الخطة ¶

وسط الصمت الذي لف الزنزانة و أقلقها ، بعد كلمات مصطفى تلك ، كان يمكن للمرء أن يسمع صوت قلب كل منهم يدق بقوة مُهولة ، كما لو أن وقع تلك الكلمات ، رغم قلة عددها ، هز أركان المكان و ضرب بتأويلاتهم و معتقداتهم و مراجعهم عرض الحائط ، نفس الأشياء التي كانوا محاصرين بها ، أكثر من جدران السجن نفسها. كانت تلك لحظة فارقة، لحظة رصد فيها كل واحد منهم ما كان يخبئه في أعماقه من رغبة جامحة في الخلاص.

بدا كرم مُغرقا نفسه في تأملات لا حصر لها ولا ختام، رفع رأسه ببطء نضر إلى السقف يكاد يهوي فوق رأسه، ثم قال بصوت منخفض حازم:

- هروب؟ لا شيء سهل هنا، لا شيء يسير كما نرغب.

ارتسمت على وجه مصطفى ابتسامة مرة ، اتسعت عيناه مع رغد لحظة الإصرار التي ملأت صدره المهجور . لم يكن يرى في جدران السجن ما يمنعه، بل و كان ، كلما تأمل طوبة رأى الفراغ الذي يعيشه ، الفوضى التي تكتسح حياته ، و العبث الذي حُمل به باطلا، صار السجن نفسه انعكاسا حقيقيا للحالة التي أدركها عقله و شهدتها روحه.

-أجل ، هروب. لن يكون هروبًا عاديًا. كل ما نحتاجه هو خطة محكمة، و القليل من الحظ.

كان أدهم يراقبهم في هدوء عجيب ، اقترب تدريجياً من النقاش. سرعان ما أدرك أن ما يقدم عليه مصطفى هو انتحار ، لم يكن يتحدث كثيرًا، كان دائمًا الحارس الصامت في كل الأوقات. بدأت عيناه تلمعان بذكاء، كما لو كان عقله لا يتوقف عن الحسابات. رفع رأسه وقال:

-أنت تتحدث عن الهروب وكأننا نعيش في عالم مثالي ، مدينة أفلاطون الفضيلة ، أو بلاد الإلدورادو ، حيث لا جرائم ولا اغتيالات ولا حقد ولا كره ولا بغض ولا ألم يعم الناس ، هل تعتقد حقا أن سجنًا مليئًا بالجنود والشرطة سيسمح لنا بالخروج ، بهذه السهولة ؟ أوتضن حقا ، أن أناسا قبلنا لم يحاولوا ؟

تسمر مصطفى في مكانه، علم أن أدهم أذكى من أن يخاطر بحياته من أجل خطة قد تبوء بالفشل ، حتى لو كانت مثالية ، أدرك أن العبث بجرأته ، و تمكين مشاعره السلطة على حساب قدرة عقله ،أمر أشبه بالمستحيل ، لم تكن هذه المرة الأولى التي يواجه فيها أسئلة من هذا النوع من نفس الشخص ، دائما ما كان قويا في نقاشاته ،، فلا يترك لقلبه المجال ليتحكم بعقله ، كان يمجد العقل تمجيدا ،و يبجل أفكارة حد النخاع ،كان يعلم جيدًا أنه لا وقت للدخول في نقاش طويل محسوم مسبقا . نفض بيده كما لو أنه يزيل غبارًا عن فكرة سابقة، ثم قال:

-إنهم يظنون أننا ضعفاء، وأننا مجرد أرقام أخرى أضيفت في قائمة السجناء. لا يعلمون أننا نعيش في دوامة من الألم والعذاب منذ سنين ، منذ خُلقنا في هذا المجتمع اللعين ، نحن على استعداد للقتال، وبكل شيء.

تبادل الرفاق نظرات من الخوف و العزيمة ، وبات الصمت يثقله المعنى. كان كل منهم يدرك أن هذه اللحظة ، قد تكون بداية النهاية ، نهاية حياتهم الذليلة هذه ، و بداية الحرية. لم يكن بوسعهم اختيار كل هذا ، بات الخيار الأوحد هو القتال بكل ما اوتوا من قوة، رفضا للاستسلام ، الذي أحال مذ لحظة دخولهم على عمق جراحهم . أغمض مصطفى عينيه مرة أخرى، كانتا مليئتان بتصورات شتى لخطته القادمة ، لخططه بعد نيل حريته ،التي جردها منه الزمن ، أخذها غصبا ، و حرمه من آخر ما كان يحس أنه لا زال بشريا . كانت تلك الأفكار تتنقل في عقله بسرعة، تتخبط و تتشابك وتترابط كخيوط عالقة في شبكة عميقة. لكنه كان متأكدًا من أمر واحد، كان متيقنا أن كل تفصيل ، و لو كان صغيرا في هذه الخطة له تأثير كبير على مصيرهم جميعًا ، يحكم عليهم و على عادئلاتهم بالعذاب أو بالنجاة .

- أولا، نحن بحاجة إلى معرفة كل زاوية في هذا المكان. قال مصطفى بصوت خافت ، ثم أضاف :

- ثانيًا، يجب أن نكسب ثقة الحراس. بدون ذلك، لا يمكننا التحرك بحرية.

أضاف كرم، وهو يلمح نبرة من الحذر في صوته :

- وثالثًا، يجب أن يكون لدينا خطة بديلة.

-في حال فشلنا في الخطة الأولى.

ما لبث أن قال طارق، مع لمحة من الارتباك.

ابتسم مصطفى ابتسامة ساخرة ، ثم أضاف:

أفكاركم مهمة، لكن الخطة ستكون أشد مرونة مما تتصورون ، سنكون أشد فتكا من هذا العالم . سنبدأ بالتسلل. سنتقن الخداع ونختار الوقت المناسب. سنخفي أنفسنا وراء اللامبالاة، وفي اللحظة المناسبة ،في تلك اللحظة ،علينا أن ننحاز إلى ما يقيد أفكارنا ، علينا أن ننال الحرية .. سيكون الزمن عدونا الأكبر، فكل دقيقة تمضي ستشعرنا ،ستحسسنا بثقل أكبر على صدورنا . لكن ، عليكم أن تعرفوا ، أن هذا هو الخيار الوحيد الذي أمامنا ، فإما أن نتحلى ببعض سمات الرجال و نجرب حظنا ،و نواجه العالم بتحدياته و آلامه ، كما اعتدنا أن نفعل، و إما أن نخنس في هذا السجن إلى الأبد ،مكتوفي الأيادي ،ننتضر وقع المفاتيح و الأصوات الغليضة و العصي المؤلمة لنرى نور الشمس .

أصبحوا جزءًا من الخطة ، و عشقوا فكرة الهروب أكثر من أي شيء آخر. لكن حتى في خضم هذه الرغبة الجامحة، كانوا يعلمون أن بعض الأمور لا يمكن التحكم فيها، أدركوا أن كل خطوة قد تكون قفزة نحو المجهول ، نحو المصير الذي قد لا يستطيعون الفرار منه. ير أنهم بفضل مصطفى ، كانوا على استعداد للمخاطرة بكل شيء، فالسجون التي بنوها داخل أنفسهم و القناعات التي رُسخت في عقولهم كانت أكثر قسوة ، أكثر عدوانية و فتكا من أي قضبان يمكن أن تلتف حول أجسادهم أو رصاص يخترق جماجمهم..

Télécharger maintenant

Aimez-vous ce travail ? Téléchargez l'application et vos enregistrements de lecture ne seront pas perdus
Télécharger maintenant

Bien-être

Les nouveaux utilisateurs peuvent télécharger l'application pour débloquer 10 chapitres gratuitement.

Recevoir
NovelToon
Ouvrir la porte d'un autre monde
Veuillez télécharger l'application MangaToon pour plus d'opérations!