Wanted
العاصمة روما.
"قلت لك، لن أذهب، لما لا تفهم؟!"نطق ميلان بغضب صاحب الشعر البني والعيون الزرقاء، معبّرًا عن رفضه القاطع وهو يحدّق بالرجل الجالس أمامه.
ضرب جوزيف سطح مكتبه بعنف ونهض من كرسيه بحدة، وقال:"أنا أبلغك، لا أخيرك. خذ الملف واغرب عن وجهي."
منذ أكثر من نصف ساعة، وجوزيف يحاول إقناع ميلان بتنفيذ المهمة التي أوكِلَت إليه، لكنّ ميلان ظلّ رافضًا، إذ لم تتح له فرصة للراحة من أوامر جوزيف، فكلما أنهى مهمّة اغتيال خفية، كلّفه بأخرى.
لكن الجانب الجيد في الأمر أنّ ميلان لا يضطر إلى أكثر من القتل لان جوزيف يتكفّل بإرسال رجاله لمحو آثار الجريمة.
جوزيف يكلّف ميلان على وجه الخصوص بالمهام الشاقّة، لأنه يرفض أن يسمح له بالأكل من ماله، أو الاحتماء تحت سقف قصره دون فائدة. وقد تولّى تدريبه بنفسه، ولهذا لا يرحمه حين يتعلق الأمر بالعمل،
كما أن ميلان أصغر اتباع جوزيف ودائمًا ما يعامله بشكل خاص، رغم انه يقسو عليه أحيانًا.
قلب ميلان عينيه بملل واستدار ناويًا الخروج متجاهلا إياه، لكن ذراع جوزيف أمسكت به بقوة وجذبته الى الوراء.
تأوّه ميلان من الألم ثم دفع يد جوزيف عن ذراعه بغضب وصرخ باهتياج:"اللعنة عليك، آلمتني"
ما إن انتهت كلمات ميلان حتى تلقّى صفعة قوية على خده جعلت رأسه ينحرف إلى الجانب الآخر، لينظر إلى مساعدي جوزيف الواقفين بجانب الباب كالتماثيل، دون أن يحرك أحدهم ساكنًا.
تمتم ميلان بالشتائم، وقد اعترته مشاعر طفيفه من الإحراج والإهانة. لطالما كره أن يضربه جوزيف أمام الآخرين، وازداد ذلك كرهًا حين يصفعه دائمًا متناسيًا أنه لم يعد طفلًا او مراهقًا بل شاب بالغ.
"الملف."خرجت الكلمة من بين شفتي جوزيف ببرود وهو يعاود الجلوس على كرسيه الذي يتوسط المكتب.
تنهد ميلان بامتعاض، ثم التقط معطفه الطويل من على الأريكة، حمل الملف بيده، وسار نحو الباب. توقف لحظة من شدة حنقه، ثم التفت إلى جوزيف حين توسعت المسافة بينهما، وقال بحدة:
"اللعنة عليك"
لم يعره جوزيف أي اهتمام، وبقي جالسًا في على كرسيه العريض وهو يحدّق في ملفه القابع على المكتب.
كان أيدن على وشك الدخول إلى غرفته، لكنه توقف حين لمح ميلان يسير في ممرّ المقر بخطى سريعة وهو يتمتم بالشتائم ويعقد حاجبيه.
ابتسم أيدن بخبث، ومدّ قدمه أمامه، ليتعثر ميلان وكاد أن يسقط على وجهه لولا ذراع قوية التفّت حول خصره لموازنة جسده، وصوت هادئ اخترق مسمعه:
"هل أنت بخير؟"
"اللعنة عليك، أيها الكلب."نطق ميلان دون أن يرد على سؤال جوليان ثم رمى الملف في وجهه بحنق وغادر المقرّ.
لحق به جوليان بخطوات سريعة، محاولًا مجاراته، وقال:"لا تغضب، إنه يمازحك فقط."
توقف ميلان عن السير، والتفت إليه قائلاً بجدية:"لست غاضبًا بسبب ذلك المزعج. افتح الملف وانظر إليه."
فتح جوليان الملف، وألقى نظرة سريعة، ثم قال:
"سأذهب معك. بما أن المصحّ مضطرب، والمريض يعاني من فوبيا المستشفيات، طبيبه خاص. اسمه جيفري، يسكن في منطقة ريفية، بعيدًا عن الأنظار."
لاحظ جوليان الكدمة البارزة على خد ميلان، فتنهّد بخفة، وأخرج من جيبه لاصق جروح صغيرًا. وضعه برفق فوق موضع الصفعة.
ربت جوليان على شعر ميلان بحنان وهو يقول بابتسامة:"حاول أن تمسك لسانك قليلا، انها الصفعة الرابعة التي تلقيتها "
أبعد ميلان يده عن رأسه، ورد بحنق: "وكيف أفعل ذلك بينما المكان مليء بالكلاب المسعورة؟"
ربت جوليان على شعر ميلان بحنان، مبتسمًا وهو يقول: "حاول أن تمسك لسانك قليلاً، هذه هي الصفعة الرابعة التي تلقيتها."
أبعد ميلان يد جع عن رأسه، ورد بحنق: "وكيف أفعل ذلك بينما المكان مليء بالكلاب المسعورة؟"
أيدن يزعج ميلان باستمرار، وعندما يراه يمشي بجانبه، يمد ساقه ليوقعه أرضًا. في إحدى المرات، تعثر ميلان بساق أيدن وسقط بقوة على أنفه، حتى كاد أن ينكسر بسبب اصطدامه بالأرض.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
الساعة التاسعة مساءً
ترجل جوليان من سيارته، وتبعه ميلان حاملاً حقيبة جلدية، مرتديًا رداء طبي. سارا نحو بوابة القصر.
رمقهما الحارس بنظرة فاحصة، ثم وقف أمامهما معرضًا الطريق، وسأل وهو يحدق بميلان:
"من هذا؟"
رد جوليان بهدوء:"إنه ممرض، أحتاج إلى وجوده معي بما أن السيد يرفض الذهاب إلى المستشفى."
همهم الحارس بلا اكتراث، وقال:
"أعطني بطاقة شخصية."
أخرج جوليان بطاقته ومدّها له. وقبل أن يتمكن الحارس من تفحصها جيدًا، شعر بوخز في عنقه إثر حقنة مُخدرة غرسها ميلان في عنقه.
أمسك جوليان بكتفي الحارس وسحبه نحو الباب الجانبي حيث خبأه تحت الأشجار الكثيفة.
أخرج ميلان من حقيبته حبلاً بمشبك حديدي، ألقاه على سياج نافذة الطابق الثالث ثم شده بقوة وبدأ بتسلّق الجدار، تبعه جوليان وأغلق النافذة خلفهما.
دلف الاثنان إلى غرفة بيضاء في نهاية الطابق، حيث يرقد رجل في منتصف الثلاثين من عمره. رغم كونه مجرمًا وخارج عن القانون، إلا أنه يعاني من فوبيا المستشفيات ويكره رائحة الدماء، ولا يلطّخ يديه بها، بل يعتمد على مرتزقة محترفين.
استفاق الرجل على صوت أقدام واضحة في السكون، فرفع نصف جسده بوهن والتفت ليرى ميلان وجوليان يقفان قربه تمامًا، فوسّع عينيه رعبًا.
انتزع الأسلاك الطبية عن جسده بسرعة، مستعدًا للهرب.
ابتسم جوليان بخفة وتقدّم منه ليمسك بكتفيه معيدًا إياه الى السرير وقال:
"اهدأ، سيدي. لا داعي للذعر. أنا طبيبك الجديد، هل أنت جاهز للعملية؟"
"كاذب! أنا لم أطلب طبيبًا، ولا أحتاج لعملية! كيف دخلتما القصر؟! لا تقترب- أيها الحراااااس"
صرخ الرجل بذعر وخلع الاسلاك عن جسده بقوة ثم ركض نحو باب الغرفة، وصُدم من هدوء القصر وظلمته.
كاد أن ينزل الدرج، لكنه توقف فجأة عندما وقف أمامه ميلان وهو يبتسم باستهزاء:
"جميع من هنا نائم. فلتنبح كيفما تشاء."
ارتعد قلب الرجل، ثم التفت بسرعة إلى مصدر خطوات قادمة.
قبل أن يستوعب، غُرِس سكين حاد في منتصف ظهره، بصق دماء من فمه ووسّع عينيه ألمًا، ثم تراجع باضطراب حتى اختل توازنه
وضع ميلان ساقه أمامه الرجل ليسقط من الدرج الطويل والدماء لطخت الدرج خلفه
"أعتقد أن هذا كافٍ ليموت."قال ميلان ببرود، يحدّق في جسده المتدحرج على السلالم.
أومأ جوليان وأجاب:"لنغادر. انتهى عملنا"
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
العاصمة روما، مساءً
عاد ميلان منهمكًا إلى منزله، أخرج المفتاح محاولًا فتح الباب، لكنه وجده مفتوحًا، تنهد بضيق ودفع الباب ليدخل، لتقع عيناه فورًا على جوزيف الجالس على الأريكة، يدخن سيجارة وكأنه في منزله.
قلب ميلان عينيه بامتعاض وسار إلى الداخل دون أن ينبس بكلمة، ثم خلع معطفه ورماه عمدًا بجانب يد جوزيف التي تحمل السيجارة مسببًا وقوعها من يده.
"ألن تكفّ عن هذه التصرفات الطفولية؟"قال جوزيف ببرود، وهو ينهض عن الأريكة ويلقي بالسيجارة على الأرض ثم يدعسها بحذائه.
ردّ عليه ميلان بضجر وهو يسير نحو غرفته:"وأنت، ألا تنوي التوقف عن دخول منزلي دون إذن؟"
وقبل أن يبلغ ميلان عتبة غرفته، اعترض جوزيف طريقه بالوقوف أمامه، وقال بلهجة ساخرة:
"في كل مرة أرسلك فيها بمهمة، تعتمد اعتمادًا كليًّا على جوليان. ما فائدتك إذًا؟"
"وأنت دائمًا تعتمد عليّ، ما فائدتك أنت، أيها العجوز الخرف؟"تفوه بها ميلان ساخرًا ببرود
وحين أنهى جملته، تلقى صفعة قوية على خده،
أمسكه جوزيف من ياقة ملابسه بقوة، ورفع يده مشيرًا إلى السقف فوقهما وهو يقول بحدة:
"تعمل لدي لأنك تأكل من أموالي وتحتمي تحت سقفي. لا تنسَ مكانتك، ميلان، ولا تنسَ من جعلك ما أنت عليه الآن."
"اخرج من منزلي."قالها ميلان بنبرة حادة، وهو يزيح يد جوزيف عن ياقة قميصه.
تجاهل جوزيف أمره تمامًا، وعاود جلوسه على الأريكة، متكئًا بارتخاء ثم قال دون أن ينظر إلى ميلان:
"خذ حمامًا، وجهّز لنا العشاء."
"لا أمتلك طعامًا يكفي لشخصين."رد ميلان ببرود.
"لا بأس، سأطلب شيئًا."قال جوزيف بهدوء، وهو يخرج هاتفه من جيب معطفه، وبدأ بتصفّح قائمة الأطعمة.
اتجه ميلان إلى غرفته، وفتح خزانته ناظراً إلى ملابسه العتيقة، مدّ يده وأخرج منها ثيابًا مريحة رغم تهالكها، ثم مشى نحو الحمّام وأغلق الباب خلفه بصمت.
خلع ملابسه ودلف تحت الماء الدافئ، فيما عقله كان مشغولًا بالتفكير، لطالما كانت كلمات جوزيف تجرحه، خاصة حين يذكّره بمكانته، مجرد تابع تحت سقفٍ ليس له.
رغم أن جوزيف اعتنى بميلان في مراهقته، ووفّر له المأوى والطعام، لكنه لم يمنحه ذلك مجانًا. فقد جعله أداة قتل، وأشرف على تدريبه قسرًا.
كان ميلان في البداية يرفض القتل، ويبكي حين يرى الدم. يتشنّج جسده الصغير عند أول صرخة من ضحايا جوزيف الذي كان يسخر من دموعه.
يتذكّر ميلان تلك الليالي جيدًا... حين كان يُحبس في غرفة ضيقة، لا ضوء فيها سوى من نافذة صغيرة، يتركه جوزيف مع أرنب وسكّين، ويمنعه من الطعام إلا أن يقتل الأرنب.
كان ميلان يصرخ، يبكي، يتوسل ان يفتح له الباب ويطعمه، لكن لا أحد يأتي اليه بسبب جوزيف.
فيستسلم ميلان من الجوع وترتجف يده وهي تغرز السكين في جسد الأرنب، والامر ذاته يتكرر، إما أن يُحبس مع الحيوانات ويُجبر على قتلها أو يتركه جوزيف مع رجال مجرمين لتخويفه.
ومن يومها.. بات القتل امرًا طبيعيًا بالنسبة لميلان، يقتل أعداء جوزيف في مقابل أن ينال راتبًا ومأوىً وطعامًا.
خرج ميلان من الحمام وهو يجفف شعره بالمنشفة، رأى جوزيف يدخل غرفته بلا استئذان، كما يفعل دائمًا، وكأن المكان ملكه.
قال جوزيف وهو يحدّق به:"ماذا تشتهي أن أطلب لك؟"
ردّ ميلان ببرود، وهو يتجاوز جوزيف متوجهًا إلى الخزانة:"اطلب لنفسك، أنا سأجهز العشاء لنفسي."
اقترب جوزيف منه ومدّ هاتفه أمام وجهه قائلا"بيتزا أم دجاج مقلي؟ أو ربما تحب شطيرة لحم؟"
زفر ميلان بحنق ونظر الى جوزيف ليقول متهكمًا:"وهل عليّ أن أقتل أحدهم ثمنًا لطعامك اللعين؟"
أمسك جوزيف بالمنشفة وانتزعها من يد ميلان بخشونة ثم قال بصوت بارد ومنخفض وهو يجفف شعر ميلان المبلل بقوة:
"لا ترفع صوتك عليّ يا فتى، لم أُعلمك الجرأة لتردّ بجفاء على مَن يُطعمك."
خطف ميلان المنشفة من يد جوزيف ورماها على الأرض بعنف، وقال بغضب مكبوت:"لا أتحمّل وجودك في منزلي، لمَ لا تفهم؟!"
حدق جوزيف فيه بنظرات حادة،ليسمع صوت طرق على الباب، تنهد وخرج من الغرفة ثم فتح باب المنزل ليجد رجل التوصيل واقفًا امامه
أخذ جوزيف الطعام منه بعد أن أعطاه المال، ثم أغلق الباب بهدوء، وضع الأكياس على الطاولة، ثم نادى بصوت عالٍ دون أن ينظر للخلف:
"وصل الطعام، تعال إن كنت جائعًا."
خرج ميلان من غرفته ثم قال ببرود وهو يمر بجانبه متجهًا إلى المطبخ:
"كُل طعامك لوحدك."
أجابه جوزيف دون أن يلتفت إليه وهو يجلس على الكرسي:
"إذا لم تأكل... سأنام هنا الليلة."
توقف ميلان في مكانه وأطلق زفيرًا عميقًا، ثم اتجه نحو الطاولة وجلس بجانبه بضجر، قائلا:
"أتمنى أن تختنق بلقمتك."
تجاهله جوزيف، واكتفى بأخذ قطعة من البيتزا ليتناولها بصمت، مدركًا أن مجادلته لميلان لن تنتهي قبل الغد.
ساد الصمت في المطبخ للدقائق، لم يُسمع بعدها سوى صوت سعال ميلان الذي اختنق فجأة بلقمته.
نهض جوزيف من مقعده بسرعة واتجه إلى المطبخ، ثم عاد وهو يحمل بيده كأس ماء.
تناوله ميلان كأس الماء وشربه جرعة واحدة، فيما اقترب جوزيف منه أكثر، ومدّ يده ليمسح على ظهره بخفة.
وضع ميلان الكأس على الطاولة بعنف، وقال بصوت مختنق وهو يمسح طرف فمه:
"كل هذا بسببك."
"بل بسبب لسانك"
أجاب جوزيف ببرود وهو يسير نحو باب المنزل ثم التفت نحوه وتابع كلامه: "تعال إلن المقر باكر، اليكس ينتظرك"
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
الثامنة صباحًا.
دخل ميلان إلى المقر وسار بخطوات متكاسلة عبر ممراته الطويلة. لم يكن لينهض باكرًا لولا وجود أليكس الذي نادرًا ما يأتي الى المقر كونه يعمل جاسوسًا، وعميل مزدوج لدى جوزيف.
من وجهة نظر ميلان، يرى جوليان كأخيه الأكبر واقرب انسان له، وأليكس صديقه الذي يحب تواجده حوله، وأيدن حشرة مزعجة، اما جوزيف يراه كعجوز بلا فائدة فقط يلقي بأوامره.
انطلقت شهقة فزعة من شفتي ميلان، حين شعر بجسده يُرفع عن الأرض فجأة، فالتفت مذعورًا ليجد أليكس قد حمله على كتفه ككيس من البطاطس.
"لِمَ تمشي كالسُّلحفاة، أيها الكسول؟ تأخّرتَ عشر دقائق." قالها أليكس بحماس وهو يركض نحو غرفة التدريب،
فيما كان ميلان يصرخ غاضبًا ويضرب ظهره بقبضاته:"أليكس أُنزلني حالًا أيها الأحمق! سأُسقِطك من الدرج أقسم."
ضحك أليكس بصوت عالي، متجاهلًا تهديداته،
رأى آيدن أليكس يركض في الممر وهو يحمل ميلان على كتفه، بينما ميلان يصرخ بغضب ويشدّ شعره بكل ما أوتي من قوة. فقهقه آيدن بخبث، ثم مدّ ساقه في الممر على أمل أن يوقعهما معًا.
لكن أليكس لمح حركته في اللحظة الأخيرة، فقفز بخفة فوق ساقه الممدودة وقال مبتسمًا بانتصار:
"نلتُ منك هذه المرة."
قلب آيدن عينيه بملل، وحده ميلان من يتعثّر بقدمه، لأنه لا يرى أمامه، خصوصًا عندما يكون غاضبًا.
أنزل أليكس ميلان الذي ترنّح للحظة وشعر بدوار خفيف، فأمسك أليكس بيده وسحبه قائلاً بصوت مرتفع قليلاً:
"هيا، سنبدأ التدريب لانني ساغادر المقر لمدة طويلة مجددًا"
"لا أريد، واللعنة، أصبت بالدوار بسببك" نطق ميلان بحنق وهو يسحب يده بقوة من قبضة أليكس.
ضحك أليكس بخفة ونقر اكتاف ميلان وهو يقول بسخرية:"أنت نحيل للغاية، ألا تفكر في بناء بعض العضلات؟"
ردّ ميلان على الفور بامتعاض:"أكره العضلات، تجعلني أبدو كغوريلا."
"لن تتهرّب من التدريب هذه المرّة," قال أليكس وهو يسير إلى الداخل.
كلما عاد اليكس إلى المقرّ، يُجبر ميلان على الاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى غرفة التدريب، بحجة أن يدربه، لطالما سخر منه لكونه نحيلًا ولا يمتلك عضلات.
رمقه ميلان بنظرة منزعجة، ثم لحق به وهو يتأفف بتكلّف. لم يلبث حتى وضع يديه أمام وجهه ليصدّ ضربة أليكس المفاجئة.
حدّق ميلان بأليكس وقال: "هيه! هذا ليس عدلًا، انتظـ__"
لم يُنهي كلامه حين تلقّى لكمة على وجهه. تنهد ميلان واندفع نحو أليكس ليركله، لكن الأخير أمسك بساقه ودفعه إلى الخلف بقوة، ثم اقترب بسرعة من ميلان محاولًا إسقاطه أرضًا.
رفع ميلان قدميه سريعًا وركزهما على ركبتي أليكس، ثم ثبت يديه على كتفيه ورفع جسده للأعلى بخفة، فأصبحت قدماه للأعلى ويداه ممسكتان بأليكس في وضع مقلوب أشبه بحركة بهلوانية.
لكن قبل أن يستغل ميلان الموقف لإسقاطه، سحب أليكس ذراعيه فجأة، فاختل توازن ميلان وسقط أرضًا على ظهره.
لم يمنحه أليكس فرصة للنهوض، إذ انقض عليه بسرعة وجثا فوق صدره، واضعًا إحدى ركبتيه فوقه ثم ابتسم وهو يقول:
"لقد خسرت."
ابتسم ميلان وأنزل يديه على الأرض باستسلام، نهض أليكس عنه ومد يده ليساعده على الوقوف.
فُتح باب القاعة، ودخل جوليان بخطوات هادئة وابتسامة خفيفة مرسومة على شفتيه وهو يحمل منشفة وعلبة ماء.
"أنت دائمًا فطن، كيف علمت أنني عطِش؟ " قال أليكس وهو يمد يده نحو علبة الماء.
تجاهله جوليان تمامًا، واقترب من ميلان ومد له الماء أولًا، ثم وضع المنشفة على كتفه دون أن ينبس بكلمة.
ارتفعت حاجبا أليكس، وهو يراقب المشهد بعبوس خفيف:
"أتراني شفافًا؟"
"كلا، اذهب واشرب الماء اذا كنت تشعر بالعطش" رد جوليان مبتسمًا ثم ركز اهتمامه مجددًا على ميلان قائلاً بنبرة هادئة:
"شاهدتُ قتالكما في غرفة المراقبة، أنت رائع كالعادة."
ابتسم ميلان بخفة دون أن يرد، وهو يفتح عبوة الماء ويشرب منها جرعة واحدة.
رمش أليكس بتذمر، ثم انحنى قليلًا للأمام وقال:"وماذا عني؟"
التفت إليه جوليان وعلى وجهه ابتسامة هادئة:"لا شيء مميز، أنت هو أنت."
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
الحادية عشرة مساءً.
خرج ميلان من المقر بخطوات هادئة، وما إن تجاوز البوابة حتى تبعه جوليان بخطى سريعة وهو يقول:
"سأوصلك بسيارتي."
هزّ ميلان رأسه مبتسمًا بخفة، ورد بصوت منخفض:"لا، شكرًا لك."
ابتسم جوليان بخفة ثم مد يده وربت على شعره قائلاً:"إذا احتجت أي شيء، لا تتردد بالاتصال بي."
أومأ ميلان مجددًا بابتسامته الهادئة، فاستدار جوليان عائدًا إلى المقر، بينما بقي ميلان واقفًا على حافة الرصيف، يرفع يده لإيقاف سيارة أجرة.
حين كاد ميلان يعبر الشارع، شعر بضوء أبيض ساطع يضرب وجهه مباشرة، جعله يرفع يده ليحجب وهجه القوي ويغلق عينيه بشدة.
وضع ميلان يده في جيبه ليمسك سلاحه عندما شعر بخطوات خفيفة تقترب منه، فاستدار بسرعة بحثًا عن مصدر الضوء والصوت، لكن الشارع كان خاليًا كعادته في هذا الوقت، وكل شيء بدا عاديًا...يعرف هذا الضوء تمامًا إنه وميض كاميرا.
يدرك ميلان جيدًا كم يبدو وسيمًا، لكن ليس إلى درجة أن يظهر غريب من العدم فقط ليلتقط له صورة
تنهد بعمق وهو ينظر حوله مجددًا ولا أحد بجانبه ليركب سيارة الأجرة بهدوء متوجهًا الى منزله.
خلف أحد الجدران المتهالكة لزقاق شبه مظلم، وقف رجل بملامح حادة وهو يحدّق في شاشة هاتفه حيث ظهرت صورة واضحة لميلان.
أرسل الصورة إلى جهة ما، ثم رفع هاتفه وأجرى اتصالًا قصيرًا، وحين جاءه الصوت من الطرف الآخر، سأله بهدوء:
"هل الصورة جيدة، سيدي؟"
"ممتازة..."
قالها ثم أغلق المكالمة دون كلمة إضافية، بينما نظر إلى الصورة التي ظهرت على شاشة هاتفه، ميلان يرفع يده لإيقاف سيارة الأجرة، وتلك النظرة الحادة التي لا تشبه أبدًا ذلك الطفل الذي رآه آخر مرة.
ابتسم بخفوت، وكلما حدق بصورة ميلان أكثر، توسعت ابتسامته، ثم تمتم بصوت هادئ للغاية:
"أخيرًا... وجدتك، تبين أنك تختبئ في عرين الشياطين"
.
.
.
.
.
.
.
Comments