في أعماق السجن، حيث يمتزج الظلام بأصوات الأنفاس الثقيلة، كانت العيادة مكانًا لا يحمل من الرحمة سوى اسمها. جدرانها البيضاء المتآكلة لم تكن تبعث على الطمأنينة، بل كانت أشبه بكفنٍ يطوّق المرضى، مكانًا حيث تنبعث رائحة الدم والأدوية العتيقة، وكأنها شهادة على كل أولئك الذين مرّوا من هنا ولم يعودوا. الإضاءة الخافتة ترمي بظلالها على الأرضية المتشققة، تنعكس على وجه الطبيب العجوز الذي بدا كما لو أنه أحد نزلاء السجن، سجينٌ آخر حُكم عليه بالبقاء هنا وسط أجسادٍ تتهاوى، وسط صرخات مكتومة، ووجوهٍ تعلم أن الألم هنا ليس إلا محطة عابرة قبل الموت و النسيان.
على أحد الأسرّة الحديدية، كان طارق ممددًا، جسده ساكن لكنه لم يكن مستريحًا. ضمادٌ أبيض يغطي بطنه حيث الطعنة الغائرة، لكن الألم لم يكن ليُحبس خلف تلك الطبقة القطنية، كان يتغلغل في داخله، نابضًا في كل جزء من كيانه. أنفاسه كانت هادئة، لكنها ثقيلة، كأن صدره يختزن الرياح العاصفة. حوله، وقف أصدقاؤه، مصطفى وأدهم وكرم، وجوههم غارقة في ظلال الهمّ، وكأنهم يحملون وزر ما حدث بأكتافهم. كان كرم صامتًا، لكنه ، كان محاصرًا في صراع داخلي أشد وطأة من الصمت نفسه. عيناه، اللتان كانتا دومًا تحملان لمعة الثقة و القوة و الإستولاء ، بدتا مطفأتين، فارغتين ، غير شعور ثقيل بالذنب . لم يكن بحاجة لقول شيئ ، فقد كان واضحًا في نظرته التي تتجنب الالتقاء بعيني طارق المغمضتين. لم يستطع الاحتمال أكثر. استدار فجأة، وكأنما يحاول الهروب من نفسه، لكن أدهم لم يكن ليسمح له بذلك.
- إلى أين ؟
جاء صوت أدهم هادئًا محمّلا بصرامة لا تقبل النقاش. "أنت لست المذنب هنا."
التفت إليه كرم ، عيناه مليئتان بالغضب الموجه إلى قرارة نفسه
–لو لم أختر هؤلاء الرجال ، لو لم نضع هذه الخطة ..
قاطعه أدهم، مقطبًا حاجبيه:
– ولو لم يفعل ذلك؟ كنا سنفشل قبل أن نبدأ، سيرفض الأعرج مساعدتنا ، وربما كنا لنكون في زنزانة انفرادية ،أو أسوأ .
أخذ خطوة للأمام، نبرته ازدادت حدة، محمّلة بثقل الحقائق التي لم يكن كرم يريد سماعها.
-طارق لم يُجبر على شيء. لقد اختار هذا بنفسه ، كان يعلم أن هذه هي الطريقة الوحيدة لإنجاح خطتنا.
لم يستطع كرم إنكار الحقيقة القابعة خلف كلمات أدهم ، كون لا شيء يأتي دون ثمن، وكون طعنات الحرية دائمًا ما تكون أشد ألمًا من سلاسل العبودية.
كان الأعرج يراقب بصمت. لم يكن غريبًا على هذه المشاهد، لكنه كان يرى الآن أمرًا مختلفًا، أمرًا لم يعتد عليه في هذا المكان البائس. هؤلاء الرجال لم يكونوا مجرد سجناء آخرين يتصارعون للبقاء، لم يكونوا مجرد حثالة منسية في قعر هذا الجحيم ، كانوا مختلفين، كانوا يحاربون من أجل شيء أكبر. وللمرة الأولى منذ سنوات، شعر أنه ربما ، فقط ربما، لم يكن وحده بعد الآن.
