كان السجن، في أعماق ظلامه، قطعة من الجحيم التي لا تنتهي. جدرانه العتيقة المتآكلة ، كانت تحمل في طياتها تاريخًا من الألم، كأنها شاهد صامت على معركة الإنسان مع نفسه. الهواء هنا، رغم رائحته الثقيلة، كان يثقل الروح قبل أن يثقل الجسد. كانت الرطوبة تسرق من الجدران حيويتها، الأمر أشبه بكون السجن نفسه ، فاسد من الداخل ، كان الضوء ينسل من بين القضبان المعدنية، كان يبدو وكأنّه يبعث الأمل لفترة وجيزة فقط ليختفي مجددًا في أرجاء الظلام الحالك. هذا المكان، أصبح غير ذي أهمية، مجرد دوي من الأصوات الموحشة وأصداء خطواتهم على أرضية مغطاة بالغبار والتراب. غير أن مشاعرا في إحدى الأرجاء كانت مفعمة بالتفاؤل ، صار السجن أضخم من مجرد جدران. أصبح عرْفُه رائحةً مُلتصقة بالذاكرة، وأصبح كل زاوية من زواياه مكانًا يحمل في طياته الذكريات المريرة. كانت الزنازين تقترب من بعضها كأسراب الطيور المحبوسة، أصواتها متداخلة، وكأن كل واحد منهم عالق في حلمٍ مريرٍ لا ينتهي. النظر إلى المدى كان مستحيلًا، فكلما حاولت عين أن تلتقط الأفق، كان الحائط يحجب عنها أي فكرة عن الحرية. حتى أصوات الآخرين كانت تأتي من بعيد، ممزوجة بالهمسات المحبطة. كل شيء هنا مهدور، حتى الوقت نفسه كان يقف على أطلال لحظاته، يذوب في فراغٍ لا يسبر غوره.
كانت الخطة قد بدأت تأخذ شكلها النهائي، و كانت علاقة محرمة تلوح في الأرجاء ، علاقة مريبة جمعتها مصالح بين الأعرج ، و الحارس رشيد .
كان الأعرج، في مظهره، تجسيدًا للتشوهات التي تراكمت عبر الزمن على جسده وروحه. عيونٌ غائرةٌ، ذات نظرة ثابتة، تبوح بألمٍ دفينٍ لا يزول. وجهه، الذي بدأ يبدو كجدارٍ متهدمٍ، يشير إلى سنواتٍ من المعاناة والمرارة. بشرةٌ شاحبة، ناعمة، لكن مجعدة في أماكن تثير الرهبة، كسجلات محنطة تروي قصصًا عن الزمن الذي عايشه بكل قسوة. كان شعره ينمو بشكلٍ غير منتظم، يميل للون الرمادي القاتم، كأنه تأثر بالحزن الطويل الذي عاشه، يلتف حول رأسه وكأنّه عبءٌ إضافيٌ من همومه التي تراكمت.
ما كا يثير الانتباه بشكلٍ ملفت هو ساقه اليسرى، تلك التي كانت مشوهة بالكامل، مفزوعة من مكانها الطبيعي، ما جعل حركته بطيئة ومترددة. كان عرجٌ واضح، لكنه لم يكن مجرد ضعف جسدي، بل كان علامةً مرئيةً على تاريخه المليء بالصراعات والخيانة. كانت ساقه الضعيفة تجرّ جسده بثقل، بينما قلبه يظل مشدودًا للأمل المهدم، كأنّه يحاول التمسك بآخر خيطٍ من العزم. كانت كلماته تأتي متثاقلة، في الغالب جافة، مكتومة، وكأنها تخرج بصعوبة من بين شفتيه. كان يبدو دائمًا في حالة ترقب، عيناه ترقبان الأفق باحثةً عن شيءٍ مفقود، حل لمشكلاته ربما ، أو مجرد فرصة صغيرة للنجاة. رغم مظهره الذي يشعّ بالضعف، كان الأعرج يمتلك نوعًا غريبًا من الجاذبية. كانت شخصيته محط أنظار الجميع، لأنه كان يمثل شيئًا غامضًا، مفعمًا بالريبة. كان يعرف كيف يلاعب البشر بذكاءٍ غريب، كيف يتنقل بين حبال الأهواء والنوايا بأسلوبٍ بارع ، كان يرسم ملامح القوة في صمته، ولكن تحت سطحه كان هناك شيءٌ آخر، شيءٌ مظلم، عميق، يختبئ وراء تلك العيون الجاحظة.
بين رشيد والأعرج نشأت علاقة محكومة بالغموض والتشويش. رشيد، الحارس الذي يسير في مساراتٍ مشبوهة، يعرف تمامًا كيف يلعب على وتر النفوس الضعيفة، لكن الأعرج، بحكم سنواته الطويلة في السجن، كان يملك خبرةً مماثلة. علاقة من نوع خاص، لا تُعلن عن نفسها بوضوح، ولكنها كانت قائمة على مبدأ المصلحة المتبادلة ، كان رشيد يعلم أن الأعرج ليس شخصًا يثق فيه بشكل كامل، بل كان يتعامل معه كأداةٍ قابلة للتمديد والضغط. في حين كان الأعرج يدرك أن رشيد ليس سوى جزءٍ من شبكةٍ أكبر لا يفهم كل تفاصيلها بعد، لكنه كان مستعدًا للرقص على تلك الحبال شديدة التوتر. رشيد يقدم للأعرج أحيانًا ما يحتاجه من مساعدة أو معلومات مقابل خدمات صغيرة ، ولكن بمرور الوقت بدأ يلاحظ في الأعرج شيئًا متقلبًا، غريبًا. ربما هو شيء في عينيه، أو في طريقة حديثه المتردد، الذي كان يعكس أكثر من مجرد يأس سجينٍ مستقر في مكانه. كانت هناك لمحةٌ من الأمل في تلك النظرات، كما لو أن الأعرج كان يحتفظ في أعماق قلبه بحلمٍ ما، حلمٌ قد يؤدي إلى شيءٍ أكبر من مجرد البقاء على قيد الحياة. هذا ما دفع رشيد للتمادي في السيطرة عليه.
كان كل هذا يجري ، دون سابقة علم ، دون ملاحظة أحد في ذاك السجن الكبير غيرَ أدهم ، الذي قرر أخيرًا أن الوقت قد حان لتكثيف التحركات . كانت خطة الهروب قد بدأت تتشكل شيئًا فشيئًا في ذهنه ، وأصبح الأعرج عنصرًا أساسيًا فيها. فكان مدركا أنه ليس شخصًا ضعيفًا بالمفهوم التقليدي، بل كان شخصًا يمكن الوثوق به تحت ضغطٍ شديد. فلتكون الأمور أكثر فعالية، كان لا بد من تفعيل الشرط الذي يمكن أن يُجبره على اتخاذ القرار الصائب.
كانت السماء فوق السجن مكفهرة، وكأنها تحمل نفس الشحوب الذي بدأ يتسلل إلى نفوسهم. عيونهم، رغم الجهود المبذولة لإخفائها، كانت تفضح الحزن، والقلق، والخوف المتربص في زوايا هذا المكان الذي لا يرحم. سجونهم لم تكن فقط تلك الجدران والأبراج العالية التي تقيدهم، بل كانت هي أنفسهم، المختنقة في ضباب من التردد والتعاسة. كلما نظروا إلى السقف المظلم أو استمعوا إلى صرير الأبواب الحديدية، شعروا بأنهم مجرد أصداء ضائعة في صمت الأبدية. كانوا يحاولون الهروب من جحيم الماضي، لكنهم، مثل الأعرج، ما زالوا محاصرين. كان في عيونهم الحلقة المفقودة في خطتهم المظلمة، الشخصية التي تتيح لهم فتح الباب إلى الحرية. ورغم أنه كان يتصرف ببعض الهدوء الخارجي، كان من الصعب تجاهل سر المراوغة الذي بدا يلتصق به. كان يعرف كيف يراوغ في كل لحظة، كيف يخفف من أي أثر .
بدأ كرم مهمته، مهمة كانت محفوفة بالمخاطر، لكنه كان يتعامل مع الأمر بهدوءٍ ، كان عليه أن يفاوض أولئك الرجال الذين يعملون في الظلال، رجال السجن الذين لا يرون سوى المال أمامهم، وهم مستعدون لارتكاب أبشع الجرائم لشراء رغيف خبز يسد بعضا من جوعهم . كان كرم قادرا على ترويض هذه الوحوش ، اختارهم بحذر، موقنا أنهم لن يتراجعوا عندما يُدفع لهم الثمن، وأن قوتهم الجسدية ستتكفل بتضخيم الفوضى التي كانت تُنصب في الخفاء.
تحت جنح الظلام، أخذوا مواقعهم بحذر، ينتظرون اللحظة التي سيقتحمون فيها حياة الأعرج. هذه اللحظة كانت حاسمة، فكل خطوة تقترب من هدفها كانت تفتح جراحًا قديمة في قلب السجن، وكأن العنف الذي كان سيقع ليس فقط على جسد الأعرج، بل على أرواح الجميع، على ماضٍ مشوّه لا يمكن تجاهله. ثم بدأ الهجوم، مثلما خططوا. اشتبك الرجال الأربعة مع الأعرج بشكل متسارع، وكأنهم كانو في حرب قديمة ضد جسده الضعيف. ضربات متتالية تساقطت عليه، ضربات كانت تحمل في طياتها مزيجًا من الحقد، والانتقام، والغضب المكبوت. الدماء كانت تتناثر في الهواء، تصطدم بالأرض ببشاعة، توثق لحظة فاصلة في حياتهم. كان الأعرج يصرخ ، صوته يكاد يختنق، لا أحد يلتفت إليه في تلك اللحظة. كانوا يسحقونه كما يسحقون ذكرياتهم الحزينة. في اللحظة التي بدا فيها الأعرج على وشك أن يفقد وعيه، شعر بشيء غريب. صوت تردد فجأة في الأفق، كان صوتًا حاسمًا، جادًا، يعلن تدخلًا لا مفر منه.
- توقفوا
جاء الصوت المألوف لطارق، الصوت الذي كان يشع من بين طيات المعركة.
طارق، الذي كان يراقب المشهد من بعيد، اقتحم الحلبة فجأة. كانت حركة سريعة، وعيناه مليئة بتصميمٍ قاتل. لم يكن ينوي السماح لخطتهم أن تسير بلا عقبات. وصل إلى الأعرج في لحظة فوضى، و في خضم محاولاته لإنقاذ الأعرج، اندفع أحد الرجال إلى الأمام، وأصاب طارق في جسده.
ساد الصمت برهة ، و الطعنة كانت عميقة، نافذة، كانت بمثابة توقيع على قدره المحتوم. تعثّر طارق، وكأن الزمن توقف عند اللحظة التي اخترقت فيها السكين معدته ، أخذت الدماء تنفجر من جرحه، تتساقط على الأرض، تُنقّط الحياة بظلالها الثقيلة. الأعرج، الذي كان يوشك على الهلاك، وجد نفسه في دوامة من الذهول. لم يستطع أن يفهم ما يحدث. كل شيء تداخل، وكان فمه مفتوحًا في محاولة لالتقاط الأنفاس.
- طارق؟
صرخ الأعرج، وعيناه تكادان تدمعان.
-طارق ؟
كانت تلك أكثر من مجرد طعنة. كانت وحيا تاما أن الساعي للحرية يدفع ثمنًا أكبر من الذي رضى لنفسه الإقتران بالأغلال ، كان توضيحا لكون السجين الذي يحلم بالحرية يحمل أصفادًا أثقل من ذالك الذي ارتضى قيوده، فالأول ينوء بحلمه، والثاني يستريح بوهمه.
***Téléchargez NovelToon pour profiter d'une meilleure expérience de lecture !***
10 épisodes mis à jour
Comments
Mar Briyith ER
Si tu arrêtes maintenant, je vais être déprimé pour toute la journée.
2025-01-30
0