في زاويةٍ باردةٍ من ملجأٍ ملئ بالألم ، كانت إيميلي تجلسُ تحت غطاءٍ مهترئٍ، تضمُّ بين ذراعيها قميصَ والدها كأنها تحتمي بظلِّه، تحاول أن تخدع قلبها بأنه ما زال هنا… أنفاسه لم تغب، ودفء كفيه لم يتلاشَ بعد.
كان غيلبرت، أخوها الوحيد، يجلس إلى جوارها، يحاول أن يكون أقوى منها، يخفي دموعه تحت ملامح الصبر الكاذبة، ويربت على كتفها قائلاً:
"سيعود أبي… لا بدّ أن يعود."
لكنّ الغدَ جاء قاسيًا، وأقسى ما فيه أن غيلبرت لم ينهض. وُجِدَ جثمانه هامدًا، وبجانبه ورقة خُطّت بارتجاف:
"أبي لن يعود… ولا الأمل."
انفطر قلب إيميلي، لكنها لم تمت كما مات أخوها. وبدلًا من ذلك، وُلد في داخلها شيءٌ مختلف… شيءٌ أشبه بالجمر تحت الرماد.تركت ايميلي الملجأ لأنها كانت كبيرة كفاية لكي تهتم بنفسها ولكنها خرجت تاركة جثمان السبب الذي جعلها تذهب الي الملجأ من اجله.
أصبحت تراقب. تُدوِّن. تُخفي الصور والحقائق تحت ملابسها البسيطة. تسللت خلف الأبواب، استمعت إلى أحاديث الجنود، جمعت الوثائق، وكأنها طفلةٌ صنعت من حزنها ثورة .
لم تكفي بالسكوت بل كانت تُنشر الوعي في سرٍّ بالغِ الدقة، تُحادث القلوب المستيقظة، وتوقظ النفوس التي لم تُطفئها الخيبة بعد. اتسع الدّرب، وكثر الرفاق، لكنهم بقوا في الظل، ينتظرون ساعةً لا يُعلَن عنها، ساعةً يشتعل فيها النور دون سابق إنذار.وكانت تقول دائما علي صورة والدها
"سيعلمون ذات يوم أن دموع الأطفال لا تجف، بل تشتعل."
إيميلي كانت تجلس كل يوم في المكتبة المهجورة، تطالع الصحف القديمة، تجمع أسماء، تواريخ، تحلل الكلمات المخفية، تكشف التضليل.
كانت تحمل كشكولًا سريًا تسجل فيه كل ما تقرأه، تسميه:
> "سِجلّ الحقيقة".
كلما وجدت خبرًا يمجّد الملك، كانت تكتب تحته:
"الكاذب لا يبني وطنًا، بل يقف فوق جثث أبنائه."
ذات يوم، قابلت شابًا يُدعى راي، كان يعمل في مطبعة حكومية. أعجبه ما تكتبه، وقرر مساعدتها. طبع لها منشورات صغيرة توزعها على كبار السنّ، على باعة الخبز، على أولئك الذين يظنون أن الموت قَدَر، لا صناعة بشرية.
أصبحت إيميلي صوتًا خفيًا في القرية.
كانوا يطلقون عليها سرًا: "ظلّ الحقيقة".
جلست على سريرها ذات ليلة، تمسك بكوفية أخيها الصغير.
لم تبكِ، بل كتبت له في مذكرتها:
"غيلبرت... لم يعد وجودك معي، لكنه أصبح سببًا لكل شيء.
لن أنسى. لن أسكت.
كل من ظن أن الأطفال لا يغيّرون العالم، لم يكن يعرف أن الضعف نارٌ... إذا اشتعلت، حَرقت القصور.". وفي الجانب الآخر في القرية ، كانت
امرأة عجوز تقرأ ورقة وجدتْها على الأرض، مكتوب فيها:
"من يرضى بالذل مرة، سيُدفن فيه ألف مرة."
تبتسم وتخفي الورقة ، وتقول:
– "ربما لم أنتهِ بعد."
وفي نهاية اليوم، كانت إيميلي تضع منشورًا جديدًا داخل صندوق صدئ أمام أحد البيوت.
كتبَت فيه:
"حين لا تجد أحدًا يصرخ معك... لا تصمت، بل اصرخ بصوتين."
ثم غادرت، وابتسامتها تتحدى سواد المدينة. و
في أحد الأزقّة الضيقة، كان الرجل العجوز جالسًا على كرسيه الخشبي القديم، نفس الكرسي الذي قضى عليه سنواتٍ طويلة من المراقبة والصمت.
كان يمسك سيجارته، وقد أطفأ نصفها تحت قدميه.
أمام عينيه، تمرّ إيميلي سريعًا، تضع ورقة في يد عجوزٍ آخر ثم تمضي.
ابتسم الرجل، وسحب نفسًا من السيجارة ثم قال:
"أخيرًا... ظننا أن الموتى فقط هم من يصمتون، لكن يبدو أن الحياة كانت تنتظر فتاة صغيرة تكتب بصمت، بدل أن تصرخ بلا صدى."
فتح جريدته القديمة، قلبها للصفحة الأخيرة، وقام بتمزيقها لأول مرة منذ سنوات.
ألقى القصاصة في النار وقال:
"من اليوم، لن أقرأ كذبهم بعد الآن... سأقرأ ما تكتبه هذه الفتاة."
ونظر الي كلبه الاليف بإبتسامة .
10تم تحديث
Comments