بعد ذلك، أصبحت لقاءات ميرال وكرم عادة غير معلنة. لا مواعيد ولا وعود، فقط نظرات تلتقي صدفة، وأحاديث دافئة تُقال على مهل في برد الشتاء.
كان كرم يتحدث كثيرًا عن عائلته وأحلامه، بينما كانت ميرال تستمع، تبتسم أحيانًا وتصمت أحيانًا أخرى.
كانت تحب طريقته في الكلام، كيف يقدر يحوّل أبسط اللحظات لشيء يشبه الحكاية.
لكن كان هناك خوف في عينيها.
شيء مخفي خلف ابتسامتها الهادئة، كأنها تتوقع الرحيل قبل ما يبدأ الحضور.
في أحد المساءات، كانت تمشي بجانبه بصمت. كانت تحمل في يدها دفتراً صغيرًا، وقالت فجأة: — "بتعرف شو بكتب هون؟"
هزّ رأسه: — "احكيلي."
قالت وهي تنظر للأرض: — "كل الأشياء اللي ما بقدر أحكيها بصوتي… عن خوفي، عن أخوي، عن الناس اللي مشيوا وما رجعوا، عنّي لما صرت غريبة عن حالي."
كان الليل ناعمًا، والشارع شبه خالٍ. ضوء خافت من محل قديم أعطاهم ظلًّا طويلًا يمشي أمامهم.
قال كرم بعد لحظة صمت: — "كلنا عنا شي بنخاف نحكيه، ميرال… بس أحيانًا، لما نحكيه لحدا بيشبهنا، بيصير أخف."
في مساء خريفي آخر، جلسا على درج قديم أمام المكتبة، وناولها كوب كاكاو ساخن: — "بتعرفي يا ميرال، كل الناس بتحكي، بس قليل اللي عنده الجرأة يقول اللي بيوجعه."
نظرت له بعينين متعبتين: — "فيه وجع إذا نقال… بيخلينا ننهار، مش نرتاح."
هزّ رأسه: — "بس إذا ضلّ ساكت، بيفجّرنا من جوّا."
سكت قليلاً، ثم سأل بصوت خافت: — "هو اللي وجعك… لسه معك لهاللحظة؟"
أجابت بصوت يشبه الحنين: — "أكتر من لحظة… هو عايش جوّاتي. أوقات بنساه، بس هو ما بنساني."
مدّ كرم يده برقة، ومسّك أطراف أصابعها المرتجفة.
ما كان يحاول يربح ثقتها… كان بس يحاول يكون موجود، صادق، حاضر.
— "أنا مش جاي أعالج شي، بس يمكن وجودي يخفف شوي."
نظرت له ميرال، وفي عينيها مئات الحكايات، ثم قالت: — "إذا قربت أكتر… يمكن ما أقدر أتركك."
ابتسم بخفة: — "مش طالع مني أقرّب… بس ما قدرت أبعد."
ومن تلك الليلة، بدأ شيء يتغيّر.
صارت ميرال تحكي أكثر. مش عن كل شي، لكن عن أشياء بسيطة:
المدرسة، أول مرة انهزمت فيها، صديقتها اللي خذلتها، دفترها اللي ضاع فيه نص عمرها.
وكان كرم يستمع، وكأن كل كلمة منها كنز.
مرة، أخبرها عن أبوه اللي كان قاسي، عن كيف كان طفل خجول ما بيحكي كثير، وكيف علّم حاله يبتسم عشان ينجو.
قال لها: — "أنا كنت خايف أحكي مشاعري، لأن دايمًا في حدا يسخر… أو يختفي."
ضحكت ميرال وقالت: — "وأنا كنت أخاف أحكي لأن الكل كان يختفي أول ما أفتح قلبي."
ضحك كرم: — "يبدو قلوبنا تعبت من البدايات الغلط."
قالت بهدوء: — "بس يمكن هاي بداية صح؟"
رد بثقة: — "أو على الأقل… مش وهم."
لكن رغم هذا القرب، كان كل واحد فيهم يعرف إنهم ما زالوا واقفين على حافة.
ميرال كانت تخاف من الحب… من الفقد… من التعلق.
وكرم، رغم قوّته الظاهرة، كان يشعر إنه إذا تعلّق أكتر… ممكن يخسرها فجأة.
وفي إحدى الليالي، لم تحضر للمكان المعتاد.
انتظرها ساعة، ثم أخرى… ولم تأتِ.
في اليوم التالي، ظهرت فجأة. كانت عيناها محمرّتين.
سألها: — "ميرال، شو صار؟"
قالت وهي تمسك يده بقوة لأول مرة: — "أنا مش قوية زي ما بظهر… بس بترجّاك، لا تخلّيني أرجع أكون لوحدي."
شدّ يدها بلطف وقال: — "أنا هون… مش رح أروح إلا إذا قلتيلي بوضوح: روح."
نظرت له طويلاً… ثم همست:
— "ابقى."
وكانت هذه أول مرة تطلب شيء من حدا…
وأول مرة كرم يحس إنه فعلًا، وصل.
لكن القرب… دايمًا إله ثمن.
وهم ما كانوا يعرفوا إن القادم، رح يختبر كل كلمة، كل وعد، وكل لحظة دفء عاشوها.
Comments