NovelToon NovelToon

إكتآب

الفصل الأول

جاك جلس على أريكته الصغيرة في زاوية الغرفة، ينظر إلى نافذة تطل على الشارع المظلم. كان الظلام كالوشاح يغطي كل شيء، وكأنه يعكس شعوره الداخلي: فراغ لا ينتهي ووحدة لا يفهمها أحد. رغم أنه يعيش مع خمس أصدقاء في نفس الشقة، إلا أن هذا القرب الجسدي لم يمنحه أي شعور بالدفء. كانوا جميعًا حوله، يضحكون، يتحدثون، يخططون لأيامهم، وهو يشعر وكأنه مجرد ظل يتنقل بين جدران المكان، لا يرى أحدًا حقيقته ولا يسمع صمت قلبه.

ليلى، صديقته الأولى، كانت عاشقة للموسيقى. غالبًا ما تجلس في الصالة، تعزف على الغيتار، وتغني بصوت حنون يملأ المكان بألوان مختلفة. أحيانًا كان جاك يراقبها من بعيد، يستمع لكل نغمة وكأنها رسالة من عالم بعيد لا يستطيع الوصول إليه. لكنه لم يجرؤ على الانضمام إليها، لم يكن يستطيع مشاركة أي شيء من شعوره معها. كلمات الأغاني كانت تُثير داخله موجة من الحزن العميق، شعور بأنه غير قادر على التعبير عن نفسه، حتى بصوت خافت.

مروان، صديق الطفولة، كان دائمًا مصدر الضحك والطاقة في الشقة. ضحكاته كانت معدية، وأحيانًا كان يحاول سحب جاك إلى وسط المرح، لكنه كان يواجه جدار صامت. كل محاولة للانخراط تتحطم عند حاجز صمته الداخلي. مروان لم يكن يعرف أن جاك يعيش معركة داخلية كل يوم، معركة ضد شعور بالوحدة لا يفهمه حتى هو أحيانًا.

سارة، عاشقة الكتب والروايات، كانت تجلس لساعات تغوص في عوالم قصصها المختلفة. كانت تشارك أحيانًا مقتطفات من الروايات مع جاك، لكن الكلمات كانت تتلاشى بينهما. كل قصة كانت تذكره بالمسافات الكبيرة بينه وبين العالم، بالاختلاف الكبير بين حياة أصدقائه المشبعة بالأحداث وحياته الداخلية الفارغة.

رامي، الرياضي، كان النقيض الكامل لجاك. دائم الحركة، دائم النشاط، مليء بالطاقة، وكأنه محرك لا يتوقف. كان يملأ الشقة بأصوات خطواته وتدريباته، ويحث الآخرين على الانضمام إليه. لكن بالنسبة لجاك، كل هذه الحركة كانت تثقل قلبه بدلًا من رفعه، تشعره بأنه غير قادر على اللحاق بهذا الإيقاع، وأن وجوده لا يُحسب في هذه اللعبة.

نورا، الهادئة والحساسة، كانت مختلفة بعض الشيء. أحيانًا كانت تجلس بجانبه، تشاركه الصمت، وتلقي عليه نظرة وكأنها تفهم ما لا يجرؤ على قوله. لم يكن يعرف كيف يبدأ الحديث معها عن شعوره، لكن وجودها كان يبعث في قلبه شعورًا غريبًا بالأمان، كأن هناك شخصًا واحدًا فقط في هذا العالم يمكنه أن يشعر بما يشعر به دون أن تحتاج الكلمات إلى النطق.

مع مرور الأيام، بدأ جاك يكتب في دفتر صغير كل ما يختلج في قلبه. كان دفتره بمثابة صديقه الوحيد، مكانه الآمن الذي يمكنه التعبير فيه عن وحدته، عن الاكتئاب الذي يزحف إلى قلبه بلا استئذان، وعن شعوره بالغربة وسط أصدقائه. كان يكتب عن ليلى وموسيقاها، عن ضحكات مروان التي لم تصله، عن سحر الكتب الذي يحيط بسارة، عن حركة رامي التي تصده، وعن نورا التي تبدو وكأنها تفهمه أكثر من أي شخص آخر.

كان كل يوم بالنسبة له يشبه تجربة جديدة لاختبار الصبر، اختبار القدرة على التعايش مع هذه الوحدة وسط من حوله. لكنه لم يستسلم تمامًا، كان يراقب التفاصيل الصغيرة: ابتسامة ليلى عندما تعزف، طريقة مروان في إلقاء النكات، حركات سارة وهي تقلب الصفحات، نظرات رامي الحماسية، وصمت نورا المريح. كل هذه التفاصيل كانت تمنحه شعورًا ضعيفًا بأنه جزء من شيء أكبر من نفسه، حتى لو لم يكن يشاركهم فعليًا.