في العتمة التي يختبئ فيها الحاضر، ينبثق الماضي كجمرٍ تحت رماد النسيان، يحرق حين تلامسه الذكرى، يعيد صياغة الألم وكأنه يحدث للمرة الأولى. كان الأعرج جالسًا هناك، بجسده المتهالك، بعينين تحدقان في الفراغ، جسده هنا ، لكن عقله في مكان آخر، في زمان آخر، حيث بدأ كل شيء.
كان شابًا آنذاك، ليس أقوى مما هو عليه الآن، لكنه كان يملك شيئًا لم يعد موجودًا ،كان يملك ساقًا سليمة ، وكان يملك غرورًا لا يعرف معنى الانكسار . بأحد الأحياء المنسية من المدينة، حيث الأزقة أضيق من أحلام ساكنيها، حيث الفقر يتجاوز كونه حالة ، إلى اتسامه كهوية ، نشأ الأعرج .
لم يكن يعرف اسمًا آخر غير ذلك الذي أطلقه عليه السجن، لكن هناك لم يكن بعد أعرجا ، كان مجرد إيهاب ، كان شخصًا مختلفًا، شخصًا يؤمن أن القوة تحكم، وأن العالم لا يمنح شيئًا بالمجان. كان يعمل لصالح رجل لا يُذكر اسمه إلا همسًا، رجلٌ لا يُرى إلا في الظلال، حيث تُعقد الصفقات القذرة، وحيث البشر أنفسهم يصبحون عملة تُشترى وتباع. إيهاب لم يكن سوى واحدٍ من أتباعه، مجرد يدٍ أخرى تنفذ الأوامر، غير أنه كان يرى في قرارة نفسه شيئًا أكبر من مجرد خادمٍ للظلال.
في تلك الليلة، تغير كل شيء، كان قد كُلّف بمهمة بسيطة؛ حقيبة صغيرة ، وجهة محددة، ورجل يجب أن يسلمها له دون أسئلة. لم يسأل، لم يهتم، لم يكن يريد سوى المال الذي سيحصل عليه مقابل المهمة. اضطر للمرور من ذلك الحيّ ، لم يكن حيّه، كان ملكًا لرجالٍ آخرين، رجالٍ لا يعترفون إلا بمنطق السلاح والدم. عبر الزقاق الضيق، شعر بعيونٍ تراقبه، لم يتوقف، لم يُظهر أي تردد. كان واثقًا، وكان هذا هو خطؤه القاتل ، ثم سمع الصوت الذي كان يجب أن يخشاه.
–أنت ، توقف.
التفت ببطء، ورآهم،كانوا أربعة رجال، وجوههم نصف غارقة في الظل، عيونهم كانت واضحة، قاسية و متوحشة.
– تظن أنك تستطيع العبور من هنا وكأنك لا تحمل شيئًا؟
لأمسك الحقيبة بإحكام، وهذا كان كافيًا لإشعال الفوضى. لم تكن معركة، لم تكن قتالًا بين متكافئين، كانت مذبحة.
الضربة الأولى جاءت إلى بطنه، كانت عنيفة، جعلت الهواء يخرج من رئتيه دفعة واحدة. حاول المقاومة، لكنهم كانوا أكثر، أقوى، أشرس. اللكمات، الركلات، الضربات، كل شيء كان يتوالى عليه كما لو أنهم أرادوا تحطيمه إلى أجزاء. سقط على الأرض، أصبح عاجزًا عن الحراك، جاءته الضربة التي لن ينساها أبدًا. كان أطولَهم ، أكثر هدوءًا، وأكثر وحشية، جلس القرفصاء أمامه، ثم قال بصوتٍ هادئ، صوت رجل اعتاد أن يكون القاضي والجلاد:
– أتعرف ما مشكلتك؟ أنك تحسب نفسك أهم مما أنت عليه. لكن لا بأس، سنجعلك تتذكر حجمك الحقيقي.
أمسك بساقه اليسرى. ودون مقدمات،دون تحذير، شعر فقط بالألم ، الألم الذي صرخ في كل خلية من جسده حين سقط الحجر الثقيل فوق ركبته ، الألم الذي جعله يصرخ، يصرخ كما لم يصرخ من قبل، صوتٌ لم يكن مجرد أنين، بل كان إعلانًا عن ولادة جديدة، عن رجلٍ لن يمشي كما كان يمشي، عن جسدٍ لن يكون كما كان.
كسروا ساقه كما يُكسر غصنٌ جاف تحت قدم عابرة، وتركوه هناك، يزحف وسط القذارة والدماء، يجرّ نفسه إلى الظلام، وحين وصل، حين استطاع أن ينجو، لم يكن إيهاب نفسه ، كان شخصًا آخر، كان شيئًا آخر، كان الأعرج.
في العيادة، عاد الأعرج إلى وعيه ، نظر إلى الرجال الواقفين حول طارق، إلى أدهم، إلى مصطفى، إلى كرم الذي بدا غارقًا في الذنب، ثم شعر بشيء لم يعرفه من قبل. فحين كُسرت ساقه في تلك الليلة، لم يأتِ أحد لينقذه، لم يكن هناك صديقٌ يحمل عنه الألم، لم يكن هناك وجهٌ ينظر إليه بحزنٍ أو قلق. كان وحده، وحين نهض من جديد وحيدا ، قرر أن يبقى كذلك.
لكنه الآن يرى كرم يضع رأسه على كتف طارق، يرى مصطفى يحدق بصمتٍ في الأرض، يرى أدهم يشدّ قبضته كما لو أنه يرفض تقبل الخسارة...
-ربما ،فقط ربما ، لم أعد وحدي بعد الآن.
كانت هذه الفكرة غريبة، مربكة، لكنها لم تكن مزعجة ، لأول مرة منذ زمن بعيد، شعر بشيء يشبه الطمأنينة. لكنه لم يسمح لنفسه بالغرق فيها. أخذ نفسًا عميقًا، ثم خطا إلى الأمام، واقترب من طارق محدقا بعينين المغمضتين.
أرخى الليل ستاره على السجن، انخفضت الأصوات، هدأت الهمسات، أصبح الهواء أكثر ثقلاً، وأكثر سكونًا، كان هناك صوت آخر ينسل بين الجدران ،أنين خافت. حركة بطيئة. شهقة ألم مكتومة. فتح طارق عينيه.
كان الضوء شحيحًا، والظلال تتراقص على السقف المتشقق، لكنه لم يكن بحاجة للكثير من الضوء ليدرك أنه ليس وحيدًا. جلس أمامه الأعرج، وكرم إلى جانبه، كل منهما يحدق به بطريقة مختلفة.
كان الأعرج يحمل في عينيه نظرة لم يرها طارق من قبل، مزيجًا من الترقب والاحترام، وربما شيء آخر، شيء لم يكن الأعرج نفسه يدركه تمامًا. أما كرم، فكان ينظر إليه كأنما يبحث عن إجابة، كأنما يحتاج لسماعه يقول شيئًا، أي شيء، ليتأكد أنه ما زال هنا، ما زال جزءًا من هذه الخطة، من هذه الحرب الصامتة.
حاول طارق أن يتكلم، لكن حلقه كان جافًا، فتنحنح بصعوبة قبل أن يهمس:
– كم ؟
تردد قليلًا، ثم تابع بصوتٍ أجش:
-كم من الوقت بقيت هنا
ابتسم الأعرج ، ابتسامة خفيفة، لكنها لم تكن ساخرة كما اعتاد.
–وقتٌ كافٍ لأتأكد أنك ما زلت حيًا.
أدار طارق عينيه ببطء نحو كرم، الذي لم يقل شيئًا بعد. كان الصمت بينهما مليئًا بأقوال مخفية غير معلنة، مليئة بالذنب، و الامتنان، وبمشاعر لا تحتاج كلمات لتُفهم.
كسر الأعرج الصمت بنبرة لم تخلُ من الجدية:
– أعتقد أنه حان الوقت لنخبرك بشيء مهم.
نظر إليه مصطفى ، أومأ برأسه ،فأكمل الأعرج ، بصوتٍ منخفض ، صوت يحمل شيئًا شبيها بوعد، شيئًا شبيها بمصيرهم المحتوم.
– حان وقت الهروب.
***Téléchargez NovelToon pour profiter d'une meilleure expérience de lecture !***
10 épisodes mis à jour
Comments
Ryoma Echizen
Cette histoire est comme une drogue pour moi. J'ai besoin de ma dose de chapitre suivant !
2025-01-30
0