الواحدة بعد منتصف الليل.
ترجّل ألفريد ذو الشعر الأشقر من دراجته بعد أن ركنها جانبًا، وأخذ ملفًا أسود مختومًا وجهازًا إلكترونيًا محمولًا، وهو يرتدي ملابس سوداء بالكامل وقبعة تغطي شعره.
وقف أمام منزل ميلان وفتح الباب باستخدام شفرة حادة، ثم دفعه ودلف إلى الداخل، ليخبئ الملف والجهاز.
ترجّل ميلان من سيارة الأجرة ورأى باب منزله مفتوحًا، فعقد حاجبيه وتوجه إلى الداخل مسرعًا واضعًا يده في جيب سترته حيث مسدسه.
"هيه أيها الشاب ادفع ثمن التوصيلة" صرخ السائق بانفعال.
"لا تصرخ، عليك اللعنة. " أجاب ميلان وهو يعود أدراجه، ثم أخرج المال من جيبه ورماه في وجه السائق وأضاف:
"خذ أموالك اللعينة."
"مهلًا، خذ الباقي..." قال السائق بنبرة خافتة بالكاد تُسمع، معتقدًا أن ميلان سيترك له الباقي.
اقترب ميلان منه، وخطف بقية المال، ثم توجه إلى منزله.
"يا له من بخيل..." تمتم السائق بحنق، ولاعنًا نفسه لأنه طلب منه أخذ الباقي، ثم قاد سيارته مبتعدًا.
غطّى ألفريد عينيه بالقبعة حين خبأ الجهاز والعقد، وركض خارج المنزل مسرعًا، فاصطدم بكتف ميلان دون قصد.
استدار ميلان ولحق به راكضًا، وقبل أن يصعد ألفريد على دراجته، أمسك بمعصمه بقوة ثم أدار جسده إليه.
"ألفريد؟!" قال ميلان بدهشة عندما رأى وجه صديقه، ثم أردف مستغربًا:"لِمَ دخلت منزلي وهربت؟"
ارتبك ألفريد بشدة وهو ينظر إلى ميلان، وقال بتلعثم:"كنـ... فتحت قفل منزلك وظننتك نائمًا، وعندما لم أجدك... ذهبت... ظننتك... هناـ..."
"فهمت، فهمت، أكمل طريقك." نطق ميلان بملل وترك معصمه.
تنهد ألفريد بعمق، وأخرج هاتفه من جيبه حين سمعه يرن، لتتوسع حدقتاه قليلًا عندما رأى اسم المتصل، ثم رفع رأسه إلى ميلان الذي ينظر إليه بريبة.
"ما بك؟ أجب على هاتفك." نطق ميلان باستنكار.
"لا... سأجيب لاحقًا." قال ألفريد بتوتر وهو يكتم المكالمة، اقترب ميلان منه وخطف الهاتف.
"أعده إليّ، لا شأن لك!!" صرخ ألفريد بانفعال وسحب الهاتف من يد ميلان بخشونة، ومن غير قصد خدش يد ميلان بأظافره.
نظر ألفريد إلى يد ميلان التي نزفت قليلًا، فأمسك بها وقال بصوت خافت:"أعتذر، ميلان... لم أكن أقصد..."
"هل تتعرض لتهديد؟! لماذا تبدو خائفًا من الرد على هاتفك؟" قاطعه ميلان بريبة، وسحب يده ماسحًا الدماء بملابسه.
"لا، لا، الأمر ليس كما تظن... إنه..."رد الفريد بإرتباك مخفي.
"إنه ماذا؟!" قال ميلان بضجر.
"لا شأن لك، إنها خصوصياتي" قال ألفريد وهو يعيد الهاتف إلى جيبه.
"حقًا؟ وأنت أيضًا، لا تدخل إلى منزلي دون إذني" ردّ ميلان باستنكار.
"منزلك هو منزلي، ولا علاقة لهذا الأمر بالخصوصية." أجاب ألفريد بجدية.
ألفريد صديق ميلان منذ الطفولة، لطالما وقف بجانبه في كل شيء، منذ صغرهما وحتى الآن.
كما أنه شاب طيب القلب، غبي أحيانًا، سافر إلى فرنسا في سن المراهقة ولم يعد إلا قبل فترة وجيزة، لكنه لا يعلم أن ميلان قاتل.
صُدم ألفريد حين التقى بميلان بعد سنوات طويلة، فقد تغيّرت شخصيته بالكامل، وكأنه شخص آخر، حتى أنه شكّ للحظة أنه ليس هو، لكن ميلان أخبره بجميع أسراره.
ألفريد يعدّ ميلان كأخٍ له، وليس مجرد صديق، وميلان يشعر بالشيء ذاته. كلاهما يفهم الآخر دون الحاجة للكلام.
لكن الآن، لم يعد ألفريد يستطيع قراءة ما يجول في عقل ميلان، الذي تغيّر كثيرًا، وأصبح كتومًا للغاية، سريع الغضب والانفعال، لكنه لا يزال يفهم ألفريد جيدًا حين يكون واقعًا في مشكلة.
"افعل ما تريد، لن أسألك مجددًا." نطق ميلان بلا مبالاة، فابتسم ألفريد ابتسامة صفراء واقترب منه معانقًا إيّاه.
"لِمَ تُشعرني بأنك ستموت غدًا؟" قال ميلان وهو يبادله العناق.
ضحك ألفريد بخفة، ثم أنهى العناق قائلًا:
"اشتقت إليك فقط، غدًا سأأتي إلى منزلك باكرًا، وسأبيت لديك. استقبلني بعناق، وودّعني بقبلة."
أنهى ألفريد كلامه، وطبع قبلة على خد ميلان الأيسر، ثم توجه إلى دراجته وهو يلوّح له بيده.
ظهرت ابتسامة خفيفة على زاوية شفتي ميلان، فلوّح له للحظة، ثم دخل إلى منزله.
توقف ألفريد عن السير، والتفت إلى الخلف لينظر إلى ظهر ميلان وهو يدخل، ثم أخرج هاتفه وقرأ الرسالة:
«بعد غد سأفعّل جهاز التتبع. لديك يومان فقط لتستمتع معه، استخدمهما بحكمة ولا تضيّع الوقت.»
عضّ ألفريد شفته السفلى حتى نزفت، ثم أطلق تنهيدة عميقة، وركب دراجته مرتديًا خوذته، وانطلق مبتعدًا.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
خلع ميلان سترته ووضعها فوق الأريكة، ثم أطفأ أنوار الغرفة فغدت مظلمة، وجلس على الأرض ليسند رأسه إلى السرير ويمدّ إحدى ساقيه.
أخرج علبة سجائر من جيبه، أشعل واحدة، ووضعها بين شفتيه، ثم أغمض عينيه وأرخى رأسه إلى الخلف.
أراد أن يطلب من ألفريد البقاء معه هذا اليوم، لكن عندما رآه متوترًا، علم أنه قد أوقع نفسه في مشكلة، ومع ذلك، كان واثقًا أن ألفريد لن يخبره مهما حاول.
ميلان يحب قرب ألفريد منه لأنه يذكّره بأيام الطفولة، رغم أنها كانت مؤلمة ومليئة بالقسوة بسبب والده، لكنه كان سعيدًا أحيانًا، ربما لأنه كان طفلًا، وأبسط الأمور تُسعده.
أما الآن، حتى ألفريد بات منشغلًا عنه. عندما يُنهي ميلان تنفيذ أوامر جوزيف التي لا تنتهي، يطلب من ألفريد القدوم إلى منزله أو أن يذهبا سويًا إلى مطعم لتناول الطعام،
لكن ألفريد يتحجج دائمًا، مرة بالجامعة، وأخرى بأنه متعب، فلم يعد ميلان يدعوه كما كان.
امتدت ذراع وسحب السيجارة من بين شفتي ميلان الذي فتح عينيه ليرى جوليان أمامه، يمسك بها ويطفئها.
"التدخين مضر لصحتك." قال جوليان وهو يأخذ علبة السجائر من جيب ميلان ويضعها في جيبه.
"ما الذي تفعله هنا في هذا الوقت؟" تساءل ميلان ولم يستطع إخفاء الابتسامة التي ظهرت على وجهه.
ربت جوليان على شعره البني ثم جلس بجانبه وقال بابتسامة:"هل اشتقت إلي بهذه السرعة؟"
"بالطبع لا." أجاب ميلان مبتسمًا.
"ألم تشتق إليّ حقًا، أيها الوغد؟" قال جوليان وبعثر شعره بعنف.
أبعد ميلان ذراعه بحنق وقال:"كف عن ذلك، اللعنة على مخترع التربيت."
ضحك جوليان، وطوّق كتف ميلان بذراعه ليقرّبه إليه، ثم سأل:"لمَ لا يحتوي باب منزلك على قفل؟"
"ألفريد خلعه اليوم." أجاب ميلان.
عقد جوليان حاجبيه وقال بريبة:"ولمَ فعل ذلك؟"
"ظنّني نائمًا وأراد المبيت لدي، لكن وصله اتصال طارئ فغادر، وقال إنه سيأتي غدًا."
"أتعلم؟ أنا سعيد لأنه لم يأتِ اليوم. أحب أن ننفرد أنا وأنت وحدنا." قال جوليان بابتسامة وهو يحدق في ميلان، الذي ابتسم أيضا وفتح فمه ليقول شيئًا لكن قاطعه صوت يبغضه:
"أعتذر لإفساد المشهد، لكننا هنا." قال أيدن وهو يدخل الغرفة ثم أشعل الأنوار.
نهض ميلان بسرعة واقترب منه قائلًا بحدّة:
"اخرج من منزلي."
"أوه، جوليان، ما الذي تفعله هنا أنت أيضًا؟" قال أيدن متجاهلًا ميلان، الذي كان يتبعه بخطوات غاضبة.
أجاب جوليان، وهو ينهض عن الأرض ولم يُخفِ انزعاجه من قدوم أيدن:"وأنت؟ ما الذي أتى بك؟"
جوليان يحب طبع ميلان حين يكون هادئًا، قليل الشتم، لكن حين يرى أيدن، يصبح شديد الغضب وعدوانيًا.
"اخرج من منزلي، أيها الوغد" نطق ميلان بحدّة.
نظر أيدن إليه باستفزاز، ثم توجه إلى السرير واستلقى عليه بحذائه.
"أيها السافل، أبعد قدميك القذرتين عن سريري" قال ميلان بغضب واندفع نحوه، فشدّ شعر أيدن بعنف ورماه أرضًا.
"ابن الشوارع الهمجي" صرخ أيدن بغضب وهو يفرك شعره الأحمر، ثم نهض وكاد أن يضرب ميلان، لولا جوليان الذي وقف بينهما حاجزًا.
"كلاكما همجيّان، أيدن، ما كان ينبغي لك الاستلقاء على سرير ميلان بحذائك" قال جوليان موبخًا.
قلب أيدن عينيه بملل وقال:"وبّخ ذلك القرد أيضًا."
"هه، القرد أفضل من الكلب المسعور." رد ميلان بسخط.
التفت جوليان إلى ميلان وقال موبخًا إياه أيضًا: "وأنت ميلان ما كان يجب عليك سحب شعر أيدن بهذه الطريقة... هيا اعتذرا من بعضكما."
"إذا اعتذر ميلان سأفعل." قال أيدن بجدية.
"لن أعتذر منك حتى لو قبّلت قدمي." رد ميلان بازدراء.
"أرايت جوليان، من المخطئ هنا؟" قال أيدن بتذمر.
نظر جوليان إلى ميلان وتنهد قائلاً: "ميلان، اعتذر-"
"لن أعتذر من كلب الشوارع ذاك." قاطعه ميلان ببرود وهو يكف يديه إلى صدره.
تنهد جوليان باستسلام ثم أمسك بمعصم أيدن وجره خلفه خارج الغرفة قائلاً: "تاخر الوقت سنغادر، ميلان. أراك غداً."
"إلى اللقاء، لك وحدك." قال ميلان وهو يحدق بظهر أيدن بحنق، ثم أغلق باب غرفته واستلقى على سريره.
استلقى ميلان على جانبه، وسحب الغطاء إلى جسده وأغمض عينيه، لتتسرب ضحكة من بين شفتيه حين تذكر بعض أحاديثه، وحدث نفسه:
"اللعنة عليّ."
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
إيطاليا / إقليم صقلية.
كان نوح جالسًا على كرسيه الأسود، وجهه ذو بشرة بيضاء تبرز بوضوح تحت ضوء المكتب، شعره الأسود متساقط على جبينه، وعيناه رماديتان فاتحتان،يرتدي ملابس سوداء رسمية، تعكس هيبته وهدوءه المتحكم.
سمع نوح صوت كرق الباب، فترك الأوراق التي كان يترك توقيعه عليها، قائلا بهدوء:"ادخل."
دخل جون المكتب بهدوء ثم تقدم الى نوح وقال بإحترام:"سيدي، لقد استطاع المخترق الأمني تحديد موقعه العدو .وتبين انه من سرق عقد شركتك المفقود ايضًا"
همهم نوح دون أن يرفع رأسه، فأخرج جون هاتفه من جيبه وفتح صورة، ثم اعطاه الى نوح قائلاً:
"هذه صورة الشاب، يبدو في منتصف العشرينات."
نظر نوح إلى الصورة ميلان وعيونه اتسعت بدهشة، عينيه زرقاء فاتحة، وشعره بني مموج، بشرته بيضاء بشحوب، فيما ملامحه تشبه بشكل غير طبيعي
ابتسم نوح ابتسامة خفيفة بدا فيها شيء من الشيطنة، ما جعل جون يرتبك للحظة، وسأل:
"ما هي أوامرك، سيدي؟"
لم يجبه نوح وهو ينظر للصورة بعدم تصديق وقد شك بنظره لوهلة، فأخرج نظاراته من درج مكتبه وارتداها ثم نظر الى صورة مجددًا وهز رأسه باقتناع.
"سيدي؟!" قال جون بتردد
قال نوح وهو يرفع رأسه عن الصورة:"انتهى عملك، اخرج وأخبر أرون أن يأتي إلى مكتبي."
لم يتحرك جون وهو ينظر الى هاتفه بيده نوح الذي بحدة: "هل أنت أصم؟"
رد جون بصوت متوتر:"هاتفي، سيدي."
همهم نوح ثم أعطاه الهاتف وقال بهدوء:"قل منذ البداية أنك تريد هاتفك....أرسل لي الصورة."
أرسل جون الصورة إلى نوح ثم استأذن باحترام مغادرًا.
فتح نوح هاتفه، ونظر إلى وجه ميلان بتمعن، كأنه لا يكاد يصدق ما يرى، يكاد يكون مطابقًا لإيان تمامًا، سوى اختلاف بسيط في لون العينين.
مرر نوح إصبعه على الشاشة بخفة وتمتم بصوتٍ خافت:"مستحيل..."
ثم عاد يتأمل الصورة من جديد، وكأن عينيه ترفض التصديق، فاجاب نفسه:"لا... ليس مستحيلًا."
ابتسم نوح ببرود وأطفأ الهاتف، ثم تمتم لنفسه والابتسامة لا تفارق شفتيه:
"لا يهم من يكون... سأضع اسمي عليه."
.
.
.
.
Comments