الفصل الثالث

الفصل الثالث

الشتاء بدأ يطرق أبواب المدينة. المطر صار يزخّ يوميًا، والسماء الرمادية صارت صورة ثابتة في نافذة جاك. الجو الخارجي كان انعكاسًا مثاليًا لما في داخله. البرد لم يكن يهاجم جسده فقط، بل روحه أيضًا. كل صباح، كان يستيقظ بصعوبة، يتمنى لو أنه يستطيع البقاء في السرير إلى الأبد.

لكن الأصدقاء لم يسمحوا للحياة بالتوقف. ليلى كانت تحضر أغاني جديدة، وصوت غيتارها صار أعلى مع عواصف المطر. مروان ما زال يروي نكاته وقصصه التي تجعل الآخرين يضحكون من قلوبهم. سارة غاصت في سلسلة روايات جديدة، وعيونها تتألق كلما شاركتهم تفاصيل مثيرة. رامي لم يتوقف عن التدريب، حتى في المطر، يعود مبتلًا لكنه سعيد، يصرخ بحماس: "المطر بيخليني أحس إني عايش!"

جاك كان يراقبهم جميعًا بصمت. جزء منه كان يغار من طاقتهم وحياتهم، وجزء آخر كان يشعر بالذنب لأنه غير قادر أن يكون مثلهم. صراعه الداخلي اشتدّ أكثر، ومعه أصوات في رأسه تهمس: أنت عبء. لو لم تكن هنا، حياتهم ستكون أسهل.

في إحدى الليالي، كان الجميع يجلس في الصالة يشاهدون فيلمًا كوميديًا. الضحكات ملأت الغرفة، لكن جاك شعر بغصة خانقة. لم يستطع المتابعة، نهض فجأة وغادر الغرفة. دخل إلى شرفته الصغيرة تحت المطر، جلس هناك وهو يحدّق في الظلام. لم يكن يفكر بوضوح، كان فقط يشعر بثقل لا يُحتمل. هل سأظل سجينًا لهذا الشعور للأبد؟ تساءل في نفسه.

بعد دقائق، لحقت به نورا. لم تقل شيئًا في البداية، فقط جلست بجانبه تحت المطر. نظر إليها باستغراب:

– "ليش جيتي؟ رح تتبللي."

ابتسمت بهدوء وقالت:

– "مش مهم. يمكن أكون محتاجة أبقى معك، زي ما إنت محتاج حدا يكون هون."

كلماتها اخترقت جدار الصمت داخله. لأول مرة، شعر أنه يملك الحق بأن يكون ضعيفًا أمام أحد. حاول أن يتكلم، لكنه لم يجد الكلمات. دموعه نزلت بلا إذن. لم يهرب هذه المرة، لم يختبئ. تركها ترى ضعفه. ونورا، ببساطة، مدّت يدها وأمسكت بيده.

في تلك اللحظة، شيء تغيّر. لم يختفِ الألم، لكنه لم يعد وحده فيه.

في اليوم التالي، حاول جاك أن يقوم بخطوة صغيرة. حين دعا رامي الجميع للجري في المطر، عادةً كان يرفض، لكن هذه المرة قال بصوت خافت: "ممكن أجرب." نظر إليه رامي بدهشة كبيرة، ثم ابتسم بحماس: "هيا! هذا اللي بدي إياه منك!"

خرجوا جميعًا، المطر يتساقط فوقهم. جاك لم يستطع مجاراة سرعتهم، لكنه شعر بالهواء البارد يلمس وجهه، والمطر يختلط مع دموعه القديمة. كانت لحظة بسيطة، لكنها بالنسبة له كانت إنجازًا. ربما لن يصبح مثل رامي، لكن على الأقل خرج من غرفته، واجه المطر بدلًا من الاختباء خلف الزجاج.

في الليل، جلس مع دفتره وكتب: اليوم ركضت. مش كثير، بس ركضت. شعرت للحظة أني موجود.

الأصدقاء لم يدركوا تمامًا حجم المعركة التي يخوضها جاك. بالنسبة لهم، الأمر كان مجرد مشاركة بسيطة في نشاط. لكن بالنسبة له، كان خطوة أولى في مواجهة الوحش الذي يسكن داخله.

مع مرور الأيام، بدأت العلاقة بينه وبين نورا تزداد قوة. لم تكن تسأله أسئلة كثيرة، لكنها كانت موجودة دائمًا. مرة تجلب له كوب شاي، مرة أخرى تضع كتابًا بجانبه وتقول: "يمكن يعجبك." لم تجبره على الحديث، لكنها أعطته الإحساس بأنه غير مرئي كما كان يعتقد.

رغم ذلك، المعركة لم تكن سهلة. في بعض الأيام، يعود الظلام أقوى من أي شيء. كان يستيقظ بلا طاقة، ينسحب إلى غرفته، يرفض الخروج. كان يكره نفسه لأنه يتراجع بعد كل خطوة. لكن نورا كانت تقول له: "حتى لو خطوتك صغيرة، المهم إنك تتحرك. مافي أحد بيمشي بخط مستقيم دائمًا."

كلماتها لم تشفِ جرحه، لكنها منحت قلبه عزاء.

ذات مساء، اجتمعوا جميعًا على العشاء مجددًا. هذه المرة، حاول جاك أن يشارك في الحديث. قال لسارة: "خلصت الكتاب اللي أعطيتيني إياه… النهاية كانت حزينة." الجميع التفت إليه بدهشة، ليس لأنه تكلم فقط، بل لأن نبرة صوته كانت مختلفة، حقيقية. سارة ابتسمت بفخر، كأنها فازت بمعركة صغيرة. مروان ضحك وقال: "وأخيرًا طلع صوتك!" فضحكوا جميعًا، حتى جاك ابتسم ابتسامة دافئة هذه المرة.

كانت لحظة قصيرة، لكنها أثبتت له أن الطريق ليس مغلقًا كما كان يظن. ربما لن يشفى سريعًا، وربما سيظل يصارع لفترة طويلة، لكن هناك فرق حين تعرف أن أحدًا ما ينتظرك عند نهاية الطريق.

وفي دفتره تلك الليلة كتب: الاكتئاب مازال هنا، لكنه لم يعد وحده يملأ حياتي. هناك موسيقى، وهناك ضحكات، وهناك يد أمسكت بيدي تحت المطر.

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon