مرت أيام قليلة بعد لقائهما الأول، وميرال لا تعرف لماذا بقي وجهه في ذهنها. لم تكن من النوع الذي يتعلّق بسرعة، لكنها كانت متعبة… ووحدتها كانت أوسع من أن تُحتمَل.
كرم لم يكن فقط شخصًا عاديًا، بل كان في حضوره شيء غريب، كأن عينيه تعرف كيف تحتضن حزنك دون ما تحكي.
بين كل الأحاديث، كان هناك صمت مختلف. صمت فيه ألف كلمة وألف شعور، وكأن أرواحهما تعرفت على بعضها قبل أن تتلامس الكلمات.
في ظهيرة باردة، جلست في زاوية مقهى صغير قرب الجامعة، قرب النافذة. كانت ترتدي وشاحًا رماديًا، وشعرها المبلل من المطر ما زال يلتصق بوجهها. الجوّ رمادي، والموسيقى في الخلفية كانت ناعمة، كأنها تعتذر عن ضجيج الحياة.
ثم سمعت صوته يسبق خطواته:
— "من جديد... صدفة؟ ولا قاعدة تستنّيني؟"
رفعت عينيها. لم تتفاجأ، لكنها شعرت بشيء يتحرّك في داخلها… ربما دفء؟ ربما ارتباك؟ لم تكن تعرف.
نظرت له بلا كلام، لكن ابتسامة خفيفة فضحت ارتباكها.
جلس بهدوء دون أن يستأذن، كأن المكان كان ينتظره أيضًا.
— "أنا آسف إذا أزعجتك قبل، بس حسّيتك مش بخير، وحبيت أطمن عليك."
هزت رأسها بهدوء:
— "أنا منيحة… بس يمكن مش متعودة حدا يلاحظني."
نظر إليها بتمعّن، كأن جملتها هذه حملت أكثر مما قيل: — "معقول حدا متلك… ما يلاحظوه؟"
ضحكت بخفة، ثم أشاحت بنظرها إلى الشارع المبتل خلف الزجاج: — "مش كل الناس بتشوف، كرم. في ناس بتتعود تمشي بعينين مغمضين."
أحس أن كلامها مش عادي، كأنه طالع من جرح، مش بس من تفكير.
طلب لها شاي بالنعنع، من غير ما يسألها. كأنه عرف من صوتها إنها ما بدها قهوة اليوم.
قال بصوت خافت:
— "تعرفي… أنا من النوع اللي بيقرأ الناس من سكوتهم. وانتي، صوتك سكت كثير… مو هيك؟"
صمتت.
كانت تحاول تبعد عن أي سؤال ممكن يفتح أبواب تعبت من قفلها، لكنها لم ترد الهروب منه. مش اليوم.
أخذت نفسًا عميقًا، وشربت رشفة من الشاي. كان دافئًا… زيّه.
— "في إشي جواتي، كرم. مش عارفة إذا بدي أحكيه، أو أدفنه أكتر."
نظر لها دون استعجال، قال بلطف: — "أنا مش جاي أستخرج وجعك. بس مرات… بس لما تحكيه، بتحس إنه صار أخف شوي."
أطرقت رأسها، ثم همست: — "كنت أحب أخوي الكبير كثير. كان كل حياتي. كان صديقي الوحيد وأنا بمرّ بأصعب فترة… ولما راح، حسيت إنه حتى ضلي اختفى."
تجمد كرم للحظة. لم يتوقّع أن تبدأ هكذا. لكنه لم يقاطعها.
— "حادث. سائق سكران. راح بلحظة. وأنا كنت واقفة على الرصيف، شفت كل شي… وما قدرت أعمل ولا شي."
ذرفت دمعة، بصمت.
لم تمد يدها تمسحها، وكأنها أرادت أن تنزل ببطء، شاهدة على الغصة اللي تسكنها.
— "من وقتها، ما عاد عندي طاقة أتعلق. ولا أسمح لحدا يقرب كتير. كل ما يقرب… بخاف أفقده، زي ما فقدته."
كان كرم يستمع، ووجهه ساكن، لكن عيونه كانت تتكلم.
قال بهدوء: — "اللي فقدتيه، ما بيروح. هو صار جزء من وجعك… بس مو لازم يكون كلّك."
أضاف: — "وأنا مش جاي آخذ مكان حدا… بس يمكن أكون نقطة ضوّ صغيرة… إذا سمحتيلي."
نظرت إليه، وفي عينيها مزيج من الخوف والراحة، ثم قالت:
— "أنا مش متأكدة إني بعرف كيف أحب… أو أتعلّق… أو حتى أثق."
ضحك كرم بخفة، وقال: — "ولا أنا، ميرال. بس بنجرّب، صح؟ بنفشل، بنخاف، بنهرب… بس إذا ما جربنا، بنضل نعيش بين الأسوار."
صمتا قليلاً. ثم قالت: — "شو عرفك فيّي؟ ليش مهتم؟"
رد بعد تردد قصير: — "يمكن لأني شفت حالي فيك. يمكن لأني تعبت أضحك على الكل، وأنا من جوّاي فاضي. يمكن لأني لما شفتك بالمكتبة… حسّيت إني رجعت أتنفّس."
ارتبكت، فركت أصابعها بخجل.
أحسّت بخطر جميل… خطر التعلّق.
وسألته أخيرًا: — "وإذا تركتني؟"
قالها بثقة مكسورة:
— "أنا مش بوعدك أبقى… بس بوعدك إذا مشيت، أترك ضوّي وراي."
كانت تلك اللحظة بداية التعلق... وأول خطوة نحو النهاية، دون أن يدركوا.
لأن أحيانًا… النهاية تبدأ لما تحس إنك أخيرًا لقيت البداية.
Comments