مرّت أسابيع قليلة منذ تلك اللحظة الصامتة التي جلس فيها جاك مع نورا. ورغم أن الصمت لم يغير حياته جذريًا، إلا أنه ترك بداخله شرارة صغيرة، كأنها لمحة أمل تقول له: أنت لست وحدك تمامًا. لكن الأيام لم تكن سهلة. كان الاكتئاب يتنقّل معه كظل ثقيل، يرافقه من الصباح حتى الليل.
في كل صباح، يبدأ يوم الشقة بحماس مختلف. ليلى عادةً أول من يستيقظ، تحمل غيتارها وتجلس بجانب النافذة تعزف نغمات خفيفة. كان صوتها يملأ المكان بطاقة لطيفة، لكن جاك كان يشعر وكأن الموسيقى تتسرب من حوله دون أن تلمسه. كان يجلس في المطبخ يحتسي قهوته بصمت، يراقبها من بعيد، وفي داخله سؤال يصرخ: لماذا لا أستطيع أن أشعر بما يشعرون؟
مروان يدخل بعد قليل، ضاحكًا منذ أن يفتح عينيه. يبدأ يومه بمزحة أو قصة مضحكة عن حلم غريب رآه، أو تعليق ساخر عن الحياة. الأصدقاء يضحكون، الجو يمتلئ بالحيوية، بينما جاك يبتسم ابتسامة صغيرة لا تصل إلى قلبه. كان يتمنى أن يضحك مثلهم، أن يشاركهم بصدق، لكن شيئًا في داخله كان يعيقه.
سارة، بعالمها المليء بالكتب، كانت دائمًا تجلس في الزاوية. تحمل معها رواية جديدة كل أسبوع تقريبًا. كانت تحب مناقشة الشخصيات والأحداث، وغالبًا ما كانت تتحدث بحماس عن بطل القصة أو نهايتها. كانت تحاول إشراك جاك، تسأله: "لو كنت مكانه، شو كنت رح تعمل؟" لكنه كان يكتفي بهز كتفيه، أو بكلمة قصيرة. لم تكن المشكلة أنه لا يفهم القصة، بل أنه لا يعرف كيف يشرح مشاعره، لا يعرف كيف يربط نفسه بعالمها الذي يبدو بعيدًا عنه.
رامي، بعكس الجميع، لم يعرف الصمت أبدًا. كان يصرّ على إدخال الحركة في حياة البيت. يدعوهم للركض في الصباح، للذهاب إلى النادي، أو حتى لمباراة كرة سريعة في الحديقة القريبة. كان يتوجه إلى جاك بحماس شديد: "يلا قوم، التمرين رح يخلي مزاجك أحسن!" لكن جاك لم يجد الطاقة حتى للنهوض أحيانًا. كان يبتسم اعتذارًا، ويترك رامي ينطلق وحده. وكلما ابتعد رامي بخطواته السريعة، شعر جاك أكثر بأنه متأخر عن الحياة، وكأنه عالق في مكان لا يتحرك.
أما نورا، فكانت مختلفة. لم تكن كثيرة الكلام، لكنها كانت الأقرب إليه رغم المسافة. كانت تلاحظ غيابه عن الأحاديث، أو شروده الطويل، لكنها لم تضغط عليه. بدلًا من ذلك، كانت تترك له مساحة، ثم تقترب بخطوات صغيرة. ذات ليلة، بينما كان يجلس يكتب في دفتره، وضعت كوب شاي بجانبه وقالت: "فكرت يمكن تحتاج شي يدفّيك." لم تكن كلماتها كثيرة، لكنها دخلت قلبه بسهولة. لأول مرة منذ فترة طويلة، شعر أن أحدًا يراه حقًا، لا كظل، بل كإنسان حي يتألم.
أصدقاؤه لم يكونوا سيئين، بل كانوا مليئين بالحياة والطيبة، لكن مشكلته كانت داخله، في مرآة مشوشة يرى بها نفسه والعالم. الاكتئاب جعله يعتقد أنه غريب بينهم، وأن وجوده غير مهم. كلما حاول الاقتراب، صوته الداخلي يهمس: أنت مختلف. لن يفهموك.
في أحد الأيام، قرر الأصدقاء الخمسة أن يقيموا عشاء جماعي. الطاولة امتلأت بالطعام، وضحكاتهم غطّت على أصوات الملاعق. مروان روى نكتة جعلت ليلى تكاد تبكي من الضحك، ورامي كان يشرح خطة تدريب جديدة يريد أن يجربها، بينما سارة ناقشت نهاية رواية مثيرة. جاك جلس معهم، لكنه شعر وكأنه يشاهد فيلمًا من بعيد. أحيانًا ابتسم، أحيانًا قال كلمة قصيرة، لكن داخله ظل هادئًا بشكل موجع.
حين انتهى العشاء، بقي جالسًا في مكانه بعد أن غادر الآخرون. شعر بدمعة تتسلل دون إذن، دمعة لم يرها أحد. كان يتساءل: هل سأظل دائمًا هكذا؟ هل سيأتي يوم أشعر فيه أنني جزء من هذا العالم؟
لكن عندما عاد إلى غرفته، وجد ورقة صغيرة على مكتبه. كانت بخط نورا: "مش لازم تحكي إذا مش قادر، بس أنا موجودة لو حبيت." تلك الجملة الصغيرة، البسيطة، كانت أقوى من أي خطبة أو نصيحة. كأنها نافذة صغيرة انفتحت في جدار عتمته.
في تلك الليلة، كتب جاك في دفتره شيئًا مختلفًا: لم يكتب عن الوحدة أو الألم فقط، بل كتب: ربما، فقط ربما، هناك من يستطيع أن يراني كما أنا. وربما هذا يكفي لأبدأ من جديد.
الفصل لم ينتهِ عند تلك الجملة، بل كان مجرد بداية لصراع أطول. الاكتئاب لم يختفِ، لكنه بدأ يتصدّع أمام لمحات صغيرة من الأمل، من كلمات بسيطة، ومن وجود شخص واحد لا يهرب من صمته.
---
Comments