مصطفى ¶

مصطفى ¶

قلبٌ مضلم ¶

-أسوأ السجون ، تلك التي نبنيها داخلنا، حيث لا قضبان تُرى، ولا أبواب تُفتح.

لم يكن مصطفى بحاجةٍ إلى التأمل طويلًا ليدرك أنه كان سجينًا منذ القدم ، حتى قبل أن تطبق عليه جدران هذا المكان البائس ؛ كومة الحجارة الباردة العارية المتآكلة هذه ، تفوح منها رائحة ،من فرط قسوتها يُخيل أن جثثا ، مقطوعة الرأس ، ملقاة هنا و هناك ، تلمع بها الفئران أسنانها الرمادية الوسخة ، تحوم حولها آناء الليل ، فإذا راودت قضمة لقيت مصرعها في الحال ، كان المكان سوداويا ، قاتما ، سواده من سواد الليل ورث منه كل صفاته ، بارد ، يلذغ بروده الجسد و النفس و الروح و يحفرها حد النخاع .

إن الليل هنا مختلف ؛ لا يُستدل عليه بالقمر ، ولا يُنقش بالنجوم ، لا عشاق يتبادلون الحب تحت هدوئه ، ولا شخير نيام يعلو أرجاءه ، دون أدنى صوت ، دون أدنى نفس ، ما يمكن تمييزه هو ظلامٌ أبديٌّ يبتلع كل شيء من سقفٌ مشقّق، فراشٌ قذر لا يصلح حتى للكلاب الضالة، وهواءٌ مشبعٌ بالرطوبة، يتسلل إلى الصدور كسمٍّ بطيء. كل شيء في هذه الزنزانة كان يُذكِّر مصطفى بأنه لم يعد إنسانًا، بل مجرد رقمٍ أضيف إلى قائمة طويلة من المنسيين ، أولئك الذي ضحى بهم القدر ،و رماهم في بئر المجهول ، أولئك الذين إختاروا الموت عنوة ، فخذلتهم .

السجن لم يكن الأسلاك الشائكة التي تلوح في الأفق، ولا الأبواب الحديدية التي لا تنفتح إلا بأوامر قاسية يختلف وقعها على مسامعهم ، و تتناور حدتها على أفئدتهم ، بل كان قابعًا في صدره ، في روحه التي أُثقلت بالندم، بالخسارات و الذكريات التي تأبى أن تموت.

جلس في زاويته المعتادة، مستندًا إلى الحائط البارد، يحاول أن يتجاهل الآلام التي تنخر جسده و سموم عقله التي تتسلل إلى عروقه البارزة ، و الهلوسات التي تكاد تصيبه بالجنون ، و أشواك جوعه التي تنخزه بين الفينة و الأخرى . تحسس معصميه المثقلين بالقيود، شعر ببرودة المعدن على جلده، وكأنه امتدادٌ لجدران السجن نفسها ،و كأنها تعبير ملموس على مشاعره و آماله و أحلامه. و حوله، في الزنزانة نفسها ، كان رفاقه الثلاثة، كُل على حدة ، غارق في عالمه، يتخبط للنجاة من دوامة إفكار تكاد تجرف حياته للأبد .

كان كرم مستلقيًا على الأرض، يحدق في السقف بعينين سوداوين نصف مغمضتين أهلكهما التعب ، يحاول أن يرى شيئًا لا وجود ولا هيئة له ، على بعد خطواتٍ منه، جلس طارق متكئًا على ركبتيه المنخورتين ، يحرك أصابعه في الفراغ بانشغال، كما لو أنه يعزف لحنًا غير مسموع ، محاولا إضفاء بعض الحياة على عقله ، متشبثا ببعض ما بقي له من إنسانيته و عقلانيته . أما أدهم ، فكان في الركن المعتم من الزنزانة، ساكنًا كالظل، عيناه تراقبان الجميع بصمتٍ ثقيل و نظرات شفقة مُثلى على ما تركهم فيه الزمن .

-أتظنون أن هناك حياةً بعد هذا؟

جاء صوت كرم أخيرًا، مبحوحًا، كأنما خرج من بئرٍ عميقة. لم يرد مصطفى على الفور. فقط زفر ببطء، زفير يحيل أشد الإحالة على العدم أخذ يشبك أصابعه في بعضهما، يستمع إلى الصمت الذي ساد بعد هذا السؤال. نظرات مقرفة من هنا و هناك ، كان يعلم أن لكل واحدٍ منهم إجابته الخاصة، لكنه كان متأكدًا من شيءٍ واحد ؛

-نحن لسنا أحياءً.

