الفصل الثاني : وجوه من طين

في قلعة مترفة، تلمع جدرانها بالذهب، وتتزين  أرضها برخام ناعمٍ بلون الدم، جلس "لوكاس"، الملك الذي لا يرمش أحد  إلا إذا أمر، على عرشٍ عظيم من العاج المرصّع بالألماس. العرش لم يكن مجرد مقعد، بل إعلان دائم علي النفوذ والطغيان

كان الحُراس يحيطون بالمكان من كل الجهات، بوجوهٍ خالية من الرحمة، وأيدٍ لا تعرف التردد. ومن بين صفوفهم، جُرّ شابٌ نحيل الجسد يدعي "كول"، بثيابٍ ممزقة وجروح لا تنتهي، ليُساق قسرًا إلى أسفل العرش.

جلس الشاب على ركبتيه، لا خيار له في الوقوف، ولا كرامة يُسمح له أن يتكئ عليها. بين سيفين حادّين يُحيطان به من اليمين واليسار، سأل الملك بصوته الجافّ المليء بالغطرسة

– "أأنت من سرّب معلومات جيشي؟ هل أفصحت عن عدد الذخائر والدبابات؟"

أخفض الشاب رأسه، لا خوفًا، بل يأسًا، وقال:

– "نعم، يا سيدي."

صمتَ الملك قليلًا، ثم انحنى بجسده الغليظ للأمام وسأله بنبرةٍ أكثر قسوة:

– "أأنت من فجّر الدبابات؟ أأنت من زرع الشك في صفوفنا؟"

أجابه الشاب بنفس الصدق المنكسر:

– "نعم، يا سيدي."

كان يعلم أن الكذب لن ينقذه، وأن الصدق لن يُعفيه. فقد كان الموت هو الحكم في الحالتين… لكن الملك لم يرد الحقيقة، بل أراد اعترافًا موثّقًا بالصوت، ليُهدّئ به عقول الجهلاء، ويُبرّر أمامهم أنه ليس قاسيا ، بل رحيم يُعدم الخونة فقط إن اعترفوا.

كان الشاب يعرف ذلك… لكنه لم يبكِ، لم يسترحم، بل أغلق عينيه في صمتٍ، كأنه يُسلّم روحه قبل أوانها… وكأن الجروح في جسده كانت تمهيدًا لجراحٍ أكبر.

وكان الشاب جالسًا في قفصه، كطائرٍ بلا جناحين، لا يعرف للحرية طَعمًا، تحاصره نظرات الحرس من كل اتجاه.

في يديه أصفاد حديدية، تضيق على معصميه كما تضيق الحياة على قلبه، وتُجرحه كأنها تستنسخ الجُرحَ ذاته في داخله، ذاك الجُرح الذي خلفه فِراقه عن أمه العجوز، تلك المرأة التي لا تملك من الحياة إلا هو، فهو ابنها الوحيد ومصدر رزقها.

لم تكن تجيد من العمل سوى الخياطة، وبصرها المرهق بالكاد يسمح لها بإدخال الخيط في ثقب الإبرة، إلا إذا أتى ابنها ليساعدها بابتسامته ويده الدافئة.

جاءت إليه بعد توسلات طويلة حتى سُمح لها بلقاءه، وكانت تُدعى "كلارا".

دخلت إليه بقلبٍ مكسور، لا تعرف كيف ترفع عينيها في وجهه. جلست بصمتٍ أمامه، تتأمل ابنها المكبّل كالغريب.

قالت بنبرة مُهزومة:

"كان من الأفضل لك يا بني أن تُكمل مهمتك في الجيش بصمت، لعلّك كنت ستعود إليّ… فأنت كل ما أملك في هذا العالم القاسي."

وانسابت دموعها في صمت على وجنتيها وهي تهمس:

"من سيعولني بعدك؟ من يرفع رأسي ويحنو على ضعفي؟"

أما كول، فكان يبكي بصمت، دون أن يقدر على النطق بحرف.

القيود في يديه كانت أرحم من الكلمات في قلبه.

ثم أخرجت من حقيبتها القديمة سترة صوفية رمادية، خاطتها له بيديها المرتعشتين.

وقالت برقة:

"صمّمتها لك، كي لا تجلس في هذا البرد وحدك … عندما ترتديها، تذكرني يا بُني."

قامت كلارا، وغادرت وهي تبكي، تسلّم أمرها لله، بعدما سلّمت ما كان يهون هذه الحياة القاسية عليها للقضبان.

في ساحة واسعة تُشبه الميادين التي تُقام فيها الاحتفالات الملكية، نُصِبَت منصة عالية، وحولها الحشود المتفرجة التي لا تدري أتبكي على من يُقتل؟ أم تصفق للنجاة من مصيره.

وقف كول، ذلك الشاب النحيل، في وسط المنصة، في يده سترة صنعتها أمه، تمسك بها كأنها آخر ما تبقّى له من الحياة.

لم تكن الأصوات عالية، لكن الصمت كان أثقل من أي ضجيج… صوت الرياح وحده كان يروي الحكاية.

صعد الجلاد، حاملاً سيفًا مزيَّنًا بنقوشٍ ملكية، وعلى الجانب جلس الملك لوكاس، يتظاهر بالعدل، متشحًا بهيبةٍ زائفة، يخاطب الحشد:

"قد اعترف بخيانته، وقد منّ الله علينا بحكمة، أن نردع كل من يُفكّر بالخروج عن طوع الوطن."

ثم أشار بيده، وأطلق القرار...

نظر كول إلى السماء، لم يكن خائفًا، بل كان وكأن الموت صار له خلاصًا من عالم لم يرحمه.

أغمض عينيه، وردد في قلبه دعاءً لا يسمعه غير الله…

وما إن هبط السيف، حتى عمّ المكان صمت مميت، تلاه تصفيق بارد من المنافقين.

لكن بعيدًا، عند زاوية الساحة، جلست امرأة مسنّة… تشهق، لا تبكي… فقد تجاوزت الدموع.

"في زمنٍ تُقطع فيه الرقاب باسم العدالة، تصبح الخيانة هي الصدق الوحيد، وتصير دموع الأمهات شاهدة على وطنٍ لا يرحم أبناءه."

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon