كان الضوء الشاحب الذي يتسلل من شقوق السقف بالكاد يكفي ليكشف عن وجوههم، عن هزالتهم و شحوبهم ، التي لم تكن بحاجة إلى نور كي تعبّر عن نفسها. كانوا متّسخين، تنبعث منهم رائحة الموتى ، متعبين ، بعيون مرهقة بالتحديق ،تحمل ظل حياة سابقة لم تكن أبدا رحيمة و عضلاتهم الهزيلة بدأت تنسى كيف تتحرك ، كيف لا و هي تعيد نفس القصة الدامية مرارا ، نفس التعذيب و نفس الإجهاد .
بعد إعلان مصطفى عن خطتهم للهروب، بدا وكأن الهواء داخل الزنزانة قد تغيّر. أصبح مشحونًا بنوعٍ جديد من التوتر، ليس الخوف المعتاد، كان خليطا عجيبا بين القلق، الأمل، والجنون. كانت الفكرة قد زُرعت داخل عقولهم، كبذرة خضراء مشعة ، ومع كل لحظة تمرّ، كانت تنمو وتتشعّب، كان الأمر أشبه بكونهم بدأوا يرون ثقوبًا تتفرع في هذا الجحيم الهائل ، الذي ظنوا يومًا أنه محكم الإغلاق.
وقف مصطفى، كان صوته أكثر هدوءًا هذه المرة :
– كل شيء يبدأ بالملاحظة. نحتاج إلى فهم كل تفصيلة هنا. كيف يتحرك الحراس؟ متى تتغير النوبات؟ ما هي الأماكن التي يمكن أن تكون مخرجًا؟ أي سجين قد يكون عائقًا أمامنا؟ وأيهم يمكن أن يكون مفتاحًا للخروج؟
ظلّ أدهم صامتًا معظم الوقت، نظر إلى مصطفى بعينين نصف مغمضتين. بدا كأنه يزن كلماته قبل أن يتحدث، ثم قال:
– أنت تفكر وكأننا نملك الوقت الكافي لذلك. لكننا لا نملك رفاهية التمهل. كل يوم يمضي يعني فرصة أخرى لنكتشف، فرصة أخرى ليمسكوا بنا ونحن نحاول فهم قوانين اللعبة. هل أنت مستعد للمجازفة منذ الآن؟
ابتسم مصطفى ابتسامة خفيفة، دون تعال او غرور ، كانت ابتسامة من يعرف أنه ليس هناك طريق آخر ،ما من حل أوسط ، ألقى نظرة على وجوههم، رآها جميعًا متوجسة، مشتعلة بذات الشعلة التي يحسّ بها. ثم قال، بنبرة أكثر انخفاضًا، تحمل وقع القرار الذي لا رجعة فيه:
– هذا ليس خيارًا. إما أن نهرب، أو نموت هنا. ببطء و تمهل ، كما مات كل من سبقونا.
كانت لحظة ، حُسم فيها كل شيء. لم يكن هناك نقاش آخر، لم يكن هناك تراجع . ساد الصمت وهلة و أخذ أدهم يدرك بتمعن أنه طريق واحد، لا طريق آخر ، لا خداع ولا مكر في هذه اللعبة ، طريق أوحد مهما كان وعِرًا، مهما كانت النهايات غامضة ،وجب عليهم خوضه. أدرك تماما أن الهروب قد بدأ.
بدأ كل واحد منهم مراقبة ما حوله. كانت مهمتهم الأولى أن يتمكنوا من التعرف على نظام السجن. من يأتي ومن يخرج، كيف يتحدث الحراس مع بعضهم، كيف تُنقل الوجبات، حاولوا جاهدين معرفة أي نقاط ضعف تُستغل لمصلحتهم.
يتفرقون أثناء فترات التجمع في الساحة الضيقة، كل منهم يتخذ موقعًا مختلفًا، أعينهم ترصد التفاصيل التي لم يكن السجناء الآخرون يكلفون أنفسهم عناء التفكير بها.
كرم كان يراقب حركة الحراس، يتتبع خطواتهم، يلاحظ متى يتكاسلون، متى يتحدثون فيما بينهم، ومتى يكونون أكثر تيقظًا. و طارق كان يركز على السجناء الآخرين. أيهم أكثر نفوذًا؟ أيهم لديه علاقات مع الحراس ، من يمكن أن يكون تهديدًا لهم ، أدهم ، فقد كان العقل المدبر الصامت ، كان يحلل كل ما يرصده الآخرون ، يربط الخيوط ببعضها و يحاول استنتاج طريقة لجعل كل هذه الفوضى تصب في صالحهم آخرَ المطاف . أما عن مصطفى ، فقد كان يراقب الجميع ، يبحث عن ثغرة للهروب، كان يدرس العقول، ينتظر اللحظة التي ستعبر عن نقطة انهيار للنظام، اللحظة التي يمكن أن تتحول فيها هذه الفوضى إلى الحرية المنشودة.
في إحدى الليالي، بعد مرور أسبوع من المراقبة الصامتة، جلسوا في ركن الزنزانة، متلاصقين ، الأمر أقرب لكون اتحادهم ، الشيء الوحيد الذي يمنع الجدران من الانهيار عليهم. باشر أدهم بالحديث ، رامقا مصطفى بنظرات العجز:
– لدينا مشكلة. كبيرة.
رفع طارق حاجبيه، متوترًا:
– ماذا الآن؟
أشار أدهم برأسه نحو الجدار، حيث كان هناك رسمٌ قديم ، مبتذل ، محفور بأظافر أحد السجناء القدماء. لم يكن أكثر من خطوط عشوائية، لكنها بدت وكأنها كانت تحاول قول شيء ما ، شيء أكثر سوداوية ، شيء أكثر عمقا من ان يدركوا معناه . ثم قال بصوت منخفض:
– هذا السجن لم يكن دائمًا كما هو الآن. كان هناك آخرون قبْلنا حاولوا الهروب. لم ينجُ أحد.
ساد صمت ثقيل أركان الزنزانة ، كانوا يعلمون أن الأمر لن يكون سهلًا ، بل كانوا متيقنين أن الأمر شبه مستحيل ، و ظنوا أصدق الظن أن المعجزات ستكون من نصيب أناس مثلهم ، غير أن فكرة فشل من سبقهم بالمحاولة ، جعلت الأمر أكثر واقعية .
تقدم مصطفى للأمام، عينيه تتقدان بتحدٍّ:
– هذا يعني شيئًا واحدًا. أن هناك خطة لم تكتمل. وأن علينا أن نجد أين فشلوا، ونتجاوزه.
تنفس أدهم ببطء، ثم قال بصوت هادئ:
– هناك حارس معين، يبدو أنه أقل يقظة من البقية. أضن أنه معتاد على تلقي الرشاوى. ربما.يمكننا استغلاله.
كان هذا أول خيط. أول حجر يُوضع في طريق الهروب. أول بصيص أمل يدنو مذ دخلو هذا المكان المشين ،كانوا يدركون أن ما هم بصدد فعله مخاطرة كبيرة ، و أن هناك جحيماً طويلًا بانتظارهم ، أنهم خاطروا ببصيص الهناء الذي ينعمون به في محاولة للخلاص ، و أنهم اكتفوا من قبول السيء خشية الأسوء .
-سنبدأ الليلة
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل حين خرج مصطفى من فراشه القذر، واقترب ببطء من باب الزنزانة. كان الحارس هناك، متكئًا على الجدار، نصف نائم، نصف مستيقظ ، يشخر تارة و ينطق بكلمات ناعسة تارات أخرى،
ألقى مصطفى نظرة خاطفة على الساحة خلفه، رأى أن طارق وكرم يتحركان في مواقع محددة، كما خططوا .
لقد بلغ بعد طول انتضار، وقت أول خطوة نحو الحرية.
غير أنهم لم يدركوا بعد ، أن عينا أخرى كانت تراقب تحركاتهم ، و أن الهروب لن يكون بهذه البساطة .
***Téléchargez NovelToon pour profiter d'une meilleure expérience de lecture !***
10 épisodes mis à jour
Comments