كانت الليلة مظلمة، والبرد يدخل عبر نافذة غرفة كرم، لكنه لم يشعر بالبرودة.
كان قلبه مشغول برسالة قصيرة وصلت لتوّها من ميرال:
> "ما رح أقدر أجي اليوم، في شي لازم أواجهه لوحدي… لا تسألني، بس سامحني."
كرم جلس على سريره، والهاتف في يده، والرسالة تثقل عليه كأنها حجر ضخم.
كلمة "سامحني" كانت كافية لتوقظ كل مخاوفه… وكأنها نهاية مكتوبة بلغة ناعمة لكنها جارحة.
حاول ينام، لكنه فشل.
كل مرة يغلق عينيه، كانت صورة ميرال تعود إليه.
عيونها التي تحمل الحزن، وابتسامتها التي تخفي الألم، وصوتها الخافت لما تحكي عن خوفها من القرب.
كان يشعر أن شيئًا غير عادي يحدث… شيء أكبر من مجرد تقلب مزاج أو يوم صعب.
مع طلوع الفجر، قرر أن ينتظرها… لكنه لم يحصل على أي اتصال أو رسالة أخرى.
وفي اليوم التالي، عند المقهى المعتاد، جلس في الزاوية نفسها، يُقلّب كوب القهوة بين يديه دون أن يشرب.
مرّت الساعة الأولى… ثم الثانية.
وفجأة، ظهرت ميرال.
كانت تمشي ببطء، وجهها شاحب، عيناها محمرتان من السهر، وصوتها يحمل توترًا واضحًا.
كرم وقف فورًا، اقترب منها بحذر، وقال:
— "ميرال، ما سألتك مبارح… بس اليوم بدي أفهم. شو اللي عم بيصير؟"
ترددت، نظرت إلى الأرض، ثم رفعت رأسها، وعيناها تحملان شيئًا ثقيلًا: — "كرم… عندي سر كبير. وجع ما كنت جاهزة أحكيلك عنه."
جلسا معًا، قلبه يدق بسرعة، وهي تمسك كوب الماء بيدين مرتجفتين.
أخذت نفساً عميقاً، ثم قالت بصوت متقطع:
— "قبل سنتين، كنت مرتبطة بشخص… كنا بنخطط لمستقبلنا سوا، كنا نحلم ونخطط للعمر كله."
— "وبعدين؟"
— "صار حادث… حادث سيارة. أنا كنت عم بسوق، وهو كان جنبي. الحادث… هو مات، وأنا عايشة."
ارتجف صوتها عند هذه الكلمات.
رمشت بسرعة تحاول إيقاف دموعها، لكنها فشلت.
— "أنا عشت بجنبه بعد الحادث… لكن بذنبي. كل يوم بحس إني أخطأت، كل يوم بيقتلني الشعور إني عشت وهو ما عيش."
كرم وقف، وقلبه موجوع، لكنه أخفى ذلك، جلس بقربها دون ما يحكي.
نظر لعينيها وقال:
— "ميرال… إنتِ نجوتِ، مش لأنك مذنبة، بل لأن الله كاتب لك تكفي… ولأنك بعدك هون، يمكن في حدا محتاجك، في شي لازم تعيشي عشانه."
— "أنا حاولت أهرب من الماضي، من الناس، من المشاعر… بس أنا عم بهرب من حالي، كرم."
— "أنا ما رح ألومك، ولا مرّة. وما رح أتركك تواجهين كل هالوجع لحالك… خلينا نكون سوا."
صمتت ميرال، وكأن الكلام اللي خرج منها استنزف كل قدرتها على التنفس.
كان المقهى هادئًا بشكل غريب، وكأن الزمن توقف احترامًا لدمعتها.
اقترب كرم أكثر، جلس أمامها، وأخذ يدها المرتجفة بين يديه.
قال بلطف يشبه حضن الروح:
— "ميرال، أنا مش جاي أنقذك… بس مستعد أكون كتفك، لو قبلتي."
أجابت بصوت بالكاد يُسمع:
— "أحيانًا، الخوف مش من الناس… الخوف من حالي. بخاف أرتاح، بخاف أحب من جديد، بخاف أكون سبب فقد جديد."
— "وإذا تركتي كل شي خوف؟ إذا ظلّ خوفك هو اللي يقودك… رح تضيعي، مش لأنك ضعيفة، بس لأنك لحالك."
ثم أضاف وهو ينظر لعينيها مباشرة: — "أنا مش هو. وأنا مش جاي آخد مكانه، ولا أطلب تنسيه. بس يمكن نكتب صفحة جديدة… مش تمحي اللي قبل، بس تحضنه وتحكي: كملت حياتي رغم الوجع."
أغلقت عينيها بقوة، كأنها تحاول تحبس دموعها الأخيرة، لكن الدموع خانتها.
بكت، بصمت، ثم بصوت خافت، وكأنها بكت عن كل شيء… عن الفقد، وعن الشعور بالذنب، وعن التعب اللي ما حدا شافه قبل.
كرم ما قال شي. فقط سحب الكرسي وجلس بجانبها، ومسح دموعها بأطراف أصابعه، كأنه يحاول يطفئ نيران تحترق فيها من سنين.
وبعد لحظة صمت طويلة، همست:
— "كرم… أنا تعبت. بس لما قلتلي ‘أنا هون’، حسّيت لأول مرة إني مش مجبورة أتحمّل لحالي."
ابتسم، ابتسامة صغيرة لكنها حقيقية، وقال: — "وهي البداية، ميرال. مش لازم تكوني جاهزة، ولا قوية… بس خليني أكون جنبك، والباقي علينا سوا."
ثم وقف، مدّ إيده إلها، وقال:
— "يلا نروح نتمشّى شوي؟ يمكن الهوا يهوّن… ويمكن نضحك، ولو لدقيقة."
أمسكت يده بخجل.
كانت يدها باردة، لكنه شعر بحرارة قلبها توصل له بهدوء.
خرجا من المقهى… خطوة بخطوة، على رصيف مليان ذكريات جديدة تنتظر إنها تكتب.
وهي ما كانت عارفة، إنه كل لحظة صغيرة بتقربه منها… كانت تفتح في قلبه باب جديد.
وإنه كلّما تعلّق فيها، اقترب اليوم اللي لازم فيه يختار…
يبقى،
أو ينكسر معاها.
Comments