الفصل الرابع
كان الليل ساكنًا على غير العادة. المطر توقف، لكن الغيوم ما زالت تحجب القمر، وكأن السماء نفسها مترددة بين البكاء والسكوت. جلس جاك في غرفته، دفتره مفتوح أمامه، لكنه لم يكتب شيئًا. الكلمات هربت منه هذه المرة، كأنها لم تعد تكفي لوصف ما يشعر به.
الأيام الأخيرة كانت أشبه برحلة طويلة فوق جسر هش. حاول أن يخطو خطوات صغيرة، أن يقترب من أصدقائه، أن يسمع موسيقى ليلى، أن يشارك سارة النقاش، أن يتحرك مع رامي. وحتى أنه ضحك قليلًا مع مروان. لكن في أعماقه، الوحش لم يختفِ. الاكتئاب كان ينتظر اللحظة المناسبة ليهجم من جديد.
في ذلك المساء، اجتمع الأصدقاء في الصالة. قرروا لعب لعبة جماعية. الأصوات علت، الضحكات تسابقت، الجو امتلأ بالطاقة. جاك جلس معهم في البداية، لكنه شعر ببطء أن قلبه ينسحب بعيدًا. الأصوات صارت ثقيلة على أذنيه، الضحك صار كأنه صفعة، والبهجة تحولت إلى مرآة تُظهر له كم هو غريب بينهم.
نهض بصمت، دون أن يلاحظ أحد. دخل غرفته وأغلق الباب. جلس على الأرض، رأسه بين يديه. دموعه سالت بحرارة لم يستطع حبسها. لماذا لا أستطيع أن أكون مثلهم؟ لماذا حتى اللحظات الجميلة تتحول عندي إلى ألم؟ كان يردد الأسئلة داخله حتى شعر بالاختناق.
مرت دقائق، وربما ساعات، لا يعرف. لكنه استيقظ من شروده على صوت خافت يطرق بابه. كانت نورا.
– "جاك… أنت بخير؟"
لم يرد. صوته لم يسعفه.
– "إذا بدك، بقدر أقعد برّه لحد ما تحب تفتح."
صوتها كان مليئًا بالصدق، بلا ضغط، بلا أسئلة ثقيلة. بعد لحظات طويلة، نهض وفتح الباب. عيناه محمرتان، وجهه متعب. نظرت إليه نورا بصمت، ثم دخلت وجلست بجانبه على الأرض.
– "أحيانًا… بحس إني عبء عليكم." قالها بصوت مكسور.
– "عبء؟" ردت بدهشة هادئة. "جاك، وجودك لحاله يكفّي. إحنا اخترنا نعيش سوا، مو صدفة. يعني مكانك بينا مو فضل، مكانك حقك."
كلماتها أصابت شيئًا عميقًا بداخله. كان طوال الوقت يظن أن وجوده مجرد صدفة ثقيلة على الآخرين، لكن فكرة أن أحدًا يعتبره حقه بينهم أربكته.
في اليوم التالي، حدث شيء غيّر الأجواء. ليلى اقترحت أن يقيموا سهرة موسيقية صغيرة في الشقة، يدعون بعض الجيران والأصدقاء. الجميع تحمس، حتى جاك لم يعترض. أراد أن يجرب، ولو من بعيد.
حين بدأت الموسيقى، امتلأت الشقة بالناس والضحكات. جاك جلس في زاوية، يراقب المشهد. قلبه كان يخفق بسرعة، لكن هذه المرة لم يكن شعوره مجرد خوف. كان هناك فضول صغير: ماذا لو جربت أن أقترب؟
اقتربت سارة وجلست بجانبه، تحمل كتابًا صغيرًا.
– "شوف، جبتلك رواية قصيرة. ما فيها نهايات حزينة." قالت مبتسمة.
ابتسم جاك لأول مرة بصدق: "يمكن أجربها."
ثم جاء مروان، وألقى نكتة غريبة كعادته، جعلت حتى جاك يضحك ضحكة قصيرة خرجت دون أن يفكر. نظر الجميع إليه بدهشة سعيدة. رامي، الذي كان منشغلًا بتقديم العصائر، صرخ: "وأخيرًا! ضحكت!" فضحكوا جميعًا، والجو صار أكثر دفئًا.
لكن اللحظة الحقيقية جاءت حين انتهت ليلى من العزف، وقدمت الغيتار لجاك:
– "دورك."
ارتبك بشدة: "أنا؟ ما بعرف أعزف."
ابتسمت: "مش مهم. جرب بس."
تردد طويلًا، ثم مد يده ولمس الأوتار بخجل. خرج صوت عشوائي، لكنه أضحك الجميع بحرارة، لا سخرية بل محبة. شعر جاك بحرارة في قلبه، إحساس بأنه ليس غريبًا، بل جزء من المشهد.
تلك الليلة، حين عاد إلى غرفته، كتب في دفتره:
اليوم لم أكن متفرجًا فقط. لمست الأوتار، ضحكت، شعرت أني موجود. ربما لا أكون مثاليًا مثلهم، لكني واحد منهم.
مع ذلك، كان يعرف أن الطريق لم ينتهِ. الوحش ما زال بداخله، يستيقظ ويهدأ، يعود أقوى أحيانًا. لكنه أدرك شيئًا جديدًا: أنه لا يقاتل وحده بعد الآن. هناك أصوات من حوله، أيادٍ مستعدة لالتقاطه حين يسقط، وقلوب لا ترى اكتئابه كضعف، بل كجزء منه يمكن قبوله.
وفي صمته العميق، شعر لأول مرة منذ سنوات أن النور ليس مجرد وهم بعيد، بل احتمال واقعي. ربما بطيء، وربما متقطع، لكنه موجود.
---
Comments