كان الليل قد تمدّد على القرية كعباءة ثقيلة، لا تُخفي سوى القلق.
من بين شقوق النوافذ، راقبت العيون أضواء المعسكر الجديد تتوهّج كأنها نجوم هبطت من السماء.
وفي أحد المنازل، جلس الطفل إيفان قرب المدفأة، يحتضن ركبتيه، وعيناه الزرقاوان تلمعان كقطرتين من الجليد تحت ضوء اللهب.
شعره الأبيض الناعم انسدل على جبينه بانسيابية، كأن الثلج استقر فوق رأسه قبل أن يعرف الشتاء طريقه للقرية.
كان مختلفًا... دائمًا ما قال الناس ذلك، لكنهم لم يعرفوا كم هو مختلف حقًا.
"لماذا لا أشعر بالراحة؟" همس لنفسه...
وفي تلك اللحظة، سُمع طرق خافت على النافذة... طرقٌ لم يكن من المفترض أن يكون هناك أحد خلفه.
تجمّد جسده في مكانه، وشهق بهدوء. من يطرق نافذته في هذا الوقت من الليل؟
نهض ببطء، خطاه خفيفة كأنها تمشي على ثلج هش.
مدّ يده نحو الستار، وقلبه ينبض بقوة غريبة... وسحب القماش بحذر.
لكن النافذة لم تُظهر وجهًا.
فقط ورقة صغيرة عالقة على الزجاج، تتراقص مع الريح، كتب عليها بخطٍ غريب:
"لقد بدأ الأمر... لا تُخبر أحدًا."
شعر بالخوف يتسلل إليه، وتمتم بصوت مرتجف:
"حقًا؟ لم يكن ينقصني سوى شخص يريد أن يلعب الآن... أجل، مجرد... لعبة."
ارتجف جسده وهو يتراجع نحو المدفأة، كأن دفئها هو آخر ما تبقّى له من أمان.
جلس بصمت، يحملق في ألسنة النار المتراقصة. عينيه الزرقاوين بدأت تَثقلان، والصمت من حوله صار أكثر كثافة…
...ثم فجأة وجد نفسه واقفًا أمام بوابة عملاقة من الحديد، وعليها محفور اسمه.
وقبل أن يمد يده نحوها، فُتحت من تلقاء نفسها، وصوت ناعم ـ كأن الريح تحدثه ـ همس له:
"لقد تأخّرت، صغيري..."
تقدم بخطوات حذرة، ليجد نفسه في حقلٍ من الزهور البنفسجية، تحركها نسائم دافئة غريبة.
وفي وسط الحقل، جلس رجل وامرأة… لم يستطع رؤية ملامحهما بوضوح، كأن وجهيهما مخفيان بالضوء.
كانت المرأة تهمس للرجل، ثم تضحك، فيضحك معها.
الرجل رفع رأسه فجأة نحو إيفان، وقال بصوت عميق دافئ:
"اقترب، لا تخف..."
تردد إيفان. قلبه كان ينبض بعنف، ليس خوفًا، بل شعورًا آخر…
كأنه يعرفهما، كأنه… اشتاق لهما دون أن يدري لماذا.
اقترب أكثر، وعندما أصبح قريبًا، مدّت المرأة يدها إليه، وبصوت فيه حنان غريب قالت:
"حافظ على قلبك يا إيفان... لا تدعهم يسرقونه منك."
ثم بدأ كل شيء يتلاشى…
صوت الريح تحوّل لعاصفة، الزهور تحوّلت لرماد، والبوابة انغلقت بصوت مدوٍّ…
وصوت الرجل صاح من بعيد:
"حين يحين الوقت… ستتذكّر."
استيقظ إيفان فجأة، أنفاسه متقطعة، وقطرات العرق تتصبب على جبينه. قلبه كان يخفق كطبول الحرب، وعيناه الواسعتان تحدقان في السقف وكأنهما تحاولان استيعاب الحلم... أو الرؤية.
لكن لم يكن هناك وقت ليفكر كثيرًا.
دوّي صوت بوقٍ بعيد، تلته أصوات صراخ ونداء في الساحة:
"يا أهل قرية برين! اجتمعوا حالًا أمام المعسكر! أوامر عاجلة من القيادة!"
جلس إيفان، متردّدًا، ثم نهض بخفة. في الخارج، بدأ الناس يتجمعون بوجوه متعبة وقلقة، يجرّون أطفالهم الصغار، ويلتفون بأوشحة تقيهم برد الليل.
وقف الجنود في منتصف الساحة، أحدهم كان ضخمًا، صوته كالرعد حين قال:
"الآن سنُخبركم ما جئنا لأجله."
تقدّم جندي آخر، عيناه جامدتان كصخر الجبال، وقال ببرود:
"هناك حرب قادمة... ليست ككل الحروب. العدو مختلف، والمواجهة هذه المرة تتطلب شيئًا آخر."
تلفّت القرويون بقلق، بينما تابع الجندي:
"نحتاج إلى مجنّدين من نوع خاص... أطفال. نعم، صغار في السن، لكن أقوى في التحمل... أسرع في التعلم. القادة قرروا بدء برنامج تدريب خاص يُخرج مقاتلين يتفوّقون على الكبار."
ساد صمت ثقيل، قبل أن يصرخ أحد رجال القرية بغضب وهو يتقدّم للواجهة:
"أطفال؟! هل تمزحون؟! نحن بالكاد نتحمّل الحرب... فكيف لصغارنا أن يصمدوا؟ سيموتون قبل أن يحملوا السيف حتى!"
توتّرت الأجواء، وبدأ الهمس والضجيج بين الناس، إلى أن أشهر رئيس القرية يده بالصمت.
كان رجلاً كهلاً، جبينه مجعّد من كثرة التفكير، وعيناه كأنهما رأتا كل ما يمكن للعين أن تراه من بؤس.
قال بصوت هادئ لكنه عميق:
"سيدي الجندي... اقنعني. أخبرني، كيف يمكن لأطفالٍ لم يغادروا حضن أمهاتهم بعد... أن يتحملوا مناظر القتل؟ أو أن يحملوا على عاتقهم وزر أرواح تُزهق؟"
توقف قليلًا، ثم تابع:
"لدينا رجال، سيدي. أقوياء. قادرون. خذوهم، لكن دعوا الأطفال يكبرون أولاً... دعوهم يبقوا بشرًا، لا آلات للقتل."
لم يجب الجندي فورًا... فقط نظر إلى القرويين، ثم إلى الطفل إيفان الذي كان يراقب بصمت من آخر الصفوف، ووميض من الإدراك الغريب يبرق في عينيه الزرقاوين.
كأن تلك الكلمات، وذلك القرار... كان يعنيه أكثر من أي أحدٍ آخر.
لم يكن الجندي يحدّق في إيفان وحده، بل مرّ بعينيه على وجوه جميع الأطفال الواقفين خلف أمهاتهم وآبائهم، كأنّه يزنهم بنظراته… يبحث عن شيء لا يراه سواهم.
ثم أعاد نظره إلى رئيس القرية، وقال بنبرة هادئة لكن صارمة:
"أنا أقدّر كلماتك يا سيدي، وأحترم حكمتك... لكن اعذرني، فهذه أوامر ملكية لا مجال فيها للنقاش."
توقف لحظة، ثم أكمل بنبرة أكثر صلابة:
"لقد أُخذ أطفالٌ من كل قرية، من كل مدينة… مملكتكم ليست استثناء، ولا قرية برين مميزة لتُعفى. الأمر أكبر منا جميعًا."
ساد همسٌ بين الحاضرين، لكن الجندي تابع دون أن يتأثر:
"ولن نأخذ الجميع، بل سنختار فقط... الأقوى، الأذكى، الأسرع، من يمتلك موهبة في السحر أو مهارات قتالية بالفطرة. هؤلاء فقط سيُعرضون لاختبارات خاصة، من ينجح فيها... هو من يُختار."
ثم أضاف بنبرة أكثر غموضًا:
"الأمر لا يتعلق بالعمر... بل بالقدرة. ومن يثبت نفسه، سيكون جزءًا من القوة القادمة."
تقدّم الجندي خطوة إلى الأمام، وراح ينظر في وجوه الحاضرين بنظرة باردة، كأنّه لا يرى فيهم إلا أرقامًا في سجلٍّ عسكري.
قال بصوت جهير:
"الاختيار لن يكون عشوائيًا… لسنا هنا لنأخذ أطفالكم كما تؤخذ الحملان للذبح. بل نبحث عن شيء نادر، لا يوجد في كل طفل."
توقّف لحظة، كأنه يتعمّد ترك الصمت يخنقهم، ثم تابع:
"لهذا، ستكون هناك اختبارات دقيقة، صُممت لكشف القدرات الحقيقية… ومن يُثبت نفسه، سيكون جزءًا من قوة لا مثيل لها."
تلفّت القرويون بقلق، وبعض الأطفال بدؤوا يقتربون أكثر من ذويهم، بينما أكمل الجندي:
"الاختبارات سبعة… ولن يُجتازها إلا من يستحق. سنختبر السحر، الشجاعة، القوة، الذكاء، سرعة البديهة، التحمل… وأخيرًا، القدرة على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت الحرج."
ثم شدد نبرته فجأة، وقال:
"ولن تنتظروا طويلًا. أمامكم ساعة واحدة فقط لتجهيز أطفالكم. بعد ذلك، يبدأ كل شيء."
سادت الهمهمات، واختلطت بالذعر والدهشة، بينما أضاف الجندي أخيرًا:
"هذا ليس طلبًا... بل أمر ملكي. من يتخلّف، يُعتبر مرفوضًا تلقائيًا."
ثم التفت مبتعدًا، تاركًا خلفه الصمت ينفجر كصرخة مكبوتة، وقلوب الأهالي تتسابق مع عقارب الساعة… ساعة واحدة فقط، كافية لتغيير حياة الكثيرين إلى الأبد.
وقفت الأمهات يمسحن دموع أطفالهن، يربّتن على أكتافهم، يحاولن إخفاء خوفٍ لا يمكن كتمانه.
في إحدى الزوايا، كانت أم سايان تمسك بيده بقوة، وكأنها تخشى أن يسلبه القدر منها.
قالت بصوتٍ مرتجف:
"سايان... لا أريدك أن تفوز، لا أريدك أن تذهب للحرب، ابقَ بجانبي، أرجوك."
لكن سايان، ذو الشعر الأحمر المتوهج والعينين الخضراوين اللامعتين، ابتسم بثقةٍ لا تشبه عمره، وقال بشجاعة:
"لا تقلقي، أمي... أنا متأكد أنني سأفوز، ليس لأذهب إلى الحرب، بل لأحميكم."
بينما كانت أم هارت تمسك بطفلها الصغير بقوة، اقترب منها زوجها، وضع يده على كتفها وقال:
"لا تخافي، إن شاء الله سيعود بخير، هو وإخوته."
ثم انحنى نحو هارت وقال:
"ابني، كن قوياً... لكن الأهم، لا تفقد قلبك وسط هذا العالم."
هارت، بشعره الأسود وعينيه البنفسجيتين الحالمتين، نظر إليهم مطمئناً، وابتسم بثقة حزينة:
"لا تخافوا، إن شاء القدر أن أصبح جندياً فسأكون، وإن لم يرد فلن يحدث شيء.
أمي، أبي... كل شيء سيكون بخير."
وعلى بُعد خطواتٍ قليلة، تحت ظل شجرةٍ هرِمة، كان إيفان يقف وحده.
شعره الأبيض يتطاير مع الريح، وعيناه الزرقاوان تتابعان المشهد بصمت. لم يقترب منه أحد، ولم يكن هناك من يودّعه... لا أمٌ قلقة، ولا أبٌ مطمئن.
مرّ جنديٌ شابٌ بجواره، توقف فجأة ونظر إليه باستغراب.
"أين والديك، أيها الفتى؟"
رفع إيفان نظره إليه، لكنه لم يجب...
لكن قبل أن يُكمل الجندي سؤاله، قاطعهم صوتٌ قويٌ أجشّ من وسط الساحة:
"أيها الأطفال! حان الوقت!"
كل الأنظار اتجهت نحوه، كان جندياً كبيراً في السن، يحمل درعاً محفوراً عليه شعار المملكة. صرخ بصوتٍ عالٍ:
"استعدوا، لقد حان وقت الإعلان عن الاختبارات السبعة!
الاختبارات التي ستقرر من منكم سيكون جندياً في جيش أنستازيا العظيم!**
سادت الساحة لحظة صمتٍ مشحونة، قبل أن يُكمل الجندي بصوتٍ حاسم:
**"سبعة اختبارات، لكل منها غايته:
اختبار الشجاعة في الظلام.
اختبار الذكاء وحل الألغاز القديمة.
اختبار التحمّل في العاصفة الباردة.
اختبار الولاء تحت ضغط الخيانة.
اختبار القوة البدنية في ساحة القتال.
اختبار السيطرة على الطاقة السحرية الخام.
وأخيراً... اختبار القلب، حيث يكشف جوهرك الحقيقي."**
أكمل الجندي وهو ينظر إلى أعينهم بحدة:
"من يجتازها، يكون جديراً بالانضمام، ومن يسقط... فليعد إلى منزله، إن استطاع."
---
في تلك اللحظة، شعر إيفان بشيء يتجمد في داخله... كأنه يعرف أن هذا اليوم، سيكون بداية طريق لا عودة منه.
وبينما تحرّك الأطفال بخطى مترددة نحو الساحة، انطلقت شرارة حمراء في السماء... ثم أخرى زرقاء... ثم ثالثة بنفسجية.
أضاءت فوق رؤوسهم كأنها تُعلن بداية شيء لا يشبه أي بداية...
نظر إيفان إلى الأعلى، وهمس لنفسه:
"الشرارة اشتعلت... والظلام بدأ يفيق."
> ثم خطا أول خطوة نحو قدره.
Comments