كلمات لم تقل
كانت ميرال تمشي بسرعة في شارع من شوارع عمّان، تحمل بين يديها كتابًا جامعيًا وأوراقًا مبعثرة. كان الجو باردًا، والمطر يتساقط برقة على كتفيها، لكنها فضّلت أن تمشي بدلاً من أن تنتظر سيارة وسط ازدحام الخريف.
كانت خطواتها مسرعة، لكنها تمشي وكأنها تهرب من شيء... أو من أحد. المدينة بدت كأنها تراقبها بصمت، كل مصباح يُطفأ كان يضيف شيئًا من الغموض للمشهد، وكأن المدينة تطفئ أضواءها احترامًا لحزنها.
الهواء حمل معه رائحة التراب المبلل، وكانت تلك الرائحة تعيد لميرال شيئًا من الطفولة... من بيتها القديم الذي تركته خلفها منذ ثلاث سنوات، منذ أن انكسر شيء في داخلها ولم يُصلَح بعد.
عبرت الشارع بخطوات حذرة، تحاول أن توازن بين الأوراق التي كادت تسقط من يديها، وبين حقيبتها التي كانت تترنّح على كتفها.
في الجهة المقابلة، كان كرم يراقبها دون أن تدري. لم يعرف اسمها، لكنه رآها قبل أسبوع في مكتبة الجامعة، وكانت تناقش البائع حول سعر رواية. كانت مختلفة في حديثها، في عينيها، وحتى ضحكتها الخفيفة. بدا وكأنها تنتمي لعالم آخر.
كرم لم يكن فقط يراقبها، بل كان يحاول أن يفهم لماذا ينجذب إلى هذه الغريبة. شيء فيها يشبه الحنين… يشبه الوجع الصامت. عيناها فيهما مساحات من الغياب، وكأنها ليست هنا فعلًا، بل في مكان آخر… أبعد مما يتصور.
اقترب منها وهو يحمل كوب قهوة ورقي: — "نفسك تضيعي كل يوم بهالشارع؟ ولا صدفة سعيدة؟"
رفعت رأسها فجأة، وعلى وجهها علامات التعب والانزعاج: — "مش وقت تعارفات، مزاجي مش رايق." — "ماشي… بس أنا مش غريب، شفنا بعض بالمكتبة قبل أسبوع. الرواية اللي كنت تبكي عشان تخفيضها… كنت وراك."
ضحكت ببطء، وكانت تلك الضحكة بداية كسر الحواجز بينهما.
ضحكتها ما كانت عادية، كانت زيّ الضوء اللي بيطلع فجأة بآخر النفق.
لكنها سرعان ما سحبت ضحكتها، كأنها تذكّرت شيئًا ممنوعًا. نظرت نحوه بفضول وخوف:
— "شو بدك بالضبط؟"
— "ولا إشي... بس حبيت أذكّرك إنك مو لحالك بهالعالم."
صمتت. لم تكن معتادة على هذا النوع من الكلام… كانت معتادة على الانسحاب، على الصمت، على أن تكون “الفتاة اللي ما بينتبهلها حدا”.
لكن هذا الشاب… كأنه يرى شيئًا فيها لا تراه هي نفسها.
نظر إلى يديها المرتجفتين، ثم مدّ كوب القهوة: — "خدي، بتحبيه بدون سكر؟"
أخذته بتردد، ورفعت حاجبيها: — "كيف عرفت؟"
ابتسم: — "كل اللي بيحبوا الكتب ما بحبوا السكر الزايد… يمكن عشان الحياة مرّة كفاية."
ضحكت مرة ثانية، لكن هذه المرة أقرب للصدق. وسارت بجانبه دون أن تقول شيئًا.
ظلّا يسيران معًا نحو المحطة، خطوات هادئة، كأن بينهما ألف حديث غير منطوق. تحدث كرم عن الجو، عن المطر، عن رغبته في السفر، بينما كانت هي ترد بكلمات قليلة، لكنها بدأت تُصغي، حقًا تصغي.
مرّا أمام بائع ورد، فتوقّف كرم فجأة: — "تحبي الورد الأبيض؟"
أجابت بسرعة: — "بحب كل إشي صامت… والورد الأبيض ساكت، بس صوته عالي."
اشترى زهرة واحدة، وناولها إياها: — "هي مش هدية… هي تذكار للّحظة. يمكن تنسي شكلي، بس يمكن تذكري الوردة."
نظرت للوردة، ثم له، ثم للسماء.
لحظة عابرة… لكنها حفرت أثر.
في تلك الليلة، عادت ميرال إلى غرفتها الصغيرة في سكن الطالبات، ووضعت الوردة في كوب ماء بجانب سريرها. نظرت إليها طويلًا وهمست لنفسها: — "شو اللي صار؟ وليش حسيته… قريب؟"
ثم فتحت دفترها، وكتبت جملة واحدة:
> "اليوم، حدا لمحني… وكأنني موجودة."
وفي الجهة الأخرى من المدينة، كان كرم ينظر إلى السماء من شرفة غرفته، وهو يردد بينه وبين نفسه:
> "عينيها ما كانت بتشبه ولا شي شفته قبل... وكان في وجع، لساتني حاسّه."
ومن هنا…
بدأت الحكاية.
Comments