أغمض عينيه للحظة، وسمح للذكريات بأن تجرفه معها ..

كان طفلًا حينها، بالكاد بلغ الثامنة ،بالكاد يستطيع فهم ما يجري حوله ، كل شيء بدا أكبر منه، حتى جدران المنزل كانت تهاجمه بضخامتها، أبواب البيت تزعجه بضوضاء صريرها ، تكاد تفجر عقله الصغير ، تضيّق عليه أنفاسه كلما علا الصراخ في المكان. كان مختبئًا تحت الطاولة، رغم تآكلها و سوادها و اتساخها ،كانت ملاذا كافيا آمنا لإيواء طفل في ذاك العمر ، يداه الصغيرتان تضغطان على أذنيه، و فؤادُه البريء يضرب بقوة ، كطبل يدق بأنامل مصرية في جنازة ، لكنه رغم ذلك كان يسمع و يشعر بكل شيء من صوت صراخ والدته، متقطعًا، مختلطًا بالبكاء و صوت والده، صارمًا، غاضبًا، متسلطًا. صوت الأشياء وهي تتحطم، صوت الأبواب وهي تُصفَق، صوت خطواتٍ عنيفة تهز الأرضية تحت قدميه. و وسط كل هذا، استطاع صوتٌ واحدٌ فقط شق طريقه إلى أعماقه ، كان صوت أنفاسها.

رفع رأسه قليلًا ، لينظر إلى الزاوية الأخرى من الغرفة. كانت هناك، مريم، أخته الصغيرة، تجلس القرفصاء، تضم ركبتيها إلى صدرها، وتضغط يديها على أذنيها كما يفعل هو بالضبط ، لكن الفارق الوحيد ، أنها لم تكن تبكي. بل و ظلت صامتة. أمل أن تنبس ببنت شفة ، تمنى أن تراه ، كان جسدها الصغير يرتجف، أنفاسها متقطعة، وعيناها تحدقان في الفراغ، وكأنها تحاول أن تتلاشى من هذا العالم ، تمنى أن تسمعه ، أن تتذكر أن كل هذا زائل ، وأن الوحشين سينتبهان لها ، سيوقفان الكفر الذي يقترفرنه في حقهم ، تمنى إن يتوقف كل شيء.

خفتت الأصوات فجأة ، حلّ الصمت، خرج مصطفى من مخبئه، زحف نحوها، ناداها هامسًا:

-مريم؟

لم تجب. فاقترب أكثر، مدّ يده، لمس يدها، فشعر ببرودتها تخترق جلده. نفس برودة المعدن على يديه ، آلة فوق آلة ، كلاهما مسيران موضوعان للإستهلاك و الإستنفاذ حتى الرمق الأخير ، أعادته البرودة إلى واقعه فجأة ، كأنما جذبه شيءٌ ما من قاع الذكرى.

- ماتت. بين يديّ، دون أن أستطيع فعل شيء .

فتح عينيه بسرعة، زفر ببطء، رفع رأسه، تأمل وجوه رفاقه المتعبة. مجرد بقايا بشر، أطلال مهدومة ، أشباح تجلس داخل هذه الزنزانة، تنتظر قدرها القادم بصمت مهول

- لكن لا.

هذه المرة، لن يكون الأمر كما عهده أن يكون . هذه المرة، لن يسمح بأن يكون مجرد متفرجٍ على مأساته ، واقفٍ مُهَمش من حياته ، بمعزل مطلق عن مصيره و أحلامه و طموحاته ، تنفس بعمق، ثم صاح بصوتٍ ثابت ، جرف معه ما بقي في لسانه من طاقة ، يحمل في أعماقه نارًا لم تهدأ بعد:

-علينا أن نهرب

Télécharger maintenant

Aimez-vous ce travail ? Téléchargez l'application et vos enregistrements de lecture ne seront pas perdus
Télécharger maintenant

Bien-être

Les nouveaux utilisateurs peuvent télécharger l'application pour débloquer 10 chapitres gratuitement.

Recevoir
NovelToon
Ouvrir la porte d'un autre monde
Veuillez télécharger l'application MangaToon pour plus d'opérations!