الفصل الرابع
كان الليل قد أرخى سدوله على مدينة "إيدنبرج الجديدة"، والضباب يلف شوارعها كما لو كان يخفي أسراراً ثقيلة.
جلست سلمى على مقعدٍ وثير في غرفة الضيوف بقصر ياسين، عيناها شاردتان نحو المدفأة التي تتراقص نيرانها.
أصابعها ما زالت ترتجف من أثر المطاردة التي عاشتها قبل ساعات قليلة.
كانت تشعر بالأمان نسبيًا، لكن قلبها يرفض أن يهدأ.
دخل ياسين الغرفة بخطوات ثابتة، يحمل كوبين من الشاي الأسود.
وضع أحدهما أمامها وقال بصوت منخفض: "اشربي، ستحتاجين إلى بعض الدفء."
رفعت رأسها نحوه، نظرت إلى عينيه بارتباك.
"لماذا تساعدني؟" قالت بتوجس.
ابتسم ابتسامة قصيرة، تحمل شيئاً من السخرية: "ربما لأني أكره رؤية الضعف أمامي."
عقدت حاجبيها وقالت: "هذا لا يبدو جواباً مقنعاً."
جلس أمامها، وأسند ذراعه على مسند الكرسي.
"الحقيقة؟" قال وهو يحدق في النار.
"نعم، أريد الحقيقة."
"أنا لا أحتمل أن تلمس تلك العصابة حياتي ولو عن طريقك. وجودك عندي يضعهم في مرمى نيراني."
اتسعت عيناها: "أتعني أنك ستواجههم؟"
"بالطبع." قالها بثقة مطلقة.
شعرت سلمى بمزيج من الخوف والإعجاب.
هو لا يعرفها إلا منذ ساعات، ومع ذلك يتحدث وكأنه سيخوض حرباً من أجلها.
همست لنفسها: "لكن لماذا أنا؟"
التفت إليها فجأة: "هل قلت شيئاً؟"
"لا… لا شيء."
صمت ياسين للحظة طويلة، ثم قال: "قصي عليّ ما حدث منذ البداية."
ترددت، ثم بدأت تسرد له تفاصيل الاختطاف.
كيف كانت عائدة من عملها في المتجر، مثقلة بالإرهاق.
وكيف توقفت سيارة سوداء بجوارها.
خرج منها رجلان قويان وسحباها بالقوة.
"كنت أصرخ، لكن لا أحد سمعني." قالت بصوت مبحوح.
نظر إليها ياسين بعينيه الجادتين.
"ثم… وجدت نفسي في مخزن مظلم، مقيدة اليدين."
شهقت وهي تتذكر: "كانوا يضحكون، ويتحدثون عن بيع الفتيات لشركات ترفيه سرية."
قبض ياسين على قبضته بشدة حتى برزت عروقه.
"أوغاد." تمتم بحدة.
تابعت: "ثم… واحد منهم اقترب مني بسكين، وأراد أن يرعبني."
رفعت يدها إلى كتفها حيث الجرح ما يزال طريًا.
"لقد طعنني هنا… لم أستطع المقاومة."
انحنى ياسين نحوها بحدة: "لكن كيف هربت؟"
قالت: "أحدهم ترك الباب موارباً، ربما نسي. جمعت شجاعتي، وركضت بكل قوتي."
"والبقية؟"
"لا أعرف، ربما لحقوا بي… لكني كنت أركض، لم ألتفت."
ابتسم ياسين بسخرية مريرة: "القدر جلبك إليّ إذن."
"أم أنني جلبت لنفسي المزيد من المشاكل؟" ردت بصوت خافت.
وقف ياسين فجأة: "المشاكل هي وقودي. لا تخافي."
نظرت إليه متعجبة: "وكيف لا أخاف؟ حياتي مهددة."
اقترب منها حتى أصبح واقفًا أمامها.
"لأنك الآن لستِ وحدك."
ارتبكت، وشعرت بحرارة تسري في وجهها.
"لكن… أنت لا تعرفني جيداً."
"أعرف ما يكفي. فتاة هربت من بين أنياب الذئاب تستحق الحماية."
سكتت للحظة، ثم سألت بخجل: "هل تصدق أنني كنت أحلم فقط بمتجر صغير للملابس النسائية؟"
ابتسم بخفة: "أحلامك أكبر مما تتصورين، لكنها تبدأ من هنا."
"لا أفهم."
"سأجعلك قوية بما يكفي لتدافعي عن نفسك وعن أحلامك."
فتحت عينيها بدهشة: "لماذا؟"
"لأنني أريد ذلك." أجاب بصرامة.
في تلك اللحظة، دق جرس القصر فجأة.
تجمدت ملامح سلمى.
أما ياسين فقد نهض ببطء، يتجه نحو الباب وكأن شيئًا لم يفاجئه.
"من في هذا الوقت المتأخر؟" همست سلمى.
أجاب ببرود: "سنعرف الآن."
فتح الباب، فظهر رجل ببدلة أنيقة.
"مساء الخير، سيد ياسين." قال الرجل بابتسامة مصطنعة.
ض narrowed ياسين عينيه: "ما الذي جاء بك، جيمس؟"
رد الرجل: "عمل عاجل… سمعت أنك تأوي فتاة هاربة."
صُدمت سلمى، وتراجعت خطوة إلى الوراء.
التفت ياسين بسرعة إلى الداخل، بعينيه نظرة صارمة نحوها.
"لا تتحركي." همس لها.
ثم خاطب الرجل: "أنت تسمع الكثير يا جيمس."
"لأنني أعرف الكثير… العصابة تبحث عنها."
"وما دخلك أنت؟"
ابتسم جيمس: "دعنا نقول إن لدي مصلحة مشتركة معهم."
صمت ياسين للحظة، ثم قال ببرود: "أخرج من ممتلكاتي قبل أن أجعل رجالي يرونك خارج الحدود."
ضحك جيمس بخفة: "أنت لا تخيفني، ياسين."
"ستعرف قريباً ما يعنيه الخوف."
أغلق الباب بعنف، تاركاً جيمس واقفًا في الظلام.
التفت نحو سلمى، ملامحه قاسية.
"لقد عرفوا مكانك."
تجمد الدم في عروقها: "ماذا سنفعل؟"
"نستعد." أجاب بثقة مطلقة.
"لكن… هل تستطيع مواجهتهم وحدك؟"
ابتسم ببرود: "لم أقل وحدي."
نظرت إليه بحيرة: "أتعني… أنا؟"
"بالطبع."
شهقت: "لكنني ضعيفة!"
"ستتعلمين أن الضعف مجرد قناع. وسأمزقه عنك."
رفعت يدها إلى صدرها: "أنا خائفة جداً."
اقترب منها، همس بجانب أذنها: "الخوف بداية الشجاعة."
ارتجفت من قربه، لكنها شعرت بشيء غريب من الطمأنينة.
"متى سيأتون؟"
"قريباً."
"وماذا لو قبضوا عليّ مرة أخرى؟"
"لن يحدث ذلك."
"كيف يمكنك أن تكون واثقاً لهذه الدرجة؟"
"لأنني أنا ياسين."
ضحكت بسخرية قصيرة رغم خوفها: "أنت فعلاً تعاني من جنون العظمة."
ابتسم: "ربما… لكنه جنون ينقذ الأرواح."
جلست على المقعد من جديد، تفكر في كلماته.
أما هو فجلس قبالتها، ينظر إليها بتركيز.
كان الصمت بينهما ثقيلاً، لكنه مليء بما لا يُقال.
كل منهما يعرف أن القادم لن يكون سهلاً.
لكن شيئًا جديدًا وُلد في تلك اللحظة: بداية الثقة.
12تم تحديث
Comments
Best Bts
جميل /Drool//Drool//Drool/
2025-08-18
1