في أحد الأيام، وبينما كان جاك يغرق في الكتابة، شعرت نورا به وابتسمت له بهدوء، وجلست بجانبه. لم يتحدثا، لم تكن هناك كلمات، فقط جلسا معًا في صمت، وكأن الصمت أحيانًا يكون أقوى من أي محادثة. في تلك اللحظة، شعر جاك بأن الوحدة ليست نهاية الطريق، وأن وجود شخص واحد يفهمك يمكن أن يكون بداية للخروج من العزلة الداخلية.

ربما لن يختفي الاكتئاب بين ليلة وضحاها، وربما ستظل الوحدة ترافقه أحيانًا، لكنه بدأ يلمس أول خيوط الأمل في وسط الظلام، خيوط صغيرة تبشر بأنه رغم كل شيء، ما زال هناك طريق للخروج، وطريق للانتماء، وطريق للشعور بالحياة حتى وسط الصمت والفراغ.

الفصل الثاني

مرّت أسابيع قليلة منذ تلك اللحظة الصامتة التي جلس فيها جاك مع نورا. ورغم أن الصمت لم يغير حياته جذريًا، إلا أنه ترك بداخله شرارة صغيرة، كأنها لمحة أمل تقول له: أنت لست وحدك تمامًا. لكن الأيام لم تكن سهلة. كان الاكتئاب يتنقّل معه كظل ثقيل، يرافقه من الصباح حتى الليل.

في كل صباح، يبدأ يوم الشقة بحماس مختلف. ليلى عادةً أول من يستيقظ، تحمل غيتارها وتجلس بجانب النافذة تعزف نغمات خفيفة. كان صوتها يملأ المكان بطاقة لطيفة، لكن جاك كان يشعر وكأن الموسيقى تتسرب من حوله دون أن تلمسه. كان يجلس في المطبخ يحتسي قهوته بصمت، يراقبها من بعيد، وفي داخله سؤال يصرخ: لماذا لا أستطيع أن أشعر بما يشعرون؟

مروان يدخل بعد قليل، ضاحكًا منذ أن يفتح عينيه. يبدأ يومه بمزحة أو قصة مضحكة عن حلم غريب رآه، أو تعليق ساخر عن الحياة. الأصدقاء يضحكون، الجو يمتلئ بالحيوية، بينما جاك يبتسم ابتسامة صغيرة لا تصل إلى قلبه. كان يتمنى أن يضحك مثلهم، أن يشاركهم بصدق، لكن شيئًا في داخله كان يعيقه.

سارة، بعالمها المليء بالكتب، كانت دائمًا تجلس في الزاوية. تحمل معها رواية جديدة كل أسبوع تقريبًا. كانت تحب مناقشة الشخصيات والأحداث، وغالبًا ما كانت تتحدث بحماس عن بطل القصة أو نهايتها. كانت تحاول إشراك جاك، تسأله: "لو كنت مكانه، شو كنت رح تعمل؟" لكنه كان يكتفي بهز كتفيه، أو بكلمة قصيرة. لم تكن المشكلة أنه لا يفهم القصة، بل أنه لا يعرف كيف يشرح مشاعره، لا يعرف كيف يربط نفسه بعالمها الذي يبدو بعيدًا عنه.

رامي، بعكس الجميع، لم يعرف الصمت أبدًا. كان يصرّ على إدخال الحركة في حياة البيت. يدعوهم للركض في الصباح، للذهاب إلى النادي، أو حتى لمباراة كرة سريعة في الحديقة القريبة. كان يتوجه إلى جاك بحماس شديد: "يلا قوم، التمرين رح يخلي مزاجك أحسن!" لكن جاك لم يجد الطاقة حتى للنهوض أحيانًا. كان يبتسم اعتذارًا، ويترك رامي ينطلق وحده. وكلما ابتعد رامي بخطواته السريعة، شعر جاك أكثر بأنه متأخر عن الحياة، وكأنه عالق في مكان لا يتحرك.

أما نورا، فكانت مختلفة. لم تكن كثيرة الكلام، لكنها كانت الأقرب إليه رغم المسافة. كانت تلاحظ غيابه عن الأحاديث، أو شروده الطويل، لكنها لم تضغط عليه. بدلًا من ذلك، كانت تترك له مساحة، ثم تقترب بخطوات صغيرة. ذات ليلة، بينما كان يجلس يكتب في دفتره، وضعت كوب شاي بجانبه وقالت: "فكرت يمكن تحتاج شي يدفّيك." لم تكن كلماتها كثيرة، لكنها دخلت قلبه بسهولة. لأول مرة منذ فترة طويلة، شعر أن أحدًا يراه حقًا، لا كظل، بل كإنسان حي يتألم.

أصدقاؤه لم يكونوا سيئين، بل كانوا مليئين بالحياة والطيبة، لكن مشكلته كانت داخله، في مرآة مشوشة يرى بها نفسه والعالم. الاكتئاب جعله يعتقد أنه غريب بينهم، وأن وجوده غير مهم. كلما حاول الاقتراب، صوته الداخلي يهمس: أنت مختلف. لن يفهموك.

في أحد الأيام، قرر الأصدقاء الخمسة أن يقيموا عشاء جماعي. الطاولة امتلأت بالطعام، وضحكاتهم غطّت على أصوات الملاعق. مروان روى نكتة جعلت ليلى تكاد تبكي من الضحك، ورامي كان يشرح خطة تدريب جديدة يريد أن يجربها، بينما سارة ناقشت نهاية رواية مثيرة. جاك جلس معهم، لكنه شعر وكأنه يشاهد فيلمًا من بعيد. أحيانًا ابتسم، أحيانًا قال كلمة قصيرة، لكن داخله ظل هادئًا بشكل موجع.

حين انتهى العشاء، بقي جالسًا في مكانه بعد أن غادر الآخرون. شعر بدمعة تتسلل دون إذن، دمعة لم يرها أحد. كان يتساءل: هل سأظل دائمًا هكذا؟ هل سيأتي يوم أشعر فيه أنني جزء من هذا العالم؟

لكن عندما عاد إلى غرفته، وجد ورقة صغيرة على مكتبه. كانت بخط نورا: "مش لازم تحكي إذا مش قادر، بس أنا موجودة لو حبيت." تلك الجملة الصغيرة، البسيطة، كانت أقوى من أي خطبة أو نصيحة. كأنها نافذة صغيرة انفتحت في جدار عتمته.

في تلك الليلة، كتب جاك في دفتره شيئًا مختلفًا: لم يكتب عن الوحدة أو الألم فقط، بل كتب: ربما، فقط ربما، هناك من يستطيع أن يراني كما أنا. وربما هذا يكفي لأبدأ من جديد.

الفصل لم ينتهِ عند تلك الجملة، بل كان مجرد بداية لصراع أطول. الاكتئاب لم يختفِ، لكنه بدأ يتصدّع أمام لمحات صغيرة من الأمل، من كلمات بسيطة، ومن وجود شخص واحد لا يهرب من صمته.

---

الفصل الثالث

الفصل الثالث

الشتاء بدأ يطرق أبواب المدينة. المطر صار يزخّ يوميًا، والسماء الرمادية صارت صورة ثابتة في نافذة جاك. الجو الخارجي كان انعكاسًا مثاليًا لما في داخله. البرد لم يكن يهاجم جسده فقط، بل روحه أيضًا. كل صباح، كان يستيقظ بصعوبة، يتمنى لو أنه يستطيع البقاء في السرير إلى الأبد.

لكن الأصدقاء لم يسمحوا للحياة بالتوقف. ليلى كانت تحضر أغاني جديدة، وصوت غيتارها صار أعلى مع عواصف المطر. مروان ما زال يروي نكاته وقصصه التي تجعل الآخرين يضحكون من قلوبهم. سارة غاصت في سلسلة روايات جديدة، وعيونها تتألق كلما شاركتهم تفاصيل مثيرة. رامي لم يتوقف عن التدريب، حتى في المطر، يعود مبتلًا لكنه سعيد، يصرخ بحماس: "المطر بيخليني أحس إني عايش!"

جاك كان يراقبهم جميعًا بصمت. جزء منه كان يغار من طاقتهم وحياتهم، وجزء آخر كان يشعر بالذنب لأنه غير قادر أن يكون مثلهم. صراعه الداخلي اشتدّ أكثر، ومعه أصوات في رأسه تهمس: أنت عبء. لو لم تكن هنا، حياتهم ستكون أسهل.

في إحدى الليالي، كان الجميع يجلس في الصالة يشاهدون فيلمًا كوميديًا. الضحكات ملأت الغرفة، لكن جاك شعر بغصة خانقة. لم يستطع المتابعة، نهض فجأة وغادر الغرفة. دخل إلى شرفته الصغيرة تحت المطر، جلس هناك وهو يحدّق في الظلام. لم يكن يفكر بوضوح، كان فقط يشعر بثقل لا يُحتمل. هل سأظل سجينًا لهذا الشعور للأبد؟ تساءل في نفسه.

بعد دقائق، لحقت به نورا. لم تقل شيئًا في البداية، فقط جلست بجانبه تحت المطر. نظر إليها باستغراب:

– "ليش جيتي؟ رح تتبللي."

ابتسمت بهدوء وقالت:

– "مش مهم. يمكن أكون محتاجة أبقى معك، زي ما إنت محتاج حدا يكون هون."

كلماتها اخترقت جدار الصمت داخله. لأول مرة، شعر أنه يملك الحق بأن يكون ضعيفًا أمام أحد. حاول أن يتكلم، لكنه لم يجد الكلمات. دموعه نزلت بلا إذن. لم يهرب هذه المرة، لم يختبئ. تركها ترى ضعفه. ونورا، ببساطة، مدّت يدها وأمسكت بيده.

في تلك اللحظة، شيء تغيّر. لم يختفِ الألم، لكنه لم يعد وحده فيه.

في اليوم التالي، حاول جاك أن يقوم بخطوة صغيرة. حين دعا رامي الجميع للجري في المطر، عادةً كان يرفض، لكن هذه المرة قال بصوت خافت: "ممكن أجرب." نظر إليه رامي بدهشة كبيرة، ثم ابتسم بحماس: "هيا! هذا اللي بدي إياه منك!"

خرجوا جميعًا، المطر يتساقط فوقهم. جاك لم يستطع مجاراة سرعتهم، لكنه شعر بالهواء البارد يلمس وجهه، والمطر يختلط مع دموعه القديمة. كانت لحظة بسيطة، لكنها بالنسبة له كانت إنجازًا. ربما لن يصبح مثل رامي، لكن على الأقل خرج من غرفته، واجه المطر بدلًا من الاختباء خلف الزجاج.

في الليل، جلس مع دفتره وكتب: اليوم ركضت. مش كثير، بس ركضت. شعرت للحظة أني موجود.

الأصدقاء لم يدركوا تمامًا حجم المعركة التي يخوضها جاك. بالنسبة لهم، الأمر كان مجرد مشاركة بسيطة في نشاط. لكن بالنسبة له، كان خطوة أولى في مواجهة الوحش الذي يسكن داخله.

مع مرور الأيام، بدأت العلاقة بينه وبين نورا تزداد قوة. لم تكن تسأله أسئلة كثيرة، لكنها كانت موجودة دائمًا. مرة تجلب له كوب شاي، مرة أخرى تضع كتابًا بجانبه وتقول: "يمكن يعجبك." لم تجبره على الحديث، لكنها أعطته الإحساس بأنه غير مرئي كما كان يعتقد.

رغم ذلك، المعركة لم تكن سهلة. في بعض الأيام، يعود الظلام أقوى من أي شيء. كان يستيقظ بلا طاقة، ينسحب إلى غرفته، يرفض الخروج. كان يكره نفسه لأنه يتراجع بعد كل خطوة. لكن نورا كانت تقول له: "حتى لو خطوتك صغيرة، المهم إنك تتحرك. مافي أحد بيمشي بخط مستقيم دائمًا."

كلماتها لم تشفِ جرحه، لكنها منحت قلبه عزاء.

ذات مساء، اجتمعوا جميعًا على العشاء مجددًا. هذه المرة، حاول جاك أن يشارك في الحديث. قال لسارة: "خلصت الكتاب اللي أعطيتيني إياه… النهاية كانت حزينة." الجميع التفت إليه بدهشة، ليس لأنه تكلم فقط، بل لأن نبرة صوته كانت مختلفة، حقيقية. سارة ابتسمت بفخر، كأنها فازت بمعركة صغيرة. مروان ضحك وقال: "وأخيرًا طلع صوتك!" فضحكوا جميعًا، حتى جاك ابتسم ابتسامة دافئة هذه المرة.

كانت لحظة قصيرة، لكنها أثبتت له أن الطريق ليس مغلقًا كما كان يظن. ربما لن يشفى سريعًا، وربما سيظل يصارع لفترة طويلة، لكن هناك فرق حين تعرف أن أحدًا ما ينتظرك عند نهاية الطريق.

وفي دفتره تلك الليلة كتب: الاكتئاب مازال هنا، لكنه لم يعد وحده يملأ حياتي. هناك موسيقى، وهناك ضحكات، وهناك يد أمسكت بيدي تحت المطر.

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon