العاصمة روما.
"قلت لك، لن أذهب، لما لا تفهم؟!"نطق ميلان بغضب صاحب الشعر البني والعيون الزرقاء، معبّرًا عن رفضه القاطع وهو يحدّق بالرجل الجالس أمامه.
ضرب جوزيف سطح مكتبه بعنف ونهض من كرسيه بحدة، وقال:"أنا أبلغك، لا أخيرك. خذ الملف واغرب عن وجهي."
منذ أكثر من نصف ساعة، وجوزيف يحاول إقناع ميلان بتنفيذ المهمة التي أوكِلَت إليه، لكنّ ميلان ظلّ رافضًا، إذ لم تتح له فرصة للراحة من أوامر جوزيف، فكلما أنهى مهمّة اغتيال خفية، كلّفه بأخرى.
لكن الجانب الجيد في الأمر أنّ ميلان لا يضطر إلى أكثر من القتل لان جوزيف يتكفّل بإرسال رجاله لمحو آثار الجريمة.
جوزيف يكلّف ميلان على وجه الخصوص بالمهام الشاقّة، لأنه يرفض أن يسمح له بالأكل من ماله، أو الاحتماء تحت سقف قصره دون فائدة. وقد تولّى تدريبه بنفسه، ولهذا لا يرحمه حين يتعلق الأمر بالعمل،
كما أن ميلان أصغر اتباع جوزيف ودائمًا ما يعامله بشكل خاص، رغم انه يقسو عليه أحيانًا.
قلب ميلان عينيه بملل واستدار ناويًا الخروج متجاهلا إياه، لكن ذراع جوزيف أمسكت به بقوة وجذبته الى الوراء.
تأوّه ميلان من الألم ثم دفع يد جوزيف عن ذراعه بغضب وصرخ باهتياج:"اللعنة عليك، آلمتني"
ما إن انتهت كلمات ميلان حتى تلقّى صفعة قوية على خده جعلت رأسه ينحرف إلى الجانب الآخر، لينظر إلى مساعدي جوزيف الواقفين بجانب الباب كالتماثيل، دون أن يحرك أحدهم ساكنًا.
تمتم ميلان بالشتائم، وقد اعترته مشاعر طفيفه من الإحراج والإهانة. لطالما كره أن يضربه جوزيف أمام الآخرين، وازداد ذلك كرهًا حين يصفعه دائمًا متناسيًا أنه لم يعد طفلًا او مراهقًا بل شاب بالغ.
"الملف."خرجت الكلمة من بين شفتي جوزيف ببرود وهو يعاود الجلوس على كرسيه الذي يتوسط المكتب.
تنهد ميلان بامتعاض، ثم التقط معطفه الطويل من على الأريكة، حمل الملف بيده، وسار نحو الباب. توقف لحظة من شدة حنقه، ثم التفت إلى جوزيف حين توسعت المسافة بينهما، وقال بحدة:
"اللعنة عليك"
لم يعره جوزيف أي اهتمام، وبقي جالسًا في على كرسيه العريض وهو يحدّق في ملفه القابع على المكتب.
كان أيدن على وشك الدخول إلى غرفته، لكنه توقف حين لمح ميلان يسير في ممرّ المقر بخطى سريعة وهو يتمتم بالشتائم ويعقد حاجبيه.
ابتسم أيدن بخبث، ومدّ قدمه أمامه، ليتعثر ميلان وكاد أن يسقط على وجهه لولا ذراع قوية التفّت حول خصره لموازنة جسده، وصوت هادئ اخترق مسمعه:
"هل أنت بخير؟"
"اللعنة عليك، أيها الكلب."نطق ميلان دون أن يرد على سؤال جوليان ثم رمى الملف في وجهه بحنق وغادر المقرّ.
لحق به جوليان بخطوات سريعة، محاولًا مجاراته، وقال:"لا تغضب، إنه يمازحك فقط."
توقف ميلان عن السير، والتفت إليه قائلاً بجدية:"لست غاضبًا بسبب ذلك المزعج. افتح الملف وانظر إليه."
فتح جوليان الملف، وألقى نظرة سريعة، ثم قال:
"سأذهب معك. بما أن المصحّ مضطرب، والمريض يعاني من فوبيا المستشفيات، طبيبه خاص. اسمه جيفري، يسكن في منطقة ريفية، بعيدًا عن الأنظار."
لاحظ جوليان الكدمة البارزة على خد ميلان، فتنهّد بخفة، وأخرج من جيبه لاصق جروح صغيرًا. وضعه برفق فوق موضع الصفعة.
ربت جوليان على شعر ميلان بحنان وهو يقول بابتسامة:"حاول أن تمسك لسانك قليلا، انها الصفعة الرابعة التي تلقيتها "
أبعد ميلان يده عن رأسه، ورد بحنق: "وكيف أفعل ذلك بينما المكان مليء بالكلاب المسعورة؟"
ربت جوليان على شعر ميلان بحنان، مبتسمًا وهو يقول: "حاول أن تمسك لسانك قليلاً، هذه هي الصفعة الرابعة التي تلقيتها."
أبعد ميلان يد جع عن رأسه، ورد بحنق: "وكيف أفعل ذلك بينما المكان مليء بالكلاب المسعورة؟"
أيدن يزعج ميلان باستمرار، وعندما يراه يمشي بجانبه، يمد ساقه ليوقعه أرضًا. في إحدى المرات، تعثر ميلان بساق أيدن وسقط بقوة على أنفه، حتى كاد أن ينكسر بسبب اصطدامه بالأرض.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
الساعة التاسعة مساءً
ترجل جوليان من سيارته، وتبعه ميلان حاملاً حقيبة جلدية، مرتديًا رداء طبي. سارا نحو بوابة القصر.
رمقهما الحارس بنظرة فاحصة، ثم وقف أمامهما معرضًا الطريق، وسأل وهو يحدق بميلان:
"من هذا؟"
رد جوليان بهدوء:"إنه ممرض، أحتاج إلى وجوده معي بما أن السيد يرفض الذهاب إلى المستشفى."
همهم الحارس بلا اكتراث، وقال:
"أعطني بطاقة شخصية."
أخرج جوليان بطاقته ومدّها له. وقبل أن يتمكن الحارس من تفحصها جيدًا، شعر بوخز في عنقه إثر حقنة مُخدرة غرسها ميلان في عنقه.
أمسك جوليان بكتفي الحارس وسحبه نحو الباب الجانبي حيث خبأه تحت الأشجار الكثيفة.
أخرج ميلان من حقيبته حبلاً بمشبك حديدي، ألقاه على سياج نافذة الطابق الثالث ثم شده بقوة وبدأ بتسلّق الجدار، تبعه جوليان وأغلق النافذة خلفهما.
دلف الاثنان إلى غرفة بيضاء في نهاية الطابق، حيث يرقد رجل في منتصف الثلاثين من عمره. رغم كونه مجرمًا وخارج عن القانون، إلا أنه يعاني من فوبيا المستشفيات ويكره رائحة الدماء، ولا يلطّخ يديه بها، بل يعتمد على مرتزقة محترفين.
استفاق الرجل على صوت أقدام واضحة في السكون، فرفع نصف جسده بوهن والتفت ليرى ميلان وجوليان يقفان قربه تمامًا، فوسّع عينيه رعبًا.
انتزع الأسلاك الطبية عن جسده بسرعة، مستعدًا للهرب.
ابتسم جوليان بخفة وتقدّم منه ليمسك بكتفيه معيدًا إياه الى السرير وقال:
"اهدأ، سيدي. لا داعي للذعر. أنا طبيبك الجديد، هل أنت جاهز للعملية؟"
"كاذب! أنا لم أطلب طبيبًا، ولا أحتاج لعملية! كيف دخلتما القصر؟! لا تقترب- أيها الحراااااس"
صرخ الرجل بذعر وخلع الاسلاك عن جسده بقوة ثم ركض نحو باب الغرفة، وصُدم من هدوء القصر وظلمته.
كاد أن ينزل الدرج، لكنه توقف فجأة عندما وقف أمامه ميلان وهو يبتسم باستهزاء:
"جميع من هنا نائم. فلتنبح كيفما تشاء."
ارتعد قلب الرجل، ثم التفت بسرعة إلى مصدر خطوات قادمة.
