمك حتى آخر رمق ..."
وهنا، عرف نوح من دون أدنى شك... هذا هو لايارد كارتر.
رفع لايارد كارتر يده بصعوبة، وكأن الهواء من حوله يقاوم حركته، وبدأ يرسم دوائر في الفراغ بأصابعه النحيلة. شعرت الأم بشيء يتغيّر، الهواء من حولهم أصبح أثقل، والجدران بدأت ترتجف بهدوء، كما لو أن تعويذة قديمة استُدعيت من رحم الزمن.
"توقف، لايارد!" صاحت الأم، ونبرتها كانت تمزج بين الرجاء والرعب. "ستقتل نفسك!"
لكنه لم يجب. كان عقله في مكانٍ آخر. كان يُتمّ الطقس، كمن يسلّم شيئًا من ذاته إلى العالم. ووسط تلك اللحظة المشحونة، حدث ما لم يكن في الحسبان: انبعث من فم الأم صوت بلغةٍ لم تكن تتقنها من قبل... لغة خليل.
لقد فهمت كلماته. ونوح، الذي كان لا يزال رضيعًا، شعر بتغيرٍ ما في روحه، وكأن أبوابًا فُتحت داخله لم تكن تعلم بوجودها. خليل، وقد بدا مذهولًا، اقترب من لايارد محاولًا إيقافه، لكن لايارد أنهى تعويذته فجأة. استدار نحوهم ببطء، نظر للأم، ثم لنوح، وأخيرًا إلى خليل. لم يقل شيئًا. فقط تلاشى بين الظلال، كما لو أن وجوده لم يكن إلا وهماً.
ظلّت الأم صامتة للحظة، تنظر إلى الفراغ الذي اختفى فيه، قبل أن تهمس بصوت متكسر:
"نحن في خطر... خذنا من هنا، أرجوك..."
وافق خليل دون تردد. حمل الأم ورضيعها، وغادر المدينة القديمة. ولكن حين استداروا، سمعوا من خلفهم صوت طلق ناري قوي، وحين التفتوا، لم يكن هناك شيء سوى صدى الريح. دمعة واحدة سقطت من عين الأم، سالت على خد نوح الرضيع، وارتجف قلبه الصغير دون أن يفهم لماذا... لكنه شعر بفقدان، بفجيعة لم يُفسّرها إلا بعد سنوات.
استيقظ نوح مفزوعًا. قلبه ينبض بقوة، وعيناه تجولان في غرفته التي بدت فجأة غريبة عنه. جلس في السرير، محاولًا التقاط أنفاسه، ثم مرّر يده على وجهه كأنه يحاول محو الحلم من عقله. لكن الحلم لم يكن مجرد حلم... كان ذاكرة.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يرى فيها أمه في الحلم، لكنها كانت المرة الأولى التي يشهد فيها كل هذه التفاصيل. المدينة القديمة، الكائن الأزرق، لايارد... كل شيء كان واقعيًا أكثر من أي حلم سابق. وما أزعجه أكثر، أنه لم يكن يوم عيد ميلاده، وهو الموعد المعتاد لتكرار تلك الرؤى الغريبة.
نهض من السرير ببطء، وتوجه إلى نافذة غرفته الصغيرة. كانت الشمس تشرق بخجل، ترسم خطوطًا ذهبية على زجاج النافذة المترب. شعر أن عليه أن يتحرك. لم يعد بإمكانه تجاهل هذه الأحلام.
في وقت لاحق من الصباح، اتجه نوح إلى منزل السيد ماجد، عالم اللغات المتقاعد، الذي كان بمثابة مرشد غامض له في هذه المرحلة من حياته. استقبله ماجد كعادته، بابتسامة دافئة تخفي خلفها كمًا هائلًا من المعرفة والخوف القديم.
دخل نوح إلى المكتب، حيث تحاصرهم الكتب والمخطوطات من كل جانب، وجلس قبالة ماجد، وسحب من حقيبته الكتاب الذي وجده في "عين". كان هناك صفحات كثيرة بلغات غريبة ومتنوعة، غير العربية كان يريد معرفة معناها.
"هل يمكنك ترجمته؟" قال نوح وهو يناوله الكتاب.
تفحّص ماجد الغلاف، ثم قلب بعض الصفحات. كانت تعابير وجهه تتغير تدريجيًا، من الفضول إلى الذهول، ثم إلى قلق عميق.
همس أخيرًا:
"يا إلهي... هذا ليس كتابًا عاديًا يا نوح. هذا... هذا كنز. قاموس مفقود يضم لغاتٍ تعود إلى حضاراتٍ لم تُوثق حتى في المخطوطات المعروفة."
ابتسم نوح رغم قلقه، وسأله:
"وهل يمكنك ترجمته؟"
ضحك ماجد، تلك الضحكة القصيرة التي تخفي خلفها ترددًا طويلًا، وقال ممازحًا:
"لم يُلقبوني بخبير اللغات عبثًا."
ثم صمت للحظة، وسأل نوح:
" هل سمعت عن عالم يدعى بلايارد كارتر؟"
نظر ماجد بحيرة، وبعد تفكير للحظات رد ماجد :
"لا.. لم اسمع هذا الاسم من قبل. "
تجمّد نوح في مكانه. نبرة ماجد كانت صادقة، لم يكن يعرف شيئًا عن لايارد، وهذا ما أربكه. كيف لا يعرفه من يفك شفرة كل لغات العالم؟
نهض نوح بتثاقل، شكر ماجد وغادر، لكنه كان يعرف أن عليه المضيّ قُدمًا، حتى وإن بدت كل الطرق موصدة.
عاد نوح إلى منزله بعد زيارة ماجد، وقد سيطرت عليه مشاعر متضاربة. هناك أسئلة كثيرة تتزاحم في رأسه، لكن العالم من حوله يبدو كأنه لا يعبأ بتلك الزلازل التي تعصف بداخله. لا أحد يعلم ما مرّ به، ولا ما يراه حين يغلق عينيه.
في اليوم التالي، استيقظ مبكرًا رغم التعب، واستعد للذهاب إلى عمله في شركة الأدوية. لم يكن متحمسًا. كان يشعر وكأن هذا الجزء من حياته أصبح منفصلًا عنه، كأنه يرتدي قناعًا كلما دخل ذلك المبنى الزجاجي.
ما إن دخل المكتب حتى فوجئ بزملائه يلتفون حوله بابتسامات مرحة. أحدهم قال مازحًا:
"أخيرًا! نجم الحفلة قد وصل!"
ضحك آخر وهو يربت على كتفه:
"هل استعدت حاستك بعد كمية الشمع التي نفختها؟ كادت تنفجر رئتاك!"
انطلقت ضحكاتهم، لكن نوح لم يشاركهم، بل اكتفى بابتسامة باهتة وكلمة مقتضبة:
"كانت مفاجأة لطيفة... شكرًا."
سكت لثوانٍ، ثم جلس في مقعده. شعر بأن كلماتهم تصطدم بجدران داخله لا تفتح أبدًا. الحقيقة؟ لم يشعر بأي دفء في تلك الحفلة. حينها، قبل أيام، كان مرهقًا ذهنيًا. طرقوا بابه ليلًا، دخلوا يحملون كعكة وشرائط ملونة، غنوا وضحكوا، ونثروا المرح في أرجاء شقته.
كان كل شيء جميلًا على السطح... لكنه هو؟ كان غريبًا عن كل ذلك. وقف يراقبهم وهم يضحكون ويتبادلون الصور والذكريات، بينما هو يبحث عن ذكرى واحدة يشعر فيها بأنه ينتمي. لم يتحدث كثيرًا، لم يضحك. ومع ذلك، لم يطلب منهم المغادرة.
اليوم، وهو بين أروقة العمل، شعر بالحنين لذلك الغلاف الاجتماعي الذي يحاولون فرضه عليه، لكنه لم يفلح في الشعور بالانتماء إليه. وعندما سأله أحدهم بعدها:
"بصراحة يا نوح، ما رأيك في الحفلة؟"
أجابه بصوت منخفض:
"كانت جيدة... شكرًا لكم جميعًا."
كلماته كانت غامضة ، لم يفهم احد، هل ارتاح لهم الآن ام مازال لا يثق بهم . لم يعلّق أحد، لكن بعضهم تبادل نظرات خفيفة، فهموا أنه لا يزال كما هو: نوح، زميل العمل الغامض الذي يصعب كسر أسواره.
بعد انتهاء ساعات الدوام، توجه نوح إلى أحد المتاجر لشراء هاتف جديد. بدلًا هاتفه السابق الذي سرقه قطاع الطرق خلال رحلته الأخيرة، ورغم أن استرجاع الصور والبيانات لم يكن ممكنًا، لم يكن هذا ما أزعجه.
الذي آلمه هو تلك اللحظة التي فقد فيها كل ما يوثّق رحلته. الصور التي لم يلتقطها، الأماكن التي مر بها ولم يسجلها.
أنهى شراء الهاتف بسرعة، ثم عاد إلى المنزل. ألقى بنفسه على السرير بملابسه، مُنهكًا من كل شيء.
لكن النوم لم يُمهله طويلاً، إذ سرعان ما وجد نفسه مجددًا في ذات الحلم... نفس الصحراء، نفس المدينة القديمة، نفس الكائن الأزرق، و... أمه.
إلا أن هذه المرة، لم يكن الحلم صامتًا كعادته. كانت هناك كلمة ترددت بصوت أمه، واضحة، صارمة، لا يمكن تجاهلها.
"عُد إلى قبيلة خليل... عُد إلى قبيلة خليل!"
كررتها ثلاث مرات، وكأنها ترنيمة مُقدّسة، ثم اختفى كل شيء.
استيقظ نوح فزعًا، هذه المرة دون صراخ، لكن عينيه كانتا تطاردان الظلال في الغرفة كما لو أنها ستجيبه. جلس على حافة السرير، يتأمل انعكاس صورته في زجاج النافذة، وهمس لنفسه:
"هذا ليس حلمًا فقط... إنها رسالة.
مع طلوع الصباح، اتخذ قراره. سيعود إلى قبيلة الحاج خليل. لم يكن يعرف ما الذي ينتظره هناك، لكن قلبه كان يرشده نحوها.
أخبر نفسه أن عليه إنهاء التزاماته في العمل أولًا، لذا صبر بضعة أسابيع حتى أغلق كل ملفاته، ووقّع على آخر تقرير له. ثم جمع حاجياته، وأخذ شيئًا واحدًا جديدًا: صورة والدته.
كانت تلك الصورة الوحيدة التي يحتفظ بها لها، التُقطت قبل سنوات طويلة، ولا يعرف من صوّرها ولا كيف وصلته. لكن ملامحها في الصورة... تلك النظرة الغامضة في عينيها، لم تفارقه أبدًا.
قبل الرحيل، زار ماجد مجددًا، وسأله عن تقدم ترجمة الكتاب.
"ما زلت في البداية يا بني، إنه أكثر تعقيدًا مما توقعت."
ابتسم نوح رغم نفاد صبره، شكره، ووعده بالعودة بمجرد أن يتمكن من زيارة القبيلة.
بعد ساعات كان قد وصل اخيرا لاستراحة سامح. استقل سيارته مجددا ، واتجه نحو المخيم. وعلى طول الطريق، شعر وكأن الرمال تعرفه، وكأن الأرض نفسها كانت تذكر خطواته الأولى.
وصل نوح إلى أطراف المخيم عند الغروب، حيث بدأت الشمس تتوارى خلف كثبان الرمال المتوهجة، ترسم لوحة من لهب ذهبي يمتزج ببرودة المساء. حمل الهواء نسمات خفيفة، تفوح منها رائحة الصحراء، كأنها تناديه بالاسم. نزل من السيارة المستأجرة بخطى مترددة، عينيه تتمعنان في المكان وكأنها تتفقد ماضياً غامضاً لم يعد بعيداً عنه.
استقبله بعض رجال القبيلة بابتسامات عريضة، أحدهم ناداه قائلاً:
"ظننا أنك لن تعود، يا ابن المدينة."
رد نوح بابتسامة خفيفة لم تبلغ عينيه:
"لقد عدت، ولكن لأمر مختلف هذه المرة."
شق طريقه بين الخيام حتى وصل إلى خيمة الحاج خليل، التي كانت مميزة بعمودها العالي والحبال الحمراء التي تربط جوانبها، وفوقها راية قديمة مهترئة تُخفق بخفة، كأنها تحمل أسرار الصحراء منذ قرون. دخل بهدوء، فوجد الحاج جالساً قرب النار، يحتسي الشاي ويتأمل اللهب بعينين غائرتين.
رفع خليل بصره حين شعر بالظل، وقال بدهشة صادقة:
"نوح؟! لم أتوقع أن أراك مجددًا بهذه السرعة. هل وقعت في حب الرمال أخيرًا؟"
اقترب نوح وجلس قبالته، ثم أخرج من جيبه صورة صغيرة وقديمة، وناولها له دون كلام. نظر خليل إلى الصورة، وما إن وقعت عيناه على ملامح المرأة، حتى تغيّرت ملامحه تمامًا. تجمد للحظة، كأن الزمن ارتطم به فجأة، ثم همس وكأنما يُخاطب روحاً غادرت:
"يا الله... هذه... لمن هذه الصورة، يا بني؟"
قال نوح بهدوء، ونبرة تنذر بما سيأتي:
"إنها لأمي."
سقط صمت ثقيل على الخيمة، حتى النار خفّ وهجها. أغمض خليل عينيه للحظة، ثم فتحهما وهو يزفر تنهيدة عمرها سنوات:
"حتى لو مرت مئة سنة، لن أنسى هذه المرأة."
أسند ظهره إلى الوسادة، وراح يروي:
"كنت شابًا في بداية زعامتي، ورثت مكان والدي بعد وفاته. وكنت أحب الصيد كما أحب أن أتنفس، أجد فيه حريتي. في ذلك اليوم، خرجت وحدي. صديقي سالم، رفيق الدرب، بقي لأن زوجته كانت على وشك أن تلد. قلت له: ابقَ معها، وسأغتنم اليوم للصيد."
تنهد، ثم أكمل:
"كان يوما صعباً. مرت ساعات نهاره بسرعة وحل الليل، ولم اظفر بصيد.
حلّ الليل والصحراء أصبحت لوحة فضية تحت ضوء القمر. كان الجو ثقيلًا، وكأن شيئًا ينتظرني في الأفق. لمحت في بُعد بعيد ظلًّا يتحرك برشاقة وخفة، كان ذئباً ضخماً يطارد غزالة شابة، تفرّ منه بكل قوتها. شدني المشهد، فأسرعت على ظهر جملي محاولًا اللحاق بهما، متسلحًا بنبض المغامرة.
مرّ الوقت والغزالة تُراوغ الذئب بمهارة، حتى خارت قواه وتوقف، وقد نفدت طاقته. اقتربت منه، وصوّبت نحوه، وأطلقت النار. سقط الذئب على الرمال ينازع أنفاسه، ورأيت فيه قوة وهيبة لم أعاين مثلها من قبل. أردت أن أُنهي معاناته، فاخرجت خنجري، وغرسته في عنقه، ثم رفعت جسده على ظهري ووضعته على الجمل، استعدادًا للعودة ."
ساد لحظة صمت قبل أن يتابع:
"لم تمر لحظات حتى انطلقت عواءات الذئاب من حولي، كانت حزينة، كأنها ترثي رفيقها. صوت العواء كان أعلى من المعتاد، وكأن الصحراء كلها قد استيقظت على صوت النواح. لم أبالِ، فقد اعتدت هذه الأصوات، لكن تلك الليلة كانت مختلفة.
تقدمت وسط الظلام، وكلما مضيت، اشتد العواء، حتى وجدتني أمام هضبة، وعليها قطيع من الذئاب. كانت نظراتهم مريعة، وكأنهم يتوعدونني. تملّكني الخوف لأول مرة، لكنه الخوف الذي يثير الشجاعة. أوقفت جملي ونزلت، أمسك بشعلتي في يد وسلاحي في الأخرى، واقتربت بثبات."
أكمل خليل بنبرة ثقيلة:
"واصلت تقدمي. حتي اصبحت المسافة بيني وبين الذئاب عدة امتار، توقفت عن السير وأطلقت رصاصة في السماء، تراجع القطيع للحظة، فصعدت للهضبة لأبعدهم عن طريقي، ولوّحت بالشعلة في وجوههم، وهربوا أخيرًا. وقفت ألتقط أنفاسي، وعندما نظرت نحو الأفق، لاحظت مكانًا لم أره من قبل بين الكثبان الرملية.
قادني فضولي لذلك المكان. كانت مدينة ضائعة، مبانٍ ضخمة وأعمدة حجرية، يحيط بها صمت مطبق، وكأنها عالقة بين عالم الأحياء والأموات، كانت عين... ، تلك المدينة التي زرتها، نعم يا نوح. انا من اكتشفها..
ولكنني علمت شيئاً. لم يكن عواء الذئاب المستمر بسبب قتلي لواحد منهم فحسب، بل لأنني اقتربت من مخبأهم. أدركت ذلك متأخراً بعد رؤيتي لقطيع من الذئاب، لقد كان نفس القطيع السابق. لقد اوقعتني الذئاب بالفخ واستدرجوني لعرينهم.
كانوا يقتربون مني بخطوات ثابتة، اعينهم لا تفارق عيني، وكأنهم كانوا ينتظرون دخولي لعرينهم لينتقموا مني على ما فعلته برفيقهم، أسرعت لجملي . وأحضرت سلاحي وبدأت ألوح بشعلتي في وجوههم، لم يتراجعوا، واصلوا تقدمهم وحاصروني بالكامل، لم يكن امامي سوى السلاح. امسكته وبدأت اطلق طلقات متعددة في السماء لأُخيفهم، ولكنهم لم يرتعدوا من هذا ، بل زادهم شراسة ، لقد تأكدوا انني القاتل.
كانت الذئاب من كل مكان من حولي، فعلت كل شيئ اقدر على فعله، ولكنني لم أستطع ابعادهم ، فأدركت اني لن أرى ضوء الشمس مجدداً، فقررت ان أموت شجاعاً، القيت سلاحي وشعلتي، وخلعت قميصي. ثم أخرجت خنجري، وأقتربت بأقصى سرعتي من قائدهم.
غرزت خنجري في جسده، لا أتذكر اين طعنته، ولكن ما أتذكره هو انقداد الذئاب عليّ ، كان وزنهم فقط كفيل ان يقتلني، أغمضت عيني راضياً بنهايتي، لم أمت هارباً لقد مت شجاعاً أدافع عن نفسي، ولكن حدث شيئ غريب."
صمت خليل برهة، ثم رفع عينيه نحو نوح:
"لم أتوقع ابداً في حياتي انني سأرى شيئاً بهذه الغرابة، رجل ضخم طويل القامه، يرتدي رداء يجره خلفه، وفوق رأسه قلنسوة كبيرة تغطي ملامحه بالكامل.
اقترب الرجل وبدأ يقتل الذئاب باسلحة غريبة، كانت تشبه المسدسات ولكن طلقاتها حمراء كلون الدم. كان الرجل محترفاً وشجاع، لم تمر الا عدة دقائق وكان لا احد باقٍ في المكان الا أنا وهو وجثث الذئاب. "
شعر نوح بقشعريرة تسري في جسده، فقد بدأ يتعرف على ذلك الرجل.
قال خليل:
"اقترب الرجل مني ومد يده لي، فشكرته وانا اقف، قبل ان انظر لوجهه ، وأرتعب من هول ما رأيت...!!!
كان وجهه شاحباً. ليس هذا ما ارعبني ، ولكن عندما التقت عيناي بعينيه، رأيت وجهًا ذا لون أزرق داكن، حدقات سوداء كظلام الليل، نظرت ليدي التي كان هذا الغريب ممسكاً بها ليساعدني على النهوض، فوجدت اظافره التي كانت تشبه المخالب، كانت طويلة وحادة، ارتعبت، وصحت من هول المفاجأة. أغمضت عيني، وعندما فتحتهما، رأيت وجهه بشريًا طبيعيًا، اختفت الملامح المخيفة كأنها لم تكن. لم اصدق عينيّ، أغلقتهما وفتحتهما مرةً اخرى، وحدقت في وجهه بتركيز، وصُدمت مما رأيت. كان بشرياً طبيعياً..
نظرت لقبضته التي كانت لا تزال ممسكة بيدي، فوجدتها يد طبيعية، اختفت اظافره الطويلة، ولونها الازرق المخيف وتحولت للون الجلد البشري. تمالكت أعصابي، وانا اتسائل في نفسي "هل ما رأيته كان حقيقياً ؟ هل كان وهماً ؟ أم أنه...؟"
ارتجف صوت خليل وهو يقول:
"سألته، محاولًا إخفاء ارتعاش صوتي:
"من أنت؟ وماذا تفعل هنا وحدك؟"
سكتُ منتظراً اجاباته، ولكنه لم يجبني، واكتفي بتحديقه فيّ بعينيه البنيّة، وكأنه لم يفهم حرفاً مما قلت، ولم يَطُل تحديقه..
بعد ان سمعنا صوت بكاء طفل، كان يأتي من بين المباني القديمة. هرع الرجل نحو الصوت، وتبعته حتى وصلنا لمبنى صغير، فيه امرأة شاحبة تحمل طفلها الرضيع. كانت امك يا نوح. "
حدّق نوح في الأرض، بينما الحاج تابع:
"كانت تتحدث بلغة لم أفهمها، وكان الغريب، الذي فهمت من كلامها أنه يُدعى "لايارد"، يتمتم بكلمات غامضة، وكأنما يفرض عليها نوعًا من السحر.
كنت خائفاً ومرتعباً، كنت اشعر ان نهايتي ستكون على يد هذان الغريبان، ولكنني تجاهلت كل ذلك، بعد ان صرخت المرأة بلهجة الأجنبية وهي تشير له :
"لايارد.... توقف..!!! "
لم افهم كيف حدث هذا، وكيف تحدثت المرأة بالعربية"
رفعت حاجبي نوح حين سمع الاسم، فخليل لم يكن يعرفه، ومع ذلك نطق به.
قال خليل:
"ولكنه توقف من نفسه، يبدو انه كان ينفذ تعويذة ما، مكّنت المرأة من فهم كلامي. وبعد ان انهى تعويذته، التفت نحوها بنظرة لم أفهم مغزاها. وتمتم ببعض الكلمات بلغته الغريبة، التي لم افهم ولو حرفاً منها."
أومأ نوح برأسه بتأثر، بينما أكمل خليل:
"ثم رحل، تاركًا المرأة وطفلها في صمت غامض، ووقفت في ذلك المكان الذي يشبه حلمًا لا ينتهي، بين جثث الذئاب وأطياف المدينة الضائعة، متسائلًا ما إذا كان ما رأيت حقيقيًا أم مجرد أوهام نسجها عقلي خوفًا من الموت الذي اقترب مني أكثر من أي وقت مضى. شعرت لوهلة أنني غريبٌ عن نفسي، كأنني تركت روحي في تلك الرمال الممتدة بلا حدود.
لكن تفكيري لم يستمر طويلاً، إذ قطعته المرأة بصوتٍ واهنٍ تتوسل إليّ أن أخرجها وطفلها من ذلك المكان الملعون. كانت نظراتها تائهة وحزينة، ولكنها مليئة برجاءٍ لم أملك إلا أن أستجيب له. وافقت دون تردد، حملتها مع طفلها على ظهر جملي، بعد ان القيت الذئب من على ظهره، وربطه بحبال قوية لأجره خلفنا ، الذئب الذي قضيت نهاري احاول صيده ، إلا ان ظهر الجمل لن يتحمل اكثر من فردين . انا والمرأة ، وسرنا بين الكثبان، بعيدًا عن المدينة العجيبة التي ابتلعتها الرمال.
أسند خليل رأسه إلى الوسادة، وقال بنبرة حزينة:
" لم يمضِ وقت طويل حتى اخترق سكون الليل صوت إطلاق نار مدوٍ من أعماق المدينة، كصدى مأساة تتردد بين أضلعي. التفتُّ إلى الوراء، والغضب يجتاحني، وكأن الدم في عروقي يغلي. كانت المرأة قد سمعت ما جرى، وعرفت الحقيقة قبل أن أنطقها، فانفجرت بالبكاء، دموعها ملتهبة وصوتها مختنق بالحزن. نظرتُ في عينيها المرتجفتين، وفهمت ما لم تقله شفتيها؛ كان ذلك المدعو بلايارد قد اختار نهايته. "
اكمل خليل:
"عدنا إلى المخيم، قدّمنا لها الطعام والمأوى. لكنها فقط كانت تتوسل أن نُرحّلها في الصباح الباكر. في الفجر، أرسلت ابنتي لخيمتها لتوقظها، لكنها لم تجدها. بحثنا في كل مكان، حتى علمنا من أحد رجال القبيلة أنه أوصلها للطريق العام. قال إنها كانت تهمس طوال الطريق: سيقتلونه... سيقتلونه..."
نظر خليل إلى نوح:
"أعطته ورقة صغيرة، قالت له أن يُسلمني إياها. حملت كلمات غريبة: سيعود ابني الرضيع إليكم بعد عدة سنوات، بعد ان يكبر ... فقط اخبروه إن المدينة الأثرية بها أحد البوابات ."
ارتجف قلب نوح. كل شيء بدأ يتضح. كل حلم، كل إحساس.
قال خليل بصوتٍ دافئ:
"لقد عدت، كما قالت. لم افهم كيف عرفت هذا المكان ومن دلّك عليه مجددا، لكن فقط عليك ان تعرف انك في الطريق الصحيح."
نظر نوح إلى اللهب المتراقص، وعيناه ممتلئتان بالذهول والامتنان، وهمس:
"لقد تركت امي لي الطريق."
أجابه خليل، وهو يربت على كتفه:
"وأنت الآن، يا بني، على وشك أن تسلكه. فكن مستعدًا لما ينتظرك في أعماق عين."
يُــــــــــــــتــــــــــبَع
ــــــــ.ــــــــ.ـــــــــــ.ــــــــــ.ــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــــــــ.ـــ
ما رأيك في الفصل عزيزي القارئ ⁉️💛
ما علاقة نوح وأمه بأيدان، ومن يحاول قتل نوح 🫢💀
هل سينتقل نوح عبر ممر عين، ام سيتردد. 🥹🤦🏻♂️
اعلموني بآرائكم وتوقعاتكم، للأحداث القادمة ❤️🔥😍
وتأكد دائماً عزيزي القارئ ان القادم افضل بإذن الله 🔥🤎
Comments