إكتآب
جاك جلس على أريكته الصغيرة في زاوية الغرفة، ينظر إلى نافذة تطل على الشارع المظلم. كان الظلام كالوشاح يغطي كل شيء، وكأنه يعكس شعوره الداخلي: فراغ لا ينتهي ووحدة لا يفهمها أحد. رغم أنه يعيش مع خمس أصدقاء في نفس الشقة، إلا أن هذا القرب الجسدي لم يمنحه أي شعور بالدفء. كانوا جميعًا حوله، يضحكون، يتحدثون، يخططون لأيامهم، وهو يشعر وكأنه مجرد ظل يتنقل بين جدران المكان، لا يرى أحدًا حقيقته ولا يسمع صمت قلبه.
ليلى، صديقته الأولى، كانت عاشقة للموسيقى. غالبًا ما تجلس في الصالة، تعزف على الغيتار، وتغني بصوت حنون يملأ المكان بألوان مختلفة. أحيانًا كان جاك يراقبها من بعيد، يستمع لكل نغمة وكأنها رسالة من عالم بعيد لا يستطيع الوصول إليه. لكنه لم يجرؤ على الانضمام إليها، لم يكن يستطيع مشاركة أي شيء من شعوره معها. كلمات الأغاني كانت تُثير داخله موجة من الحزن العميق، شعور بأنه غير قادر على التعبير عن نفسه، حتى بصوت خافت.
مروان، صديق الطفولة، كان دائمًا مصدر الضحك والطاقة في الشقة. ضحكاته كانت معدية، وأحيانًا كان يحاول سحب جاك إلى وسط المرح، لكنه كان يواجه جدار صامت. كل محاولة للانخراط تتحطم عند حاجز صمته الداخلي. مروان لم يكن يعرف أن جاك يعيش معركة داخلية كل يوم، معركة ضد شعور بالوحدة لا يفهمه حتى هو أحيانًا.
سارة، عاشقة الكتب والروايات، كانت تجلس لساعات تغوص في عوالم قصصها المختلفة. كانت تشارك أحيانًا مقتطفات من الروايات مع جاك، لكن الكلمات كانت تتلاشى بينهما. كل قصة كانت تذكره بالمسافات الكبيرة بينه وبين العالم، بالاختلاف الكبير بين حياة أصدقائه المشبعة بالأحداث وحياته الداخلية الفارغة.
رامي، الرياضي، كان النقيض الكامل لجاك. دائم الحركة، دائم النشاط، مليء بالطاقة، وكأنه محرك لا يتوقف. كان يملأ الشقة بأصوات خطواته وتدريباته، ويحث الآخرين على الانضمام إليه. لكن بالنسبة لجاك، كل هذه الحركة كانت تثقل قلبه بدلًا من رفعه، تشعره بأنه غير قادر على اللحاق بهذا الإيقاع، وأن وجوده لا يُحسب في هذه اللعبة.
نورا، الهادئة والحساسة، كانت مختلفة بعض الشيء. أحيانًا كانت تجلس بجانبه، تشاركه الصمت، وتلقي عليه نظرة وكأنها تفهم ما لا يجرؤ على قوله. لم يكن يعرف كيف يبدأ الحديث معها عن شعوره، لكن وجودها كان يبعث في قلبه شعورًا غريبًا بالأمان، كأن هناك شخصًا واحدًا فقط في هذا العالم يمكنه أن يشعر بما يشعر به دون أن تحتاج الكلمات إلى النطق.
مع مرور الأيام، بدأ جاك يكتب في دفتر صغير كل ما يختلج في قلبه. كان دفتره بمثابة صديقه الوحيد، مكانه الآمن الذي يمكنه التعبير فيه عن وحدته، عن الاكتئاب الذي يزحف إلى قلبه بلا استئذان، وعن شعوره بالغربة وسط أصدقائه. كان يكتب عن ليلى وموسيقاها، عن ضحكات مروان التي لم تصله، عن سحر الكتب الذي يحيط بسارة، عن حركة رامي التي تصده، وعن نورا التي تبدو وكأنها تفهمه أكثر من أي شخص آخر.
كان كل يوم بالنسبة له يشبه تجربة جديدة لاختبار الصبر، اختبار القدرة على التعايش مع هذه الوحدة وسط من حوله. لكنه لم يستسلم تمامًا، كان يراقب التفاصيل الصغيرة: ابتسامة ليلى عندما تعزف، طريقة مروان في إلقاء النكات، حركات سارة وهي تقلب الصفحات، نظرات رامي الحماسية، وصمت نورا المريح. كل هذه التفاصيل كانت تمنحه شعورًا ضعيفًا بأنه جزء من شيء أكبر من نفسه، حتى لو لم يكن يشاركهم فعليًا.
في أحد الأيام، وبينما كان جاك يغرق في الكتابة، شعرت نورا به وابتسمت له بهدوء، وجلست بجانبه. لم يتحدثا، لم تكن هناك كلمات، فقط جلسا معًا في صمت، وكأن الصمت أحيانًا يكون أقوى من أي محادثة. في تلك اللحظة، شعر جاك بأن الوحدة ليست نهاية الطريق، وأن وجود شخص واحد يفهمك يمكن أن يكون بداية للخروج من العزلة الداخلية.
ربما لن يختفي الاكتئاب بين ليلة وضحاها، وربما ستظل الوحدة ترافقه أحيانًا، لكنه بدأ يلمس أول خيوط الأمل في وسط الظلام، خيوط صغيرة تبشر بأنه رغم كل شيء، ما زال هناك طريق للخروج، وطريق للانتماء، وطريق للشعور بالحياة حتى وسط الصمت والفراغ.
Comments