قبل أن يستوعب، غُرِس سكين حاد في منتصف ظهره، بصق دماء من فمه ووسّع عينيه ألمًا، ثم تراجع باضطراب حتى اختل توازنه
وضع ميلان ساقه أمامه الرجل ليسقط من الدرج الطويل والدماء لطخت الدرج خلفه
"أعتقد أن هذا كافٍ ليموت."قال ميلان ببرود، يحدّق في جسده المتدحرج على السلالم.
أومأ جوليان وأجاب:"لنغادر. انتهى عملنا"
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
العاصمة روما، مساءً
عاد ميلان منهمكًا إلى منزله، أخرج المفتاح محاولًا فتح الباب، لكنه وجده مفتوحًا، تنهد بضيق ودفع الباب ليدخل، لتقع عيناه فورًا على جوزيف الجالس على الأريكة، يدخن سيجارة وكأنه في منزله.
قلب ميلان عينيه بامتعاض وسار إلى الداخل دون أن ينبس بكلمة، ثم خلع معطفه ورماه عمدًا بجانب يد جوزيف التي تحمل السيجارة مسببًا وقوعها من يده.
"ألن تكفّ عن هذه التصرفات الطفولية؟"قال جوزيف ببرود، وهو ينهض عن الأريكة ويلقي بالسيجارة على الأرض ثم يدعسها بحذائه.
ردّ عليه ميلان بضجر وهو يسير نحو غرفته:"وأنت، ألا تنوي التوقف عن دخول منزلي دون إذن؟"
وقبل أن يبلغ ميلان عتبة غرفته، اعترض جوزيف طريقه بالوقوف أمامه، وقال بلهجة ساخرة:
"في كل مرة أرسلك فيها بمهمة، تعتمد اعتمادًا كليًّا على جوليان. ما فائدتك إذًا؟"
"وأنت دائمًا تعتمد عليّ، ما فائدتك أنت، أيها العجوز الخرف؟"تفوه بها ميلان ساخرًا ببرود
وحين أنهى جملته، تلقى صفعة قوية على خده،
أمسكه جوزيف من ياقة ملابسه بقوة، ورفع يده مشيرًا إلى السقف فوقهما وهو يقول بحدة:
"تعمل لدي لأنك تأكل من أموالي وتحتمي تحت سقفي. لا تنسَ مكانتك، ميلان، ولا تنسَ من جعلك ما أنت عليه الآن."
"اخرج من منزلي."قالها ميلان بنبرة حادة، وهو يزيح يد جوزيف عن ياقة قميصه.
تجاهل جوزيف أمره تمامًا، وعاود جلوسه على الأريكة، متكئًا بارتخاء ثم قال دون أن ينظر إلى ميلان:
"خذ حمامًا، وجهّز لنا العشاء."
"لا أمتلك طعامًا يكفي لشخصين."رد ميلان ببرود.
"لا بأس، سأطلب شيئًا."قال جوزيف بهدوء، وهو يخرج هاتفه من جيب معطفه، وبدأ بتصفّح قائمة الأطعمة.
اتجه ميلان إلى غرفته، وفتح خزانته ناظراً إلى ملابسه العتيقة، مدّ يده وأخرج منها ثيابًا مريحة رغم تهالكها، ثم مشى نحو الحمّام وأغلق الباب خلفه بصمت.
خلع ملابسه ودلف تحت الماء الدافئ، فيما عقله كان مشغولًا بالتفكير، لطالما كانت كلمات جوزيف تجرحه، خاصة حين يذكّره بمكانته، مجرد تابع تحت سقفٍ ليس له.
رغم أن جوزيف اعتنى بميلان في مراهقته، ووفّر له المأوى والطعام، لكنه لم يمنحه ذلك مجانًا. فقد جعله أداة قتل، وأشرف على تدريبه قسرًا.
كان ميلان في البداية يرفض القتل، ويبكي حين يرى الدم. يتشنّج جسده الصغير عند أول صرخة من ضحايا جوزيف الذي كان يسخر من دموعه.
يتذكّر ميلان تلك الليالي جيدًا... حين كان يُحبس في غرفة ضيقة، لا ضوء فيها سوى من نافذة صغيرة، يتركه جوزيف مع أرنب وسكّين، ويمنعه من الطعام إلا أن يقتل الأرنب.
كان ميلان يصرخ، يبكي، يتوسل ان يفتح له الباب ويطعمه، لكن لا أحد يأتي اليه بسبب جوزيف.
فيستسلم ميلان من الجوع وترتجف يده وهي تغرز السكين في جسد الأرنب، والامر ذاته يتكرر، إما أن يُحبس مع الحيوانات ويُجبر على قتلها أو يتركه جوزيف مع رجال مجرمين لتخويفه.
ومن يومها.. بات القتل امرًا طبيعيًا بالنسبة لميلان، يقتل أعداء جوزيف في مقابل أن ينال راتبًا ومأوىً وطعامًا.
خرج ميلان من الحمام وهو يجفف شعره بالمنشفة، رأى جوزيف يدخل غرفته بلا استئذان، كما يفعل دائمًا، وكأن المكان ملكه.
قال جوزيف وهو يحدّق به:"ماذا تشتهي أن أطلب لك؟"
ردّ ميلان ببرود، وهو يتجاوز جوزيف متوجهًا إلى الخزانة:"اطلب لنفسك، أنا سأجهز العشاء لنفسي."
اقترب جوزيف منه ومدّ هاتفه أمام وجهه قائلا"بيتزا أم دجاج مقلي؟ أو ربما تحب شطيرة لحم؟"
زفر ميلان بحنق ونظر الى جوزيف ليقول متهكمًا:"وهل عليّ أن أقتل أحدهم ثمنًا لطعامك اللعين؟"
أمسك جوزيف بالمنشفة وانتزعها من يد ميلان بخشونة ثم قال بصوت بارد ومنخفض وهو يجفف شعر ميلان المبلل بقوة:
"لا ترفع صوتك عليّ يا فتى، لم أُعلمك الجرأة لتردّ بجفاء على مَن يُطعمك."
خطف ميلان المنشفة من يد جوزيف ورماها على الأرض بعنف، وقال بغضب مكبوت:"لا أتحمّل وجودك في منزلي، لمَ لا تفهم؟!"
حدق جوزيف فيه بنظرات حادة،ليسمع صوت طرق على الباب، تنهد وخرج من الغرفة ثم فتح باب المنزل ليجد رجل التوصيل واقفًا امامه
أخذ جوزيف الطعام منه بعد أن أعطاه المال، ثم أغلق الباب بهدوء، وضع الأكياس على الطاولة، ثم نادى بصوت عالٍ دون أن ينظر للخلف:
"وصل الطعام، تعال إن كنت جائعًا."
خرج ميلان من غرفته ثم قال ببرود وهو يمر بجانبه متجهًا إلى المطبخ:
"كُل طعامك لوحدك."
أجابه جوزيف دون أن يلتفت إليه وهو يجلس على الكرسي:
"إذا لم تأكل... سأنام هنا الليلة."
توقف ميلان في مكانه وأطلق زفيرًا عميقًا، ثم اتجه نحو الطاولة وجلس بجانبه بضجر، قائلا:
"أتمنى أن تختنق بلقمتك."
تجاهله جوزيف، واكتفى بأخذ قطعة من البيتزا ليتناولها بصمت، مدركًا أن مجادلته لميلان لن تنتهي قبل الغد.
ساد الصمت في المطبخ للدقائق، لم يُسمع بعدها سوى صوت سعال ميلان الذي اختنق فجأة بلقمته.
نهض جوزيف من مقعده بسرعة واتجه إلى المطبخ، ثم عاد وهو يحمل بيده كأس ماء.
تناوله ميلان كأس الماء وشربه جرعة واحدة، فيما اقترب جوزيف منه أكثر، ومدّ يده ليمسح على ظهره بخفة.
وضع ميلان الكأس على الطاولة بعنف، وقال بصوت مختنق وهو يمسح طرف فمه:
"كل هذا بسببك."
"بل بسبب لسانك"
أجاب جوزيف ببرود وهو يسير نحو باب المنزل ثم التفت نحوه وتابع كلامه: "تعال إلن المقر باكر، اليكس ينتظرك"
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
الثامنة صباحًا.
دخل ميلان إلى المقر وسار بخطوات متكاسلة عبر ممراته الطويلة. لم يكن لينهض باكرًا لولا وجود أليكس الذي نادرًا ما يأتي الى المقر كونه يعمل جاسوسًا، وعميل مزدوج لدى جوزيف.
من وجهة نظر ميلان، يرى جوليان كأخيه الأكبر واقرب انسان له، وأليكس صديقه الذي يحب تواجده حوله، وأيدن حشرة مزعجة، اما جوزيف يراه كعجوز بلا فائدة فقط يلقي بأوامره.
انطلقت شهقة فزعة من شفتي ميلان، حين شعر بجسده يُرفع عن الأرض فجأة، فالتفت مذعورًا ليجد أليكس قد حمله على كتفه ككيس من البطاطس.
"لِمَ تمشي كالسُّلحفاة، أيها الكسول؟ تأخّرتَ عشر دقائق." قالها أليكس بحماس وهو يركض نحو غرفة التدريب،
فيما كان ميلان يصرخ غاضبًا ويضرب ظهره بقبضاته:"أليكس أُنزلني حالًا أيها الأحمق! سأُسقِطك من الدرج أقسم."
ضحك أليكس بصوت عالي، متجاهلًا تهديداته،
رأى آيدن أليكس يركض في الممر وهو يحمل ميلان على كتفه، بينما ميلان يصرخ بغضب ويشدّ شعره بكل ما أوتي من قوة. فقهقه آيدن بخبث، ثم مدّ ساقه في الممر على أمل أن يوقعهما معًا.
لكن أليكس لمح حركته في اللحظة الأخيرة، فقفز بخفة فوق ساقه الممدودة وقال مبتسمًا بانتصار:
"نلتُ منك هذه المرة."
قلب آيدن عينيه بملل، وحده ميلان من يتعثّر بقدمه، لأنه لا يرى أمامه، خصوصًا عندما يكون غاضبًا.
أنزل أليكس ميلان الذي ترنّح للحظة وشعر بدوار خفيف، فأمسك أليكس بيده وسحبه قائلاً بصوت مرتفع قليلاً:
"هيا، سنبدأ التدريب لانني ساغادر المقر لمدة طويلة مجددًا"
"لا أريد، واللعنة، أصبت بالدوار بسببك" نطق ميلان بحنق وهو يسحب يده بقوة من قبضة أليكس.
ضحك أليكس بخفة ونقر اكتاف ميلان وهو يقول بسخرية:"أنت نحيل للغاية، ألا تفكر في بناء بعض العضلات؟"
ردّ ميلان على الفور بامتعاض:"أكره العضلات، تجعلني أبدو كغوريلا."
"لن تتهرّب من التدريب هذه المرّة," قال أليكس وهو يسير إلى الداخل.
كلما عاد اليكس إلى المقرّ، يُجبر ميلان على الاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى غرفة التدريب، بحجة أن يدربه، لطالما سخر منه لكونه نحيلًا ولا يمتلك عضلات.
رمقه ميلان بنظرة منزعجة، ثم لحق به وهو يتأفف بتكلّف. لم يلبث حتى وضع يديه أمام وجهه ليصدّ ضربة أليكس المفاجئة.
حدّق ميلان بأليكس وقال: "هيه! هذا ليس عدلًا، انتظـ__"
لم يُنهي كلامه حين تلقّى لكمة على وجهه. تنهد ميلان واندفع نحو أليكس ليركله، لكن الأخير أمسك بساقه ودفعه إلى الخلف بقوة، ثم اقترب بسرعة من ميلان محاولًا إسقاطه أرضًا.
رفع ميلان قدميه سريعًا وركزهما على ركبتي أليكس، ثم ثبت يديه على كتفيه ورفع جسده للأعلى بخفة، فأصبحت قدماه للأعلى ويداه ممسكتان بأليكس في وضع مقلوب أشبه بحركة بهلوانية.
لكن قبل أن يستغل ميلان الموقف لإسقاطه، سحب أليكس ذراعيه فجأة، فاختل توازن ميلان وسقط أرضًا على ظهره.
لم يمنحه أليكس فرصة للنهوض، إذ انقض عليه بسرعة وجثا فوق صدره، واضعًا إحدى ركبتيه فوقه ثم ابتسم وهو يقول:
"لقد خسرت."
ابتسم ميلان وأنزل يديه على الأرض باستسلام، نهض أليكس عنه ومد يده ليساعده على الوقوف.
فُتح باب القاعة، ودخل جوليان بخطوات هادئة وابتسامة خفيفة مرسومة على شفتيه وهو يحمل منشفة وعلبة ماء.
"أنت دائمًا فطن، كيف علمت أنني عطِش؟ " قال أليكس وهو يمد يده نحو علبة الماء.
تجاهله جوليان تمامًا، واقترب من ميلان ومد له الماء أولًا، ثم وضع المنشفة على كتفه دون أن ينبس بكلمة.
ارتفعت حاجبا أليكس، وهو يراقب المشهد بعبوس خفيف:
"أتراني شفافًا؟"
"كلا، اذهب واشرب الماء اذا كنت تشعر بالعطش" رد جوليان مبتسمًا ثم ركز اهتمامه مجددًا على ميلان قائلاً بنبرة هادئة:
"شاهدتُ قتالكما في غرفة المراقبة، أنت رائع كالعادة."
ابتسم ميلان بخفة دون أن يرد، وهو يفتح عبوة الماء ويشرب منها جرعة واحدة.
رمش أليكس بتذمر، ثم انحنى قليلًا للأمام وقال:"وماذا عني؟"
التفت إليه جوليان وعلى وجهه ابتسامة هادئة:"لا شيء مميز، أنت هو أنت."
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
الحادية عشرة مساءً.
خرج ميلان من المقر بخطوات هادئة، وما إن تجاوز البوابة حتى تبعه جوليان بخطى سريعة وهو يقول:
"سأوصلك بسيارتي."
هزّ ميلان رأسه مبتسمًا بخفة، ورد بصوت منخفض:"لا، شكرًا لك."
ابتسم جوليان بخفة ثم مد يده وربت على شعره قائلاً:"إذا احتجت أي شيء، لا تتردد بالاتصال بي."
أومأ ميلان مجددًا بابتسامته الهادئة، فاستدار جوليان عائدًا إلى المقر، بينما بقي ميلان واقفًا على حافة الرصيف، يرفع يده لإيقاف سيارة أجرة.
حين كاد ميلان يعبر الشارع، شعر بضوء أبيض ساطع يضرب وجهه مباشرة، جعله يرفع يده ليحجب وهجه القوي ويغلق عينيه بشدة.
وضع ميلان يده في جيبه ليمسك سلاحه عندما شعر بخطوات خفيفة تقترب منه، فاستدار بسرعة بحثًا عن مصدر الضوء والصوت، لكن الشارع كان خاليًا كعادته في هذا الوقت، وكل شيء بدا عاديًا...يعرف هذا الضوء تمامًا إنه وميض كاميرا.
يدرك ميلان جيدًا كم يبدو وسيمًا، لكن ليس إلى درجة أن يظهر غريب من العدم فقط ليلتقط له صورة
تنهد بعمق وهو ينظر حوله مجددًا ولا أحد بجانبه ليركب سيارة الأجرة بهدوء متوجهًا الى منزله.
خلف أحد الجدران المتهالكة لزقاق شبه مظلم، وقف رجل بملامح حادة وهو يحدّق في شاشة هاتفه حيث ظهرت صورة واضحة لميلان.
أرسل الصورة إلى جهة ما، ثم رفع هاتفه وأجرى اتصالًا قصيرًا، وحين جاءه الصوت من الطرف الآخر، سأله بهدوء:
"هل الصورة جيدة، سيدي؟"
"ممتازة..."
قالها ثم أغلق المكالمة دون كلمة إضافية، بينما نظر إلى الصورة التي ظهرت على شاشة هاتفه، ميلان يرفع يده لإيقاف سيارة الأجرة، وتلك النظرة الحادة التي لا تشبه أبدًا ذلك الطفل الذي رآه آخر مرة.
ابتسم بخفوت، وكلما حدق بصورة ميلان أكثر، توسعت ابتسامته، ثم تمتم بصوت هادئ للغاية:
"أخيرًا... وجدتك، تبين أنك تختبئ في عرين الشياطين"
.
.
.
.
.
.
.
الواحدة بعد منتصف الليل.
ترجّل ألفريد ذو الشعر الأشقر من دراجته بعد أن ركنها جانبًا، وأخذ ملفًا أسود مختومًا وجهازًا إلكترونيًا محمولًا، وهو يرتدي ملابس سوداء بالكامل وقبعة تغطي شعره.
وقف أمام منزل ميلان وفتح الباب باستخدام شفرة حادة، ثم دفعه ودلف إلى الداخل، ليخبئ الملف والجهاز.
ترجّل ميلان من سيارة الأجرة ورأى باب منزله مفتوحًا، فعقد حاجبيه وتوجه إلى الداخل مسرعًا واضعًا يده في جيب سترته حيث مسدسه.
"هيه أيها الشاب ادفع ثمن التوصيلة" صرخ السائق بانفعال.
"لا تصرخ، عليك اللعنة. " أجاب ميلان وهو يعود أدراجه، ثم أخرج المال من جيبه ورماه في وجه السائق وأضاف:
"خذ أموالك اللعينة."
"مهلًا، خذ الباقي..." قال السائق بنبرة خافتة بالكاد تُسمع، معتقدًا أن ميلان سيترك له الباقي.
اقترب ميلان منه، وخطف بقية المال، ثم توجه إلى منزله.
"يا له من بخيل..." تمتم السائق بحنق، ولاعنًا نفسه لأنه طلب منه أخذ الباقي، ثم قاد سيارته مبتعدًا.
غطّى ألفريد عينيه بالقبعة حين خبأ الجهاز والعقد، وركض خارج المنزل مسرعًا، فاصطدم بكتف ميلان دون قصد.
استدار ميلان ولحق به راكضًا، وقبل أن يصعد ألفريد على دراجته، أمسك بمعصمه بقوة ثم أدار جسده إليه.
"ألفريد؟!" قال ميلان بدهشة عندما رأى وجه صديقه، ثم أردف مستغربًا:"لِمَ دخلت منزلي وهربت؟"
ارتبك ألفريد بشدة وهو ينظر إلى ميلان، وقال بتلعثم:"كنـ... فتحت قفل منزلك وظننتك نائمًا، وعندما لم أجدك... ذهبت... ظننتك... هناـ..."
"فهمت، فهمت، أكمل طريقك." نطق ميلان بملل وترك معصمه.
تنهد ألفريد بعمق، وأخرج هاتفه من جيبه حين سمعه يرن، لتتوسع حدقتاه قليلًا عندما رأى اسم المتصل، ثم رفع رأسه إلى ميلان الذي ينظر إليه بريبة.
"ما بك؟ أجب على هاتفك." نطق ميلان باستنكار.
"لا... سأجيب لاحقًا." قال ألفريد بتوتر وهو يكتم المكالمة، اقترب ميلان منه وخطف الهاتف.
"أعده إليّ، لا شأن لك!!" صرخ ألفريد بانفعال وسحب الهاتف من يد ميلان بخشونة، ومن غير قصد خدش يد ميلان بأظافره.
نظر ألفريد إلى يد ميلان التي نزفت قليلًا، فأمسك بها وقال بصوت خافت:"أعتذر، ميلان... لم أكن أقصد..."
"هل تتعرض لتهديد؟! لماذا تبدو خائفًا من الرد على هاتفك؟" قاطعه ميلان بريبة، وسحب يده ماسحًا الدماء بملابسه.
"لا، لا، الأمر ليس كما تظن... إنه..."رد الفريد بإرتباك مخفي.
"إنه ماذا؟!" قال ميلان بضجر.
"لا شأن لك، إنها خصوصياتي" قال ألفريد وهو يعيد الهاتف إلى جيبه.
"حقًا؟ وأنت أيضًا، لا تدخل إلى منزلي دون إذني" ردّ ميلان باستنكار.
"منزلك هو منزلي، ولا علاقة لهذا الأمر بالخصوصية." أجاب ألفريد بجدية.
ألفريد صديق ميلان منذ الطفولة، لطالما وقف بجانبه في كل شيء، منذ صغرهما وحتى الآن.
كما أنه شاب طيب القلب، غبي أحيانًا، سافر إلى فرنسا في سن المراهقة ولم يعد إلا قبل فترة وجيزة، لكنه لا يعلم أن ميلان قاتل.
صُدم ألفريد حين التقى بميلان بعد سنوات طويلة، فقد تغيّرت شخصيته بالكامل، وكأنه شخص آخر، حتى أنه شكّ للحظة أنه ليس هو، لكن ميلان أخبره بجميع أسراره.
ألفريد يعدّ ميلان كأخٍ له، وليس مجرد صديق، وميلان يشعر بالشيء ذاته. كلاهما يفهم الآخر دون الحاجة للكلام.
لكن الآن، لم يعد ألفريد يستطيع قراءة ما يجول في عقل ميلان، الذي تغيّر كثيرًا، وأصبح كتومًا للغاية، سريع الغضب والانفعال، لكنه لا يزال يفهم ألفريد جيدًا حين يكون واقعًا في مشكلة.
"افعل ما تريد، لن أسألك مجددًا." نطق ميلان بلا مبالاة، فابتسم ألفريد ابتسامة صفراء واقترب منه معانقًا إيّاه.
"لِمَ تُشعرني بأنك ستموت غدًا؟" قال ميلان وهو يبادله العناق.
ضحك ألفريد بخفة، ثم أنهى العناق قائلًا:
"اشتقت إليك فقط، غدًا سأأتي إلى منزلك باكرًا، وسأبيت لديك. استقبلني بعناق، وودّعني بقبلة."
أنهى ألفريد كلامه، وطبع قبلة على خد ميلان الأيسر، ثم توجه إلى دراجته وهو يلوّح له بيده.
ظهرت ابتسامة خفيفة على زاوية شفتي ميلان، فلوّح له للحظة، ثم دخل إلى منزله.
توقف ألفريد عن السير، والتفت إلى الخلف لينظر إلى ظهر ميلان وهو يدخل، ثم أخرج هاتفه وقرأ الرسالة:
«بعد غد سأفعّل جهاز التتبع. لديك يومان فقط لتستمتع معه، استخدمهما بحكمة ولا تضيّع الوقت.»
عضّ ألفريد شفته السفلى حتى نزفت، ثم أطلق تنهيدة عميقة، وركب دراجته مرتديًا خوذته، وانطلق مبتعدًا.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
خلع ميلان سترته ووضعها فوق الأريكة، ثم أطفأ أنوار الغرفة فغدت مظلمة، وجلس على الأرض ليسند رأسه إلى السرير ويمدّ إحدى ساقيه.
أخرج علبة سجائر من جيبه، أشعل واحدة، ووضعها بين شفتيه، ثم أغمض عينيه وأرخى رأسه إلى الخلف.
أراد أن يطلب من ألفريد البقاء معه هذا اليوم، لكن عندما رآه متوترًا، علم أنه قد أوقع نفسه في مشكلة، ومع ذلك، كان واثقًا أن ألفريد لن يخبره مهما حاول.
ميلان يحب قرب ألفريد منه لأنه يذكّره بأيام الطفولة، رغم أنها كانت مؤلمة ومليئة بالقسوة بسبب والده، لكنه كان سعيدًا أحيانًا، ربما لأنه كان طفلًا، وأبسط الأمور تُسعده.
أما الآن، حتى ألفريد بات منشغلًا عنه. عندما يُنهي ميلان تنفيذ أوامر جوزيف التي لا تنتهي، يطلب من ألفريد القدوم إلى منزله أو أن يذهبا سويًا إلى مطعم لتناول الطعام،
لكن ألفريد يتحجج دائمًا، مرة بالجامعة، وأخرى بأنه متعب، فلم يعد ميلان يدعوه كما كان.
امتدت ذراع وسحب السيجارة من بين شفتي ميلان الذي فتح عينيه ليرى جوليان أمامه، يمسك بها ويطفئها.
"التدخين مضر لصحتك." قال جوليان وهو يأخذ علبة السجائر من جيب ميلان ويضعها في جيبه.
"ما الذي تفعله هنا في هذا الوقت؟" تساءل ميلان ولم يستطع إخفاء الابتسامة التي ظهرت على وجهه.
ربت جوليان على شعره البني ثم جلس بجانبه وقال بابتسامة:"هل اشتقت إلي بهذه السرعة؟"
"بالطبع لا." أجاب ميلان مبتسمًا.
"ألم تشتق إليّ حقًا، أيها الوغد؟" قال جوليان وبعثر شعره بعنف.
أبعد ميلان ذراعه بحنق وقال:"كف عن ذلك، اللعنة على مخترع التربيت."
ضحك جوليان، وطوّق كتف ميلان بذراعه ليقرّبه إليه، ثم سأل:"لمَ لا يحتوي باب منزلك على قفل؟"
"ألفريد خلعه اليوم." أجاب ميلان.
عقد جوليان حاجبيه وقال بريبة:"ولمَ فعل ذلك؟"
"ظنّني نائمًا وأراد المبيت لدي، لكن وصله اتصال طارئ فغادر، وقال إنه سيأتي غدًا."
"أتعلم؟ أنا سعيد لأنه لم يأتِ اليوم. أحب أن ننفرد أنا وأنت وحدنا." قال جوليان بابتسامة وهو يحدق في ميلان، الذي ابتسم أيضا وفتح فمه ليقول شيئًا لكن قاطعه صوت يبغضه:
"أعتذر لإفساد المشهد، لكننا هنا." قال أيدن وهو يدخل الغرفة ثم أشعل الأنوار.
نهض ميلان بسرعة واقترب منه قائلًا بحدّة:
"اخرج من منزلي."
"أوه، جوليان، ما الذي تفعله هنا أنت أيضًا؟" قال أيدن متجاهلًا ميلان، الذي كان يتبعه بخطوات غاضبة.
أجاب جوليان، وهو ينهض عن الأرض ولم يُخفِ انزعاجه من قدوم أيدن:"وأنت؟ ما الذي أتى بك؟"
جوليان يحب طبع ميلان حين يكون هادئًا، قليل الشتم، لكن حين يرى أيدن، يصبح شديد الغضب وعدوانيًا.
"اخرج من منزلي، أيها الوغد" نطق ميلان بحدّة.
نظر أيدن إليه باستفزاز، ثم توجه إلى السرير واستلقى عليه بحذائه.
"أيها السافل، أبعد قدميك القذرتين عن سريري" قال ميلان بغضب واندفع نحوه، فشدّ شعر أيدن بعنف ورماه أرضًا.
"ابن الشوارع الهمجي" صرخ أيدن بغضب وهو يفرك شعره الأحمر، ثم نهض وكاد أن يضرب ميلان، لولا جوليان الذي وقف بينهما حاجزًا.
"كلاكما همجيّان، أيدن، ما كان ينبغي لك الاستلقاء على سرير ميلان بحذائك" قال جوليان موبخًا.
قلب أيدن عينيه بملل وقال:"وبّخ ذلك القرد أيضًا."
"هه، القرد أفضل من الكلب المسعور." رد ميلان بسخط.
التفت جوليان إلى ميلان وقال موبخًا إياه أيضًا: "وأنت ميلان ما كان يجب عليك سحب شعر أيدن بهذه الطريقة... هيا اعتذرا من بعضكما."
"إذا اعتذر ميلان سأفعل." قال أيدن بجدية.
"لن أعتذر منك حتى لو قبّلت قدمي." رد ميلان بازدراء.
"أرايت جوليان، من المخطئ هنا؟" قال أيدن بتذمر.
نظر جوليان إلى ميلان وتنهد قائلاً: "ميلان، اعتذر-"
"لن أعتذر من كلب الشوارع ذاك." قاطعه ميلان ببرود وهو يكف يديه إلى صدره.
تنهد جوليان باستسلام ثم أمسك بمعصم أيدن وجره خلفه خارج الغرفة قائلاً: "تاخر الوقت سنغادر، ميلان. أراك غداً."
"إلى اللقاء، لك وحدك." قال ميلان وهو يحدق بظهر أيدن بحنق، ثم أغلق باب غرفته واستلقى على سريره.
استلقى ميلان على جانبه، وسحب الغطاء إلى جسده وأغمض عينيه، لتتسرب ضحكة من بين شفتيه حين تذكر بعض أحاديثه، وحدث نفسه:
"اللعنة عليّ."
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
إيطاليا / إقليم صقلية.
كان نوح جالسًا على كرسيه الأسود، وجهه ذو بشرة بيضاء تبرز بوضوح تحت ضوء المكتب، شعره الأسود متساقط على جبينه، وعيناه رماديتان فاتحتان،يرتدي ملابس سوداء رسمية، تعكس هيبته وهدوءه المتحكم.
سمع نوح صوت كرق الباب، فترك الأوراق التي كان يترك توقيعه عليها، قائلا بهدوء:"ادخل."
دخل جون المكتب بهدوء ثم تقدم الى نوح وقال بإحترام:"سيدي، لقد استطاع المخترق الأمني تحديد موقعه العدو .وتبين انه من سرق عقد شركتك المفقود ايضًا"
همهم نوح دون أن يرفع رأسه، فأخرج جون هاتفه من جيبه وفتح صورة، ثم اعطاه الى نوح قائلاً:
"هذه صورة الشاب، يبدو في منتصف العشرينات."
نظر نوح إلى الصورة ميلان وعيونه اتسعت بدهشة، عينيه زرقاء فاتحة، وشعره بني مموج، بشرته بيضاء بشحوب، فيما ملامحه تشبه بشكل غير طبيعي
ابتسم نوح ابتسامة خفيفة بدا فيها شيء من الشيطنة، ما جعل جون يرتبك للحظة، وسأل:
"ما هي أوامرك، سيدي؟"
لم يجبه نوح وهو ينظر للصورة بعدم تصديق وقد شك بنظره لوهلة، فأخرج نظاراته من درج مكتبه وارتداها ثم نظر الى صورة مجددًا وهز رأسه باقتناع.
"سيدي؟!" قال جون بتردد
قال نوح وهو يرفع رأسه عن الصورة:"انتهى عملك، اخرج وأخبر أرون أن يأتي إلى مكتبي."
لم يتحرك جون وهو ينظر الى هاتفه بيده نوح الذي بحدة: "هل أنت أصم؟"
رد جون بصوت متوتر:"هاتفي، سيدي."
همهم نوح ثم أعطاه الهاتف وقال بهدوء:"قل منذ البداية أنك تريد هاتفك....أرسل لي الصورة."
أرسل جون الصورة إلى نوح ثم استأذن باحترام مغادرًا.
فتح نوح هاتفه، ونظر إلى وجه ميلان بتمعن، كأنه لا يكاد يصدق ما يرى، يكاد يكون مطابقًا لإيان تمامًا، سوى اختلاف بسيط في لون العينين.
مرر نوح إصبعه على الشاشة بخفة وتمتم بصوتٍ خافت:"مستحيل..."
ثم عاد يتأمل الصورة من جديد، وكأن عينيه ترفض التصديق، فاجاب نفسه:"لا... ليس مستحيلًا."
ابتسم نوح ببرود وأطفأ الهاتف، ثم تمتم لنفسه والابتسامة لا تفارق شفتيه:
"لا يهم من يكون... سأضع اسمي عليه."
.
.
.
.
استيقظ ميلان باكرًا على شعورٍ مزعج، وثقلٍ غريب فوق جسده. أدار رأسه بتكاسل وهو لا يزال نصف نائم، ليجد رأسً الفريد مسترخيًا على كتفه، وذراعًا أخرى تمتد بثقل فوق خاصرته.
دون سابق إنذار، أمسك ميلان بساق الفريد الأقرب إليه وسحبها بعنف، ثم دفعه بقوة حتى هوى جسده إلى الأرض
"آه ظهري... ما خطبك منذ الصباح؟" جاء صوت الفريد المتألم من الأسفل، مشوشًا بالنوم، ولم يعي ما يجري حوله.
اعتدل ميلان في جلسته على السرير، وهو يزيح شعره عن جبينه وعيناه نصف مفتوحتين، تطلان حيث الفريد الجالس على الأرض
"متى دخلت؟ ولماذا على سريري؟" قاله ميلان بنبرة حادة، لكنها تخلو من أي انفعال.
رفع الفريد رأسه، وهو فرك ظهره بتأفف وزفر ببطء، ثم أجاب:"منزلك بلا قفل... جئت في الرابعة فجرًا بعد أن أنهيت دراستي، كنت مرهقًا ونمت بجانبك، هل في الأمر كارثة؟"
توقف ميلان عند باب الحمام، التفت إليه بنظرة جامدة:
"ألا تمتلك ذرة احترام لخصوصية الآخرين؟"
ضحك الفريد بسخرية ناعسة وقال:
"خصوصية؟ بيننا أنا وأنت؟! "
صمت ميلان لثانية، ثم قال بنبرة باردة، هادئة:
"إذا كنت لا ترى أن بيني وبينك حدود، فسّر لي لمَ كنت خائفًا البارحة حين اتصل بك ذلك الرقم؟"
انكمشت تعابير الفريد ثم تمتم بجفاف وهو ينهض عن الأرض:
"أخبرتك... لا شأن لك. فقط... امهلني دقائق لأخذ كتبي وسأرحل."
لم يرد ميلان، فقط أغلق باب الحمام خلفه بقوة، أطلق الفريد تنهيدة عميقة ثم خرج من الغرفة ليجهز الفطور،
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
فتح الفريد الثلاجة بلا حماسة، أخذ بيضتين، وزجاجة الحليب، ثم أشعل الموقد بيدٍ واحدة وهو يمسح عينيه بالأخرى.
جهز القهوة لميلان والحليب له، ثم وضع البيض والخبز على الطاولة، رغم انه يحب الفطور الذي يجهزه ميلان لكنه لم يجرا على طلبه.
"الم تقل انك ستذهب؟" سأل ميلان باستنكار وهو يمر بجانبه نحو طاولة المطبخ ويجلس على الكرسي.
جلس الفريد بجانبه وقال ببرود متصنع وهو ياخذ الخبر: "ساتناول الفطور وارحل. "
لم يرد ميلان وبدأ يتناول فطوره ويشرب القهوة، والأمر ذاته مع الفريد الذي التقط كوب الحليب وأخذ يشربه.
نهض الفريد عن مقعده حين انهى طبقه وأخذ كتبه بيده، ثم توجه الى باب المنزل الخارجي، تبعه ميلان حين أنهى فطوره وارتدى حذائه.
"سأخذك الى الجامعة بسيارتي" قال الفريد، فرفض ميلان بالإيماءة برأسه نافيًا.
تنهد الفريد بضيق، يدرك أن ميلان لا يملك ثمن سيارة الأجرة وسيذهب سيرًا على الأقدام كعادته.
اقترب الفريد من ميلان وهو يضع يده في جيبه، ثم دسَ النقود في جيبه، فأخرجها ميلان مباشرة، واعادها له بعنف، قائلا بحدة:
"إذا كررت فعلتك هذه، لن تدخل منزلي مجددًا"
"هل ستأتي بسيارتي أم لا؟ منذ الصباح وأنت منزمج لانني دخلت الى منزلك" قال الفريد وهو يعقد حاجبيه وبدى عليه الضجر.
نظر له ميلان للحظة ثم دخل الى سيارته في المقعد الأمامي وأغلق الباب بعنف، حتى اهتزت النوافذ، تبعه الفريد وهو يتنهد بأسى.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
توقفت السيارة أمام الجامعة، فترجل ميلان منها وسار الى الداخل إلا أن الفريد اوقفه بإمساك معصمه برفق.
"سأتي إليك مساءً" قال الفريد بإبتسامة خفيفة.
أومأ ميلان موافقًا وسحب معصمه ثم توجه الى مقهى الجامعة ليعمل، أما الفريد فتوجه الى قاعة المحاضرات.
...........
دخل ميلان من الباب الجانبي وتوجه إلى المقهى الصغير الملاصق لمكتبة الكلية.
كان يعمل هناك كنادل منذ بداية الفصل الدراسي، بحث عن وظيفة براتب افضل، لكنه لم يجد، وقد سئم من اوامر جوزيف وتذكيره الدائم بأنه من يعطيه المال.
بدأ في تحضير الطاولات، ووضع قائمة الطلبات في أماكنها المعتادة، لم تمضِ دقائق حتى بدأ الطلاب يتوافدون، بعضهم يعرفه باسمه، وآخرون بالكاد يلقون عليه نظرة.
رنّ جرس الباب الصغير للمقهى حين دخل ثلاثة طلاب، ضحكاتهم تعالت، توجهوا الى إحدى الطاولات ليجلسوا عليها.
كان ميلان يلمحهم من خلف آلة القهوة، وعيناه توقفتا فورًا عند الشاب الأشقر، الذي يرتدي ملابس الفاخرة ونظرته المتعجرفة.
اسمه لينور، من عائلة ثرية وذات نفوذ، اعتاد استخدام ماله للهيمنة على من حوله، وبالأخص على ميلان. لم تكن هذه المرة الأولى التي يدخله فيها المقهى، ولم تكن نظراته الساخرة غريبة عن وجهه.
اقترب لينور من الطاولة، جلس متكئًا على ظهر الكرسي، وقال بصوت مرتفع ليسمعه الجميع:
"نادلنا المفضل، ميلان. أين أنت؟!"
ضحك رفيقاه بينما تجاهلهم ميلان ببرود، وتوجه إليهم بهدوء لتسجيل الطلبات، حافظ على نبرة صوته اعتيادية وهو يسأل:
"طلبك المعتاد؟"
أمال لينور رأسه قليلًا، نظر إليه بجرأة، ثم قال وهو يعبث بمعلقة السكر أمامه:
"كوبين من القهوة السوداء. بدون سكر."
اوما ميلان برأسه وسجل طلبه في دفتر صغير ثم ذهب ليجهزه. عاد بعد قليل وهو يحمل صينية وفوقها كوبين من القهوة، ثم وضع الكوبين أمام لينور، والتفت مغادرًا.
أمسك لينور بمعصمه ميلان قبل ان يخطو، فالتفت إليه ميلان بنظرة حادة، جعلت لينور يضحك بخفة ويترك معصمه قائلا:
"أجلس لنشرب القهوة معًا"
ارتفع حاجب ميلان باستنكار ونظر الى كوب القهوة ثم الى لينور وقال ببرود:
"لا شكرًا"
"لما تأخذ دور صعب المراس؟ أجلس أريد التحدث معك قليلا" رد لينور بملل وهو يضع ذراعه على الكرسي.
"تحدث مع الكلاب بجانبك"رد ميلان بسخط ثم التفت مغادرًا
كاد الشاب المدعو ريكاردو أن ينهض بغضب، فأمسك لينور بيده وأعاده ليجلس وقال:" دعه، أنا أعلم كيف سالقنه درسًا"
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
نهض لينور عن مقعده وتوجه إلى مكتب المدير خطواته سريعة، دخل ثم أغلق الباب خلفه، نظر حوله بحذر قبل أن يفتح أحد الأدراج الخشبية القديمة، خبأ المخدرات تحت كومة من الأوراق المهترئة ثم أغلق الدرج.
التفت فجأة، ليجد ميلان واقفًا عند الباب، ينظر إليه دون أن يرفّ له جفن.
"متى دخلت؟" سأل لينور بدهشة طفيفة وعيناه موسعة بشدة.
"منذ أن وضعت المخدرات تحت الأوراق." رد ميلان ببرود وهو يحدق به.
تراجع لينور نصف خطوة، فيما شفتاه ترتجفان والكلمات تخونه عما يريد التبرير عنه :
"الأمر ليس كما تعتقد......"
تجاهله ميلان ثم عبره بجانبه دون أن ينتظر الرد، فتح الدرج ببرود ومد يده حيث كيس المخدرات بين الملفات
سحب لينور ذراعه بقوة، ثم دفعه إلى الجدار خلفه، يده تضغط على صدره لتثبيته.
"أنت... لن تخبر أحدًا، صحيح؟"خرج صوت لينور منخفض يشوبه التوتر، يده المرتعشة على صدر ميلان كانت تفضح توتره الشديد.
"وإن فعلت؟" رد ميلان بتحدٍ وهو ينظر اليه ببرود دون ان يرمش.
تصلب فكّ لينور، ثم ضغط على أسنانه بقوة وقال بصوت منخفض:.
"كم تريد؟!"
"أتحاول رشوتي؟" قال ميلان بحدة.
رد لينور بنبرة متوترة:"لا يهم، أنت تحتاج المال، فقط قل لي كم تريد."
"لا أبيع كرامتي لأجل أموالك الرخيصة."نطق ميلان بحدة، وهو يدفع ذراع لينور عن صدره
لكن لينور لم يستسلم، حاصر ميلان بذراعيه الى الحائط وقال بعناد:
"سأعطيك المبلغ حالًا خلال مكالمة."
"ابعد يديك اللعينة"اهتاج ميلان صارخًا بغضب ودفع لينور بعنف
حينها سمع لينور صوت خطوات، ارتبك بشدة فأمسك بمعصمه ميلان وجره الى الحمام مسرعًا
سحب ميلان معصمه بحنق ونظر الى لينور صارخا: "ايها اللعي__"
أطبق لينور على شفتي ميلان ودفعه الى الحائط حين سمع صوت فتح الادراج
"أقسم ان صرخت، ساخبر المدير بأنك ساعدني بوضع المخدرات" هسهس لينور ببرود وهو يغلق فم ميلان الذي يرمقه بنظرات حادة.
حين أخذ المدير ملفه، خرج من مكتبه وأغلق الباب خلفه.
سمع لينور صوت إغلاق الباب، خرجت تنهيدة براحة من بين شفتيه، ثم أقترب من أذن ميلان وهمس:"إذا أخبرت أحدًا... سأبقى اتسلى مع ألفريد خلال السنة الدراسية."
توقف قليلاً ليرى أثر كلماته على ملامح ميلان الذي تجمد للحظة، سرعان ما استعاد توازنه ودفعه عنه بحدة قائلا:
"أنت حقير."
"شكرا لمديحك عزيزي،" رد لينور باستفزاز وربت على خد ميلان الذي دفعه بغضب شديد
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
بعد ثلاثة أيام // العاصمة روما
كان ميلان يعمل في المقهى الجامعي كعادته خلال استراحته من أوامر جوزيف، حين وصله استدعاء عاجل من الإدارة.
توقف عن تنظيف الطاولة، خلع مئزر العمل بسرعة، وتوجّه إلى غرفة المدير بخطوات حذرة. طرق الباب، ثم فتحه ببطء ودخل.
وجد المدير واقفًا خلف مكتبه، ينظر إليه بحدة، وذراعاه معقودتان إلى صدره.
ارتفع حاجب ميلان، مستغربًا من تعبير وجهه، واقترب قليلًا وقال بتوتر خافت:
"ماذا؟"
دون كلمة، ألقى المدير كيسًا بلاستيكيًا صغيرًا في وجه ميلان. ارتدّ الكيس ليسقط أرضًا، فتبيّن أنه يحتوي على مسحوق أبيض.
"كن شاكرًا أنني لم أتصل بالشرطة، أيها الحثالة... أخرج من الجامعة. أنت مطرود." نطق المدير ببرود شديد ونظرة الإزدراء ترمق ميلان.
تجمّد ميلان في مكانه للحظات، لكن غضبه تصاعد كبركان، ليس لأن المدير طرده، بل لأن الكلمة التي قالها - حثالة - طعنت كرامته. دون تفكير، تقدّم بسرعة ولكم المدير على وجهه بعنف.
"أيها الوقح!!" صرخ المدير غاضبًا، وردّ بلكمة سريعة على وجه ميلان، ثم صاح مستدعيًا الأمن بإنفعال شديد.
تقدّم رجل ضخم وسحب ميلان من ذراعه بعنف، يجرّه نحو بوابة الجامعة. لكن ميلان دعس قدم الحارس بقوة وسحب يده لينفلت، ثم ركض نحو قاعة المحاضرات.
فتح الباب بعنف، وعيناه جالتا في المكان حتى وقعت على هدفه لينور. كان البروفيسور في منتصف القاعة، والجميع حدّق فيه، من ضمنهم ألفريد... ولينور.
بلا أي تحذير، اندفع ميلان نحو لينور، أمسك بياقة قميصه وصرخ:
"أيها السافل الحقير، سحقًا لك ولأفعالك القذرة"
لكمه ميلان بشراسة على وجهه، حاول لينور الإفلات، لكن ميلان كان أسرع. أسقطه أرضًا واعتلى جسده، وبدأ ينهال عليه باللكمات بجنون، قبضته ترتطم بوجهه مرارًا، حتى تناثر الدم من أنفه وشفته.
ركض البروفيسور ليتدخل، لكن ألفريد سبقه، احتضن خصر ميلان وسحبه للخلف بقوة، مانعًا إياه من الاستمرار.
"اهدأ، ميلان..." قال ألفريد، صوته متردد، وذراعاه ما زالتا تحيطان به.
مسح ميلان وجهه بكفّه وهو يلهث، ثم اندفع خارج القاعة، خطواته أقرب للجري.
تحرّك ألفريد للحاق به، لكن البروفيسور أوقفه بإشارة حازمة.
أطلق ألفريد تنهيدة ضيقة، وعيناه تتنقلان بين الطلاب الذين سارعوا لإخراج لينور من القاعة. كان يعلم جيدًا أن لينور دائمًا ما يتنمّر على ميلان... لأنه فقير. وحاد اللسان، لا يصمت على من يُهينه حتى لو كان غنيًا.
كما وظيفته كنادل لا تكفيه حتى للعيش، لكن ميلان أصر بأن يعتمد على نفسه
.
.
.
.
.
.
.
.
.
جلس ميلان على الرصيف قرب الشارع، أسند مرفقيه إلى ركبتيه ودفن وجهه بين يديه،
تنهيدة طويلة هربت من صدره المثقل.
بحث سابقًا عن عمل مرارًا، ولم يجد سوى وظيفة نادل بالكاد تقيه الجوع، وقد أشفق المدير عليه حينها وسمح له بالعمل رغم أنه لم يُكمل دراسته.
صوت خطوات مقبلة جعله يرفع رأسه قليلًا.
رجل يرتدي طقمًا أسود وقف أمامه، يحمل ملفًا في يده، ووجهه خالٍ من أي انفعال.
قال الرجل ببرود، وهو يحدق في ميلان الجالس على الرصيف:
"الاسم: كاسيان، 43 عامًا، رجل أعمال يدير شركة Albrecht Group، شركة استثمارية تملك فروعًا في أوروبا والشرق الأوسط، تركز على العقارات. يعيش في جنوب صقلية، الحابة الاجتماعية أعزب. هذه معلومات من السيد جوزيف... لك."
رفع ميلان رأسه إليه وحدّق به بحدة، ثم قال بسخرية لاذعة:
"هل أذهب وأخطبه لجوزيف؟"
رد الرجل بجفاف من سخريته من زعيمه:
"اقتله."
تشنج فكّا ميلان من الغضب الذي ما زال بداخله، ثم أشار بيده بحنق:
"أغرب عن وجهي."
لكن الرجل لم يتحرك، اكتفى بالرد بنبرة جامدة:
"إن لم تفعل، سآخذك عنوة إلى المقر."
أطلق ميلان زفيرًا ضجِرًا، ثم نهض ببطء، سحب الملف من يده بخشونة، وسار صامتًا نحو السيارة.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
دفع ميلان باب غرفة جوزيف بعنف، فوجده يخلع سترته ويضعها على سريره.
"أنت تنام براحة، وأنا أعمل كالكلب، أنا استقيل منذ اليوم لن أنفذ أوامرك اللعينة..... خذ ملفك القذر" انهى ميلان كلامه بحدة ورمى الملف بوجه جوزيف.
لم يُصدم جوزيف من قلة احترام ميلان، فقد اعتاد على طباعه. التقط الملف عن الأرض وأشار للحارس بإغلاق الباب.
حين همّ ميلان بالخروج، استوقفه رجلان مسلحان. التفت إلى جوزيف وقال بغضب:
"دع كلابك تبتعد عن طريقي."
سحب جوزيف ذراع ميلان حين رأى وجهه المحتقن بالغضب وأجلسه على السرير، ثم قدّم له كوب ماء من الطاولة، ناوله إياه قائلاً بهدوء:
"تبدو غاضبًا، ما الذي حدث معك في الجامعة؟"
شرب ميلان الكوب دفعة واحدة، ثم وضعه على الطاولة ونظر إلى جوزيف بحنق:
"كل ما يحدث لي بسببك أنت."
قال جوزيف واضعًا يده على كتف ميلان:"أترك العمل في الجامعة، أنا اوفر لك كل ما تريد"
ابتسم ميلان بسخط وأجاب ساخرًا: "توفر لي ما أريد، بعد أن تجبرني على قتل أعدائك، أنت لا تراني سوى أداة للقتل"
ثم نهض ميلان عن السرير، لكن جوزيف أمسك ذراعه وسحبه مجددًا ليجلس، برفق هذه المرة.
وقبل أن يردّ ميلان، أحاطه جوزيف بذراعيه، معانقًا إياه إلى صدره. تصلب جسد ميلان، وتفاجأ، أراد الابتعاد، لكن ذراعي جوزيف شدّتا على جسده أكثر.
جوزيف يعرف ميلان جيدًا، يعرف نوبات غضبه وحدّة لسانه، وعلى الرغم من ذلك لم يعد يردّ عليه بالصراخ أو العقاب كما في السابق. منذ أن بدأ يفهم طبيعته، أدرك أن أفضل وسيلة لإخماد نيرانه ليست الغضب، بل العناق.
مع ذلك، أحيانًا يخرج جوزيف عن هذا الأسلوب، يغضب بشدة حين يرفض ميلان تنفيذ أوامره، ولا يتردد في توبيخه أو ضربه، لكن تعامله معه صار أكثر لطفًا مما كان عليه في السابق.
دائمًا ما يساير جوزيف ميلان، يحاول التهدئة وتلطيف الأجواء، بينما يرد عليه ميلان بوقاحة وجرأة، أحيانًا حتى أمام ضيوف جوزيف
ولهذا يفقد جوزيف أعصابه ويضربه، مما يزيد من حدة لسان ميلان ولا يتوب عن أفعاله.
همس جوزيف قرب أذن ميلان وهو يحيط جسده النحيل بذراعيه الصلبتين:
"لا بأس... خذ استراحة هذه الأيام. تبدو مرهقًا. واعلم أن من تقتلهم لا يستحقون الحياة أبدًا"
كان رأس ميلان مستندًا إلى صدر جوزيف، ولم يستطع إنكار شعوره بالراحة، خاصةً مع دفء ذراعي جوزيف حول ظهره. عناقه خفف عن كاهله ثقلًا لم يصرّح به، لكنه لن يتنازل ويعترف بذلك ابدًا.
جوزيف، يعرف ميلان أكثر من أي أحد، اختار أن يهدّئه حين انفجر غضبًا، بدلًا من أن يواجه وقاحته بالقسوة أو العقاب، كما كان يفعل سابقًا.
حين وعى ميلان على نفسه بأنه أرخى جسده براحة على جوزيف، ابتعد بسرعة ورفع رأسه ليرقب ملامح جوزيف، بحثًا عن سخرية، او تهكم.
ابتسم جوزيف بهدوء، ثم أسند يده خلف رأس ميلان من الخلف بلطف، قربه أكثر إلى صدره، ثم انحنى ببطء وقبّل جبينه بخفة.
ارتفعت حرارة وجه ميلان فجأة، فابتعد بسرعة وهو ينهض عن السرير. نظر إلى جوزيف بعينين متقدتين وبصوت حنق قال: "اللعنة، كم أكرهك حين تصبح عاطفياً."
ابتسم جوزيف بهدوء، وقال بنبرة هادئة لكن مشحونة بالدفء:
"ألم تشعر بالراحة أثناء عناقي لك؟"
تمتم ميلان بكلمات لا تُسمع إلا لنفسه، ثم استدار بسرعة وخرج من الغرفة، تاركًا جوزيف واقفًا في صمت، وكأن قلبه يملأه أملٌ خفي.
تسربت ضحكة خفيفة من بين شفتي جوزيف، فأطفأ الأنوار ثم استلقى على سريره.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
مساءً في العاصمة
ترجل ميلان من سيارة الأجرة وإتجه الى باب منزله وهو يخرج المفتاح، وقبل أن يضع المفتاح في المقبض إنفتح الباب فجأة بوسع.
اندفع الفريد الى ميلان وأحاط جسده بذراعيه معانقًا إياه بشدة، وقال بصوت قلق وهو يشد على احتضانه:
"علمت ما حصل، لا تأبه بشأن المال، أنا ساجد لك وظيفة في شركة خالي"
"لا داعي لذلك، لقد وجدت وظيفة أخرى بالفعل." رد ميلان وهو يُظهر شبح إبتسامة ويبادل الفريد العناق بخفة
فصل ألفريد العناق بعد لحظات قليلة، وحدق في وجه ميلان بدهشة طفيفة ارتسمت على ملامحه الهادئة، ثم قال بنبرة تحمل اهتمامًا حقيقيًا:
"كيف وجدت وظيفة بهذه السرعة؟ هل الراتب جيد؟ في شركة أم بدوام جزئي؟"
أجابه ميلان وهو يعدّل من وقفته وينظر إلى الجانب بلا اهتمام: "شركة مستقلة."
رفع ألفريد حاجبيه قليلاً: "مستقلة؟ تقصد شركة ناشئة؟"
هز ميلان رأسه بإيجاز: "شيء من هذا القبيل"
"ما اسم الشركة؟!" سال الفريد، فتأفف ميلان بضجر وهو يخلع معطفه ويضعه على الأريكة ثم جلس عليها.
"دعك منها، كيف دخلت الى منزلي؟"
"نسخت مفتاح منزلك" رد الفريد بابتسامة وهو يخرج المفتاح من جيب معطفه العسلي، فظهر الامتعاض على ملامح ميلان
قال ميلان بحنق وهو يمدّ يده:"هات المفتاح."
ردّ ألفريد بابتسامة مستفزة:"تعال وخذه."
تضيق حاجبا ميلان أكثر، فقال بحدة:"هاته، ألفريد، لا وقت لديّ لتفاهتك."
أجاب ألفريد متحديًا:"أتحدّاك أن تأخذه مني."
نهض ميلان عن الأريكة بانفعال واقترب منه، لكن ألفريد رفع المفتاح عاليًا، ولم يستطع ميلان الوصول إليه بسبب فرق الطول البسيط بينهما.
زمّ ميلان شفتيه بحنق وقال من بين أسنانه:"ألفريد... لا تختبر أعصابي."
ضحك ألفريد بخفة وهو يرد:"هل ستضربني؟"
أطلق ميلان تنهيدة ثقيلة، ثم استدار قائلًا ببرود متصنّع وهو يعاود الجلوس على الأريكة:
"احتفظ به، سأغيّر القفل غدًا."
لحق به ألفريد وجلس على الأريكة بجانبه، أرخى رأسه على كتف ميلان بكسل:"لا تغيّر القفل... أعدك أني لن أقتحم المنزل مجددًا... دون إذنك."
قبل أن يعلّق ميلان، قُطع هدوء المكان بصوت طرقٍ عنيف على الباب. فنهض واقفًا عن الأريكة نظراته حدّقت بالباب بحدة، ثم أشار لألفريد بإيماءة سريعة أن يبقى مكانه.
انكمش قلب ألفريد وتلبّسه توتر غريزي، وضع كفّيه على حافة الأريكة يراقب تحرّكات ميلان بصمت.
فتح ميلان أحد الأدراج وسحب مسدسًا صغيرًا وضعه في جيبه تحت صدمة الفريد، ثم سار نحو الباب بخطى ثابتة. أدار القفل ببطء، وفتح الباب جزئيًا.
رأى ميلان شابٌ طويل القامة، شعره أسود ناعم، عيناه زرقاوان باردتان، يرتدي ملابس سوداء أشبه بتلك التي يرتديها المرتزقة أو رجال المافيا،
أغلق ميلان الباب بسرعة، لكن جاكسون كان أسرع. وضع ساقه بين الباب والإطار، ثم دفعه بقوة حتى انفتح على مصراعيه.
تراجع ميلان خطوة، يده داخل جيبه تقبض على سلاحه حين دخل جاكسون بخطوات بطيئة رمق ألفريد بنظرة عابرة ثم عاد إلى ميلان وقال ببرود قاتل:
"أمامي إلى السيارة."
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد الطيبين